المادة كاملة    
- يبان أن الأعمال تتفاضل بما يقوم في قلوب فاعليها من الخشوع والإخبات واليقين والإخلاص، أكثر مما تتفاضل بما تتلبس به جوارحهم. - إيضاح الفرق بين من يخطئ وله من الإحسان ما يشفع له، وبين من لا يكون له إذا بدرت منه هفوة من المحاسن ما يغطي تلك الهفوة. - كلام نفيس لابن القيم عن حديث قاتل المائة، وحديث البغي التي سقت الكلب، وحديث البطاقة التي طاشت بسجلات الذنوب.
  1. فضل اقتران الذنب بالخوف والحياء

     المرفق    
    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بك اللهم من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
    أما بعد:
    فلا زلنا في الحديث عن هذه الكلمات الخيرات في فقه التربية، أو فقه التزكية؛ لأن الله سبحانه وتعالى سماها تزكية حيث قال: ((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا))[الشمس:9].
    هذه الكلمات التي ذكرها الشارح رحمه الله تعالى نحتاجها جميعاً، ونحن -طلبة العلم- أحوج ما نكون إليها، وهي من قوله: (ولكن ثمة أمر ينبغي التفطن له..). وقد تعرضنا لشرحها، وقلنا: إن بعض الذنوب والمعاصي التي يقع فيها العبد ربما تكون سبباً في تغيير خط حياته بالكلية، وتحوله من طريق الضلالة والغواية والفجور إلى طريق السنة والهداية والتقوى.
    وذكرنا على ذلك أمثلة ونماذج مما ثبت وصح، ومما ذكره العلماء -أيضاً- من أخبار التائبين من كتاب: التوابين للإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى في بيان فضل وأثر اقتران الذنب بالحياء والخوف إن وقع من العبد. كما ذكر الشيخ أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وبخلاف ذلك وضده تماماً: الصغيرة قد يقترن بها من قلة الحياء، وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر.
  2. أهمية أعمال القلوب في تفاضل الأعمال

     المرفق    
    ثم قال رحمه الله: (وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل). وهذه حقيقة عظمى من حقائق الإيمان؛ ولهذا يجب أن نعلم جميعاً أن أعمال القلوب هي الأفضل وهي الأساس، وهي أصل كل الأعمال، أما أعمال الجوارح فقد يشترك فيها الناس، ومع ذلك فهم متفاوتون في أعمال القلوب.
    ومن أوضح الأمثلة على ذلك: الصلاة، حيث يقف الناس جميعاً خلف الإمام، ولكن بين هذا وهذا في الأجر والمنزلة والدرجة والثواب الفرق الكبير والبون الشاسع؛ وذلك بأعمال القلوب، وأما أعمال الجوارح فإنهم كرجل واحد في متابعة الإمام، لكن تجد هذا يصلي بخشوع وحضور قلب واطمئنان، وتأمل وتدبر، وتفكر في آيات الله تبارك وتعالى المقروءة، فهذا حاله غير حال ذلك الذي يصلي بلا حضور قلب وبلا خشوع واطمئنان؛ بل ربما كان هذا أقل منه بكثير جداً.
    وكذلك الحال في الجهاد، فليس الجهاد بكثرة الإبلاء في العدو، وكثرة القتل فيهم، ولكنه بالإخلاص وبصدق النية مع الله سبحانه وتعالى، وإن كان حال المرء كما قال صلوات الله وسلامه عليه: {إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة}، فلا يبالي في أي موقع كان.
    وكذلك الصدقة والنفقة، ليست العبرة بكثرتها ولا بمظهرها، ولكنها بحقيقة إيمان صاحبها وصدق يقينه، وإخلاصه وتجرده عن الدنيا، وبذله ما أعطاه الله وجعله مستخلفاً فيه في سبيل الله، ولهذا قال صلوات الله وسلامه عليه: {سبق درهم ألف درهم}، فدرهم يتصدق به الإنسان وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويرجو الغنى، وقد لا يكون لديه فضل مال غيره خير من ألف درهم، بل خير من آلاف الآلف إذا كانت تعطى من غير نية صادقة، خالصة لله، ومن غير هذه الصفات التي اجتمعت في الأول، والناس في ذلك متفاوتون على مراتب ودرجات.
    فأعمال القلوب كما قال رحمه الله: (وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره).
  3. عفو الله تعالى عن صاحب الإحسان العظيم ما لا يعفو لغيره

     المرفق    
    ثم قال: (وأيضاً: فإنه قد يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره). وهذا أمر آخر، فالقضية إذاً ليست قضية ذنوب أو معاصٍ ارتكبت، أو حرمات انتهكت، فإن هذه تقع، لكن وقوعها من شخص غير وقوعها من آخر. وهذا أمرٌ آخر، ومقامٌ آخر من المقامات التي نعرف بها اختلاف الناس في ذلك؛ فبعض الناس -كما أشرنا- قد يكون ذنبه سبباً لهدايته، ويكون حال التائب من هذا الذنب أفضل من حال ذلك المطيع المستقيم الذي قد يدل ويعجب بطاعته -هذه حالة-. الحالة الأخرى: أن وقوع الذنب من هذا غير وقوعه من ذاك، وهذا كثيراً ما يغفل عنه بعض الناس، فإذا رأى أن أحداً من أئمة هذا الدين قد أذنب -قد يكون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من دونهم- فإنه يقول: أليس من الصحابة من فعل كذا وكذا؟ فأنا أفعل مثله، ونسي هذا المسكين أن البحر العظيم المتلاطم من الحسنات مهما ألقي فيه من النجاسات فإنها لا تضره، وأما ذلك المسكين الذي ليس لديه إلا إناء صغير، فإن أقل نجاسة تنجسه كله، وهو مع ذلك يقارن حاله بحال غيره في المعصية فقط. وبعضهم يتتبع رخص العلماء فيقول: قال بعض الصحابة: إن الربا نوع واحد، وبعضهم يقول: إن بعض العلماء أباح الغناء، واستماع الصوت مثلاً، ويقول الآخر: إن بعض العلماء أجاز النبيذ أو شيئاً من ذلك.. فهذه رخص العلماء، التي هي مخالفة للدليل الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال العلماء: من تتبع رخص العلماء تزندق؛ لأنه يجمع الرخص من هنا ومن هنا فيخرج وقد أصبح زنديقاً والعياذ بالله! فلو اتبع كل واحد من الناس ما ترخص فيه بعض الأكابر والفضلاء لما بقي له من الدين شيء، فكيف يقرن الضعيف المسكين -الذي لا فضل له ولا جهاد ولا سابقة- عمله بعمل أولئك؟ بل حتى الأكابر والفضلاء أنفسهم يكون التفاوت بينهم والعقوبة والمؤاخذة بحسب درجاتهم وفضلهم.
    1. عفو الله تعالى عن موسى عليه السلام لعظيم عبادته وإحسانه

      وهذا الكلام من قوله: (ولكن... إلى قوله: وغيره)، منقول بنصه من مدارج السالكين، الجزء الأول (صفحة 328)، وعقب هذا الكلام يذكر شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله كلاماً لشيخه الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ ليدلل به على كلامه المذكور؛ فيقول: (وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: انظر إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه...) يدلل على أن الذنب من هذا غير الذنب من ذاك، وهذا بين الأنبياء فكيف بمن كان صحابياً أو تابعياً، أو كان له عند الله تعالى منزلة، ويأتي من لا قيمة له فيجعل نفسه مثله؟! فالتفاوت بين هذا وهذا أعظم.
      يقول: (انظر إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه، رمى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها، وجر بلحية نبي مثله) وهو هارون، ولهذا قال: ((لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي))[طه:94] ((إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي))[الأعراف:150]، قال: (ولطم عين ملك الموت ففقأها) والحديث في الصحيح، لطم عين ملك الموت وقد جاءه بالحق، والله سبحان وتعالى إنما يبعثه ويرسله بالحق، ولا مناص ولا فكاك لأحد من الموت، ولكن نبي الله تبارك وتعالى موسى يلطمه! يقول: (وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمد صلى الله عليه وسلم ورفعه عليه).
      كيف لو بدرت هذه الأعمال من أحد؟! لو أن أحداً ألقى كلام الله، والله سبحانه وتعالى إنما أوحى إلى موسى أنه سيكرمه ويصطفيه: ((وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا))[الأعراف:155]، وذهب صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى حيث أراد الله سبحانه وتعالى، وصعد إلى الجبل، وكلمه الله تبارك وتعالى، وأوحى إليه الكتاب الذي هو التوراة، التي جعلها الله سبحانه وتعالى فاصلاً ومعلماً عظيماً بين عهدين كبيرين من عهود التاريخ الإنساني.
      هذان العهدان -كما قال بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم- هما:
      العهد الأول: عهد إهلاك الأمم، وقد أهلكت الأمم، ولم يكن لله تبارك وتعالى كتاب باقٍ محفوظ، فقد أنزلت الصحف على إبراهيم عليه السلام ولكنها لم تبق، وأما ما أنزله الله تبارك وتعالى على داود، وهو الزبور: ((وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً))[النساء:163] فإنما نزل بعد التوراة.
      فبعد أن أنزل الله تبارك وتعالى التوراة لم يهلك أمة بأكملها، قال تعالى: : ((وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى))[القصص:43]، أي: القرون التي قبل التوراة، وهذه مرحلة عظيمة جداً لهذا الكتاب؛ ولهذا فإن فرعون أهلك قبل نزول التوراة؛ فقد أهلك أثناء خروج موسى عليه السلام وقومه من مصر، فلما عبروا البحر إلى الصحراء، ((فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ))[الأعراف:138]، وكانت القصة المعروفة التي قصها الله تعالى في كتابه الكريم.
      ثم كانت دعوتهم إلى دخول الأرض المقدسة، ثم قولهم: ((فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ))[المائدة:24]، ثم ضرب عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض -عياذاً بالله-، وفي جبل الطور أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه، وألقى إليه هذه الألواح -هذا الكتاب العظيم: التوراة-.
      ولما عاد إلى بني إسرائيل، لم يكن يعلم أن الله قد فتن قومه من بعده، فلما علم بذلك ألقى الألواح من شدة الغضب، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، ولا شيء في الدنيا أعظم وأفضل من تلك الألواح؛ لأنها كلام الله عز وجل وكتابه الذي أنزله إليه.
    2. محاجة آدم لموسى عليهما السلام

      ثبت في الصحيحين حديث محاجة ومخاصمة موسى وآدم عليهما السلام، وكانت بداية الخصومة من موسى -وهذا مما يؤخذ ضمن الشواهد هنا- فقد قاله موسى لآدم صلوات الله وسلامه عليهما قال: {أنت آدم الذي خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة! فأجابه آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته، وبكلامه، وخط لك التوراة بيده!}.
      كل منهما يعرف قيمة الآخر، والكرام يعاتبون بما فيهم من خلال الخير، وبما فيهم من الفضائل والمحاسن.
      لو أن أحداً ألقى المصحف على سبيل الإهانة له لكان كفراً بلا ريب، لكن أين هذا الفعل من فعل نبي الله تبارك وتعالى موسى؟ لقد فعله موسى صلوات الله وسلامه عليه غضباً لله، ألقاها لأنه لم يعد يملك نفسه؛ ألقاها ليعاقب أخاه توهماً أنه هو السبب الذي أتاح لهم ذلك، لم لم تلحقني وتخبرني بما فعلوا؟ فبين هارون عليه السلام له عذره: ((إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي))[طه:94] وكل له اجتهاد.
      الشاهد: أن ذلك وقع من نبي الله صلوات الله وسلامه عليه، وأيضاً فإنه جر لحية نبي مثله، وقد جعله الله وزيراً ونصيراً ومعيناً، وأفصح منه لساناً، وقام معه في الدعوة إلى الله، وعادة الكرام وطبعهم أن من صحبك وعاشرك وأعانك أنك لا تسيء إليه، وموسى صلوات الله وسلامه عليه من أفضل الكرام، ولم يخالف طبعهم، لكنه عند الغضب لله عز وجل هانت عنده هذه الأمور، نسي الألواح، ونسي قدر أخيه؛ غضباً لله سبحانه وتعالى وجهاداً فيه.
      وأما عين ملك الموت فإنما لطمها بناءً على هذا.
    3. مواقف موسى عليه السلام وصدعه وصبره.. كل ذلك كان سبباً في عفو الله تعالى عنه

      يقول الشيخ: (لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعتى عدو له، وصدع بأمره، وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة، فكانت هذه الأمور كالشعرة في البحر).
      له مقامات ومواقف، من الذي استطاع أن يقف أمام فرعون الذي ادعى الألوهية فقال: ((مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي))[القصص:38] وادعى الربوبية: ((أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى))[النازعات:24] وقال: ((أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي))[الزخرف:51] عياذاً بالله؟! لم يتجرأ أحد على التلفظ بمثل هذا، وبهذه القوة والعناد؛ ولهذا لم يتحدث الله تبارك وتعالى عن عدو من أعدائه كما تحدث عن فرعون.
      ومع هذا الطغيان، فإن أمة القبط كانت خانعة وخاضعة له، وأما بنو إسرائيل فقد كانوا عبيداً عند الأقباط، يستضعفونهم، ويستحيون نساءهم، ويذبحون وأبناءهم، فليس لهم أي قيمة؛ فيأتي هذا الرجل -موسى عليه السلام- وهو وحده، إلا أن الله تعالى جعل معه أخاه هارون وزيراً، يأتي ويواجه هذا المجرم ويناظره ويجادله، ثم يبلغ به من قوة إيمانه ويقينه وتوكله على ربه، وثقته بما يوحي إليه أن يقول: ((مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى))[طه:59] يطلب أن يكون اللقاء في يوم العيد، وأن يجتمع الناس جميعاً؛ ليروا أأنا على الحق أم أنت يا فرعون؟!
      وهذا الأمر لا يطيقه إلا من كانت ثقته وقوة إيمانه بالله سبحانه وتعالى ويقينه قوياً، ثم تكون له الغلبة والنصر!
      لقد عالج عليه السلام ما عالج من أمر أولئك الأمة العتية التي كتب الله سبحانه وتعالى عليها غضبه، وضرب عليها الخزي والذل أينما حلت وسارت، أمة بني إسرائيل العتاة، غلاظ الأكباد، عبدة الدرهم والدينار، هؤلاء الذين يرون آيات الله سبحانه وتعالى عياناً ثم ينكرونها، ويجحدون ويكابرون.
      مع أن الله سبحانه وتعالى قد أنعم عليهم بنعم كثيرة، فقد أنزل عليهم المن والسلوى، وأنجاهم من آل فرعون بعدما كانوا يفعلون بهم ما يفعلون، وقبل تبارك وتعالى توبتهم لما عبدوا العجل، ولما نتق فوقهم الجبل وتابوا رفع عنهم العذاب، وطلبوا ما هو أردأ، استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير... حتى بلغ بهم الأمر أن قتلوا الأنبياء بغير حق.
      أي أمة أعتى وأشد في الكفر والجحود والعناد من هذه الأمة؟!
      كتاب الله بين أيديهم، فحرفوه وبدلوه، وافتروا على الله تبارك وتعالى الكذب، ويكتبون الكتاب بأيدهم ويقولون: هذا من عند الله وما هو من عند الله، ويأكلون بهذا الكتاب ثمناً قليلاً، يأكلون السحت والربا، وقالوا في مريم وعيسى بهتاناً عظيما، وقالوا في محمد صلى الله عليه وسلم إفكاً مبيناً.
      وكم نذكر من ذنوبهم؟!
      وإن الذي عالج هذا وتعب منه أشد التعب والمعاناة هو نبي الله تعالى موسى؛ فقد أخبر الله عنه فقال: ((يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ))[المائدة:21] أي: أن النصر مضمون، ادخلوا، ولكنهم ردوا عليه: ((فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ))[المائدة:24]، نعوذ بالله! أيقول هذا مؤمن بالله سبحانه وتعالى؟!
      وكلما أمرهم بأمر أو نهاهم عن نهي يبدلوه؛ حتى إنه لما قيل لهم: ((ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ))[البقرة:58]، قالوا: حنطة، استهزاءً وسخرية! فهذه الأمة عالج منها صلوات الله وسلامه عليه ما عالج، وتعب، وبذل ما بذل، من أجل أن تهتدي إلى الحق.
      فصبره مع فرعون، ومع هذه الأمة، ويقينه بالله الذي ما فارقه، لما أمره الله تبارك وتعالى وبني إسرائيل أن يخرجوا؛ فخرجوا وأتبعهم فرعون بجنوده، فلما رأوا الماء أمامهم، والعدو خلفهم ((قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ))[الشعراء:61] أمة لا يقين لها في الله: ((قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ))[الشعراء:62]، هذا اليقين لا يأتي لكل إنسان، فكثير من القلوب تهتز وتضعف، وتتزلزل وتنهزم، وتبدأ تفكر كيف تنسحب وتستسلم وتعتذر، ولكنه قال: ((كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ))[الشعراء:62] ثقة بالله سبحانه وتعالى.
      وغيرها من المواقف العظيمة لهذا النبي صلوات الله وسلامه عليه، التي تذكرنا بمواقف أفضل رسل الله سبحانه وتعالى، وأكثرهم جهاداً في ذات الله محمد صلى الله عليه وسلم.
    4. موسى عليه السلام يعاتب ربه

      وكذلك قوله ليلة الإسراء يعاتب ربه سبحانه وتعالى: [أتبعث هذا الغلام من بعدي، وتجعل أمته أفضل من أمتي؟!].
      هذا أمر لا يقوله إلا من كان لديه من القرب من الله عز وجل ما يجعله يقول مثل هذا الكلام ويعاتب ربه عز وجل.
      يقول: (ومع ذلك فإن ربه تبارك وتعالى يحتمل له ذلك كله، ويحبه ويكرمه ويدللـه). هذه العبارة هي التي علق عليها الشيخ، وهي بيان أن هذا الإكرام له منزلة خاصة عنده، ولم يصف الله سبحانه وتعالى، أو يجعل من أسماء الله سبحانه وتعالى اسماً زائداً، وإنما هو تعبير.
      ويكفي أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى يكرمه ويعطيه ما يريد، ويسارع في هواه، ولا يؤاخذه بهذه الأعمال؛ رغم أنها مخالفة لما كان ينبغي أن يكون، كما وضحنا ذلك في حديث محاجته لأبيه آدم عليهما السلام.
    5. الكلام على محاجة آدم وموسى عليهما السلام

      وهذه القصة هل هي إخبار عما سيقع، أم أنها قد وقعت؟ الصحيح أنها قد وقعت؛ لأن ظاهر اللفظ أنهما تحاجا، فالمحاجة قد وقعت.
      والصحيح أنهما تقابلا والتقيا في دار البرزخ، وهذا ليس بغريب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم في معراجه قابلهما وسلم عليهما، وعلى غيرهما من الأنبياء؛ كيحيى وعيسى وإبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فهذا لا غرابة فيه، فلما حصل بينهما اللقاء عاتب موسى أباه آدم عليهم السلام.
      يا موسى! ما مضى مضى، أكل أبوك آدم من الشجرة، وغفر الله تبارك وتعالى له وتاب عليه، ثم جئت من بعده، وأنت الآن في جنة البرزخ، فما وجه المحاجة والمخاصمة؟
      إن محاجته ومخاصمته كانت في ذات الله عز وجل، لأنه في عالم البرزخ كما هو في عالم الدنيا، لا يقبل المخالفة أبداً؛ ولهذا قال له: خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة، كيف يحصل هذا منك؟! مع أنه أمر قد قضي؛ فكان الرد من الأب على الابن: {يا موسى! أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، وخط لك التوراة بيده، ألست تقرأ فيها أنه كتب علي أن يخرجني منها قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى }، حجه: أي: غلبه بالحجة، وهي قوله: كتب الله علي أني أخرج منها قبل أن أدخلها بأربعين سنة، وهذا -والله أعلم- هو الوارد في قوله تبارك وتعالى: ((هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً))[الإنسان:1]، الأربعين سنة، بين خلقه له وبين نفخ الروح فيه.
      نعم الإخراج من الجنة بسبب الذنب له حكمة عظيمة عند الله سبحانه وتعالى؛ حتى يعرف بنو آدم خطر الذنوب والمعاصي وإن هانت أو قلَّت، وأن يعرف الإنسان عدوه الشيطان الرجيم فلا يطيعه أبداً.. هذا هو عدوك الذي أخرجك من الجنة، وأخرج أبويك، ((إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ))[فاطر:6].
      لا يقول الإنسان: هذه معصية صغيرة، وذنب بسيط، فقد أحل الله له كل شجر الجنة إلا شجرة واحدة حرمها، فأكل منها طمعاً في الخلود وتغريراً من الشيطان، لاسيما أنه اقترن بذلك الأيمان المغلظة: ((وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ))[الأعراف:21] .
      وبعض الناس -والعياذ بالله- من أجل العافية والراحة، وطول العمر، تجده يقول لك: هناك ولي -لا يقولون: كاهن- من السادة إذا ذهبت إليه أعطاك بعض الأعشاب فلا يصيبك سرطان ولا مرض... وطوّل العمر، ويجعل الشايب يعود شباباً!!
      ما هي القضية وكيف يصنع؟! يكتب حرزاً تحفظه، وحاجات تمحوها وتشربها.
      وهذا الأمر سببه حب الخلود، فهو شايب ويريد أن يعود شباباً، ويتزوج امرأة شابة، فيقول: وهذه فرصة ويذهب! وما هذه إلا خدعة من الشيطان اللعين، فأول الأمر يخدعك به، ثم تذهب إليه فتصدقه بما يقول، ثم تكون النتيجة: {من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد}، النتيجة: الكفر والعياذ بالله!
  4. قوة موسى عليه السلام في الحق حتى مع نفسه

     المرفق    
    لقد كان موسى صلوات الله وسلامه عليه قوياً في الحق حتى مع نفسه، وهكذا دائماً كل من كان قوياً في الحق وصادقاً، تجد أنه قوي وشجاع حتى مع نفسه، وهكذا كان الأنبياء والرسل، والمجاهدون والصحابة والتابعون، ما كان أحد في هذه الأمة أشد هيبة من عمر رضي الله تعالى عنه كان إذا سلك فجاً سلك الشيطان فجاً آخر، ومع ذلك ما كان يستنكف أن يقال له: أخطأت، ولا أن يتراجع عن خطأ أخطأه، وهذا دليل على قوته وشجاعته، يتراجع ويستمع، ويقبل من يقول له ويوجهه.
    وتظهر لنا قوة موسى صلوات الله وسلامه عليه حتى مع نفسه في قصته مع الخضر عليه السلام، قال تعالى عنه: ((قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً))[الكهف:76]، سبحان الله! يقول النبي صلوات الله وسلامه عليه: {وددت أنه صبر حتى يطلعنا الله تعالى من أنبائهما}، إنها قصص عجيبة جداً! لكنها ما وقعت إلا ثلاث مرات فقط؛ لأنه لما وقعت الثانية حكم موسى صلوات الله وسلامه عليه على نفسه.
    ففي الأولى: ((قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً))[الكهف:72]، فكانت الأولى نسياناً: ((قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً))[الكهف:73]، وهكذا الكرام والمتأدبون وطلاب العلم.
    وأما الثانية: (( قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ))[الكهف:75]، فرأى أنه أخطأ: ((قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً))[الكهف:76]، أنت الآن معذور، ولك الحق أن تفارقني إن تجرأت عليك مرة ثالثة.
    لكن الثالثة فيها جوع وتعب وإجهاد، ومسافة طويلة، فقد نسي الحوت ورجع من أجل أن يأخذه، وقطع المسافات ذهاباً وإياباً، فأصابه الجوع والجهد، ثم يأتي إلى القرية اللئيمة فيقول: يا عباد الله! أطعمونا، فيأبون أن يضيفوهم، بل ينهرونهم.
    فلما أصبح موسى صلوات الله وسلامه عليه على هذه الحالة قال له الخضر: تعال نبني هذا الجدار، وورد في بعض الروايات في الصحيح أنه قال للجدار: قم، فقام بإذن الله، لكن الذي يرجح الروايات الأخرى أنه بناه وتعب؛ لأنه قال: ((لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً))[الكهف:77]، والأجر لا يكون إلا على شيء بذلت فيه جهداً، فالراجح هي الروايات الأخرى.
    فلما انتهيا من البناء ((قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً))[الكهف:77] قليلاً من الدراهم نأخذ بها طعاماً نسد به جوعنا، فكان كلامه هذا ترجياً ولم يكن اعتراضاً قوياً، ومع ذلك: ((قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ))[الكهف:78].
    فلم يقل له موسى لا؛ لأنه قد قال: ((إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي))[الكهف:76] فكان قد حكم على نفسه، فقبل الحكم، وهذه هي القوة التي أعطاه الله تبارك وتعالى في الحق لذات الله ولوجهه سبحانه وتعالى، وليست انتصاراً لحظ النفس أبداً.
    حتى عندما قتل القبطي: ((فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ))[القصص:15] ما قتله لحظ نفسه، بل قتله لأنه استغاثه رجل من بني إسرائيل اجتمع عليه الأقباط.
    فهذه قوته صلوات الله وسلامه عليه، قوة البدن والقلب واليقين، ومع هذه القوة كان له عند الله تبارك وتعالى من المنزلة والمكانة ما جعل إلقاء الألواح، وجر لحية أخيه، وعتابه لربه ليلة الإسراء والمعراج، وضربه ملك الموت، وعتابه لآدم، كل هذه لا تساوي شيئاً، ولم تكدر هذا البحر العظيم من المكارم والمناقب والفضائل والحسنات.
  5. سبب مؤاخذة يونس بن متى عليه السلام بذنبه

     المرفق    
    قال: (وفي المقابل.. انظر إلى يونس بن متى صلوات الله وسلامه عليه حيث لم يكن له هذه المقامات التي لموسى، غاضب ربه مرة، فأخذه وسجنه في بطن الحوت، ولم يحتمل له ما احتمل لموسى).
    كلاهما نبيان، لكن هذا دعا قومه إلى الحق فكذبوه؛ فذهب مغاضباً: ((فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ))[الأنبياء:87]، أين الصبر والتحمل؟ ألم يكن محقاً صلوات الله وسلامه عليه؟ بلى والله إنه لمحق، فما دعاهم إلا بما أوحى الله إليه، ولا دعاهم إلا إلى توحيد الله، ولا دعاهم إلا إلى طاعة الله، لكن لم غضب وذهب؟ بل عليه أن يصبر ويصابر، ولو لم يستجب له إلا واحد.
    فقال لهم: كيف أنذركم عذاب الله وتستهزئون بي، وتسخرون مني، إذاً: لا مقام لي بينكم، فذهب، وفي السفينة شهد على نفسه.
    قال القبطان: إن هاهنا رجلاً ارتكب ذنباً، فقال: أنا هو؛ فألقوه في البحر، قال الله تعالى : ((فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ))[الصافات:142]، ثم ذهب يجوب به، حوت عجيب! وما كان الناس من قبل يعلمون عن الحوت شيئاً إلا من أطلعه الله تبارك وتعالى عليه، أما الآن فحتى الكفار الذين لا يقرءون كلام الله يعجبون من عظم الحوت، وكبر خلقته، وحياته!
    ثم قال تعالى عن يونس: ((فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ))[الأنبياء:87]، أي: ظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، وظلمة البحر، فإن أعماق البحر ظلام مطبق؛ لأن شعاع الشمس لا يستطيع أن يخترق هذه المسافة الهائلة، التي قد تصل إلى عشرة كيلو مترات، وفي قعر البحر تعيش أنواع من الحيتان والأسماك، وبعضها لها شكل الفسفور الذي يضيء في ذلك الظلام مثلما تضيء الساعة.
    وفي قعر تلك الظلمات تسمع الملائكة تسبيحاً.. يا رب! صوت معروف في مكان غريب، الملائكة تعرف الصوت، لكن المكان غريب ما عهدناه، هل عهدنا أن إنساناً يسبح في ظلمات البحر؟ إذاً هم لا يعلمون الغيب.. كذب المخرفون، وكذب الصوفيون، وكذب المبطلون الذين يدعون أن أحداً غير الله يعلم الغيب، ولا والله لا يعلمون، ولكن الله سبحانه وتعالى يطلعهم: هذا عبدي يونس ذهب مغاضباً فعاقبته بذلك.
    ثم أراد الله سبحانه وتعالى أن يقذفه الحوت إلى البر، وأن ينبت عليه شجرة من يقطين، ويرسله إلى مائة ألف أو يزيدون، وكان لهذه الأمة موقف تميزت به عن بقية الأمم، المعروفة بالشر والغلظة والعتو والعناد والجحود، مع قوته صلوات الله وسلامه عليه، ونجد أن قوم يونس صلوات الله وسلامه عليه مع هذا الذي وقع فيه، ومع ضعف صبره، فإنه لم يكن من أولي العزم، ولا كموسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- نجد أن قومه بخلاف أولئك.
    فإن قومه لما رأوا العذاب تضرعوا إلى الله، فأخذوا النساء والأطفال والدواب، وخرجوا إلى الصعدات، وأخذوا يبكون ويتضرعون ويستغيثون: يا رب! يارب! حتى رحمهم الله سبحانه، فكشف عنهم العذاب في الحياة الدنيا، وهذه آية عظيمة من آيات الله تدلنا على فضل اللجوء إلى الله، وقيمة الضراعة إليه سبحانه وتعالى، وأنه إذا أهمك أمرٌ أو حزبك فالجأ إلى الله؛ لأن كل شيء بيده سبحانه وتعالى.
    ومهما بلغت الذنوب وكثرت فالجأ إلى الله سبحانه وتعالى ولا تخف؛ فإنه سينجيك، بشرط أن تتوب ما دام للتوبة مجال.
  6. شفاعة الأعمال لصاحبها

     المرفق    
    يقول ابن القيم رحمه الله: (ففرق بين من إذا أتى بذنب واحد، ولم يكن له من الإحسان والمحاسن ما يشفع له، وبين من إذا أتى بذنب جاءت محاسنه بكل شفيع، كما قيل في شعر العرب:
    وإذا الحبيب أتى بذنب واحـد            جاءت محاسنه بألف شفيع)
    ثم ذكر بعد ذلك كيف أن الأعمال تشفع لصاحبها، وذكر كلاماً قيماً نفيساً جداً من صفحة (329)، في حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، ولولا الإطالة لذكرناه لنفاسته ولأهميته.

    1. حديث البطاقة (لا إله إلا الله)

      قال: وتأمل حديث البطاقة الذي توضع في كفه، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر".
      كل سجل منها مد البصر! فيه ذنوب، وموبقات، ومعاصٍ، وغفلة، وإعراض، وغيبة، ونميمة، وقطيعة، وشتيمة.. كله ذنوب؛ فتوضع هذه السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فتثقل هذه البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله تعالى شيء، تثقل البطاقة لأن فيها اسم الله، وتطيش السجلات وكأن شيئاً لم يكن.
      يقول: (ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه، ولكن السر الذي ثقَّل بطاقة ذلك الرجل، وطاشت لأجله السجلات: لما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات، انفردت بطاقته بالثقل والرزانة).
      أي: لا يقول الواحد منا: هذا حديث عظيم، كلمة لا إله إلا لله ثقلت وطاشت بالسجلات، إذاً: نفعل ما نشاء لأن عندنا لا إله إلا الله، فنقول: القضية ليست قضية بطاقة فقط، هناك حقائق وأعمال للقلب، فمن الذي يستطيع أن يدعي أنه مع هذه السجلات لديه من أعمال القلب واليقين ما يجعل البطاقة ترجح؟
      ولهذا فإن هذه الحالات لشذوذها وخروجها عن القاعدة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كانت جارية على القاعدة لما ذكرها؛ لأن الجاري على القاعدة لا يحتاج أن يفرد بالذكر، وذلك كأن يقال: إن رجلاً رجحت حسناته على سيئاته فأدخل الجنة، لن يأتي حديث مثل هذا؛ لأن هذا معروف وقاعدة معلومة عند الناس، أما هذا الرجل فقد ذكر لغرابة حاله.
      إذاً: لا يأخذ من هذا الحديث أحد قدوة إلا في أمر واحد، وهو تحقيق التوحيد؛ لأن تحقيق معنى لا إله إلا الله هو الذي جعل البطاقة تطيش بالسجلات.
      ثم قال: (وإذا أردت زيادة الإيضاح لهذا المعنى؛ فانظر إلى ذكر من قلبه مملوء بمحبتك، وذكر من هو معرض عنك غافل ساهٍ، مشغول بغيرك، قد انجذبت دواعي قبله إلى محبة غيرك، وإيثاره عليك، هل يكون ذكرهما واحداً؟)
      سبحان الله! الله تعالى يقول في الحديث القدسي: {وإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم}.
      وأنت -ولله المثل الأعلى-ليس حال الذي يذكرك وتذكره مثل غيره، فالحالان مختلفان بسبب ما قام في القلب.
    2. قاتل المئة نفس وما قام بقلبه بعد توبته

      قال: (وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية، وحملته على أن ينوء بصدره، ويعالج سكرات الموت).
      وهذا يدل على أن التائب له عند الله تعالى منزلة عظيمة، وأنه يجب أن نتوب إلى الله كما أمر فقال: ((وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ))[النور:31]، وأنه يجب أن نحث الناس جميعاً على التوبة، فإن منزلة التوبة منزلة عظيمة مهما كانت الذنوب، وهذا الرجل وهو يعالج سكرات الموت يخاف أن يموت وهو في القرية الفاجرة، فينوء بصدره ويتحرك لكي يزحف ولو قليلاً؛ ليقرب من أرض التوبة والخير.
      فيا من أعطاك الله تعالى المهلة والعافية، والعلم والفراغ والوقت! ألا تتوب إلى الله سبحانه وتعالى، وإذا كان هذا يعالج التوبة وهو في هذه الحالة، أفلا نتوب نحن؟! جعلنا الله من التائبين الصادقين.
    3. قصة البغي مع الكلب

      قال: (وقريبٌ من هذا ما قام بقلب البغي التي رأت ذلك الكلب، وقد اشتد به العطش يأكل الثرى).
      القلوب لها مفاتيح، وسبحان الحي القيوم الذي خلقها هكذا! بعض القلوب لا تأتي من باب الصلاة ولا الصوم، تأتي من باب الشفقة والرحمة، مهمل في صلاته وطاعة ربه، لكن لو قلت له: هناك فقير، لانكسر خاطره، وسعى إلى جبره، وهذا باب من أبواب الخير يُفتح له.
      إذاً: أيها الداعية! ادخل عليه من هذا الباب؛ حتى يدخل إلى المسجد ويصلي ويصوم ويحج؛ لأن هذا الباب هو الأساس، وليس هناك أي مانع، المهم أن تعرف مفتاح قلبه.
      وإن من غفلة بعض الدعاة -وليس هذا من منهج النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته أبداً- أن له موقفاً واحداً، فكلما جاءه أحد قال له: ليس فيك خير، صل واتق الله.
      ولو كانت الدعوة هكذا لكان أمرها سهلاً، يحفظها أي أحد ويقولها لكل شخص، لكن الدعوة ليست هكذا، بل عليك أن تعرف أساليب الدعوة إلى الله، فهذا رجل تأتي من جانب العرض والغيرة..
      رجل غيور، يقاتل حتى لا يرى أحد امرأته أو أخته، لكنه مضيع للصلاة وللعبادة، فتدخل إليه من باب الغيرة، قل له: يا فلان! أنت -ما شاء الله- غيور، وهذه الغيرة من الإيمان، ولهذا ما رأيك أن تخرج من بيتك هذا المنكر؟ وهكذا تتدرج معه حتى يهديه الله تعالى.
      وهناك أناس تأتي إليهم من باب الإنفاق، وأناس من باب الشجاعة، فتقول له: أنت لا تقدر أن تقول كلمة الحق، هل أنت خائف؟ قل لفلان، وأنكر عليه، فإنه لم يستطع أحد أن يكلمه، فاذهب أنت وكلمه. فيقول: أنا أستطيع أن أكلمه، من يكون وماذا يكون؟! فيذهب ويكلمه، فهذا الرجل تدخل عليه من باب الشجاعة؛ فكيتب الله الأجر، وهكذا...
      وهذا ما فعله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأمثاله، فالداعية الحكيم ينظر إلى أحوال الناس، فلكل قلب مفتاح، أما الخطاب العام فلا ينفع في ذلك.
      هذه المرأة كانت بغياً وهناك فرق بين امرأة زنت وبين امرأة بغي، فالبغي: هي المحترفة والممتهنة لهذه الحرفة الدنيئة الدنسة التي تترفع عنها الحيوانات.
      وأشنع من ذلك فعل قوم لوط، ذلك الفعل الذي لا يفعله الحيوان، فضلاً عن أن تجد حيواناً يحترف ذلك، إلا الإنسان إذا انحط وسفل وترك دين الله، وكرامة الله التي أكرمه بها، وهي التمسك بالتقوى وبالطاعة.
      هذه البغي رأت كلباً اشتد به العطش حتى أكل الثرى، فقام بقلبها وازع الرحمة، مع عدم الآلة -فلم يكن عندها دلو- وعدم المعين -ليس عندها أحد يعينها- وعدم من ترائيه بعملها.
      وهذا ليس ولد فلان بن فلان، بل هو كلب لا يفهم ولا يمكن أن تمن عليه، فهذه صفات مبررات للقبول بإذن الله: ليس لها معين، ولا عندها آلة، ولا يوجد من ترائي أمامه أو تمن عليه، بل هو كلب لو مات فلا أحد يسأل عنه، ولا يعبأ به.
      فحملها وازع الرحمة في قلبها على أن غررت بنفسها في نزول البئر، فلو انفك أو انقطعت الشجرة التي كانت تمسك بجذعها، أو وضعت قدمها على حجر ضعيف، فإنها ستموت، فيقولون: ماتت من أجل الكلب، لكن حقائق الإيمان إذا قامت في القلوب فإنها لا تبالي، وهذا هو المعنى الحقيقي لقول المتنبي :
      وإذا كانت النفوس كباراً            تعبت في مرادها الأجسام
      النفوس الكبيرة هي التي عرفت قيمة الجنة، وأن سلعة الله غالية، وأنها لا تشترى بالضعف والمهانة والاستكانة، وإنما تشترى بقول الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالقيام مقام الأنبياء، وهكذا فليكن من أراد الجنة.
      فنزلت البغي وملأت الماء في خفها، ولم تعبأ بتعرضها للتلف، وحملها لخفها بفيها، والواحد منا لا يرضى أن يضع خفه أو شرَّابه في فمه، لكن كل هذه المعاني ذهبت؛ لأن أمامها غاية؛ لما قام في قلبها داعي الخشية والرحمة والشفقة نسيت كل هذه الاعتبارات، فحملت خفها بفيها حتى أمكنها الرقي من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق الذي جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب، من غير أن ترجو منه جزاءً ولا شكوراً، فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء؛ فغفر لها.
      فانظر حالها وحال الأخرى التي رآها النبي صلوات الله وسلامه عليه في قصة كسوف الشمس، وأخبرهم صلوات الله وسلامه عليه: أنه رأى الجنة ورأى النار، ورأى في النار امرأة تعذب في هرة، لا هي أطعمتها ولا هي أطلقتها حتى تأكل من خشاش الأرض، فهذه في النار تعذب، وهذه مع البغاء والزنا وامتهان هذه الحرفة الخبيثة غفر لها.
      إذاً: القضية ليست مجرد أن هذا أذنب أو هذا لم يذنب، فإن كل ابن آدم خطّاء، ولكن يجب عليك أيها العبد الصالح دائماً إذا أخطأت أو أذنبت أن تستحضر التوبة والندم والانكسار والحياء من الله سبحانه وتعالى، ومراقبة الله؛ حتى تعلم أن هذا الفعل بسبب أن الله أوكلك إلى نفسك، فإذا قامت هذه الحقائق بقلبك؛ فإن هذا الذنب سيكون بداية خير كثير.
  7. الإصرار على المعصية والمجاهرة بها وعدم استشعار مراقبة الله تعالى

     المرفق    
    ويقول رحمه الله تعالى في صفحة (181) في مسألة: لماذا التوبة وضرورة التوبة؟ ولماذا يكون المصر على الصغيرة أخطر وأكبر من التائب المقلع عن الكبيرة؟ لأن حالة الإصرار لا تخلو من أمرين، يقول: (الإصرار على المعصية معصية أخرى، والقعود عن تدارك الفارق من المعصية إصرار ورضاً بها وطمأنينة إليها، وذلك علامة الهلاك، وأشد من هذا كله المجاهرة بالذنب).
    منهم من يذهب -والعياذ بالله- يزني ويعربد ويفجر في مكان ستره الله عليه، وإذا به يأتي ويكتب ذلك في جريدة.. دخلنا مرقصاً وملهى، وفعلنا... فيقرؤه الملايين، أو يتحدث به في التلفاز والإذاعة... سبحان الله! كيف بلغ الشيطان من التلاعب بعقول بني آدم وإضلالهم؟ يستره الله ويفضح نفسه؟!
    فيقول: لماذا المجاهرة بالذنب مع تيقن نظر الله تبارك وتعالى من فوق عرشه إليك أيها المذنب؟! هذا إن آمن بنظره إليه، وأقدم على المجاهرة، فإنه جرم عظيم، وإن لم يؤمن بنظره إليه واطلاعه عليه فقد كفر.
    فالمذنب المجاهر المصر بين حالين، ليس هناك حال ثالث: إما أن يعتقد أن الله سبحانه وتعالى مطلع عليه ويراه وهو يعمل هذه الذنوب، ومع ذلك يعملها، فهذا جرم عظيم، ووالله إن العاقل لا يفعل هذا، فإن الإنسان يستحي أن يراه أحد على شيء يكرهه، فكيف بالله تبارك وتعالى؟!
    وأشد من ذلك إن كان يظن أن الله لا يطلع عليه ولا يراه، ولا يعلم ماذا يصنع، فهذا كفر، والكلام فيه مفروغ منه؛ لأنه مرتد.
    يقول: فهو دائرٌ بين الأمرين: بين قلة الحياء -في حالة إيمانه بأن الله يراه وينظر إليه- وبين الكفر والانسلاخ من الدين؛ فلذلك يشترط في صحة التوبة تيقنه أن الله كان ناظراً إليه، ولا يزال مطلعاً عليه يراه جهرة عند مواقعة الذنب، وهذا من جملة ما يشترط للتوبة.
    وأكثر الشباب -هداهم الله- بل أكثر الناس الذين أخطئوا الطريق، إنما جاءتهم التوبة لما استشعروا هذا الأمر، يفكر أحدهم ويقول: كان الله تبارك وتعالى مطلعاً علي ويسمعني، ثم يحلم علي ويمهلني! وقد قرأنا قصة تلك المرأة التي عبرت ذلك التعبير العادي جداً، لكن فيه عبرة عظيمة: هذه الأقدام التي مشت يعلم الله أين مشت، سبحان الله! ذهبت اللذات وبقيت التبعات، تذكرت أين اللذات، سهرة .. مشاهدة فيلم فاسق أو مجلة .. خلوة بأجنبي.. معاكسة في التلفون، وهذه كلها إن كانت ملذات -مع أنه لا يستلذ بها إلا القلب المريض- فقد ذهبت وانقضت.
    وأي شخص تمتع فإن متعته قد ذهبت وانقضت، وهو يشعر بهذا الشعور، إلا إذا كان مثل ذلك الفاسد صاحب مرض (الهربز)، فقد ذكر صاحب كتاب: ولا تقربوا الزنا أنه قال له الطبيب: ما هو شعورك الآن وأنت تودع الحياة الجنسية والشهوة؟
    فقال: خمس عشرة سنة وأنا آخذ حظي منها، يكفيني ذلك.. الله أكبر! هذا حظه من الدنيا والآخرة، لكن المؤمنين يتمنون الجنة، ويريدون الحور العين والنعيم، وأنت ما عندك إلا هذه الخمس عشرة سنة وقد ذهبت وانقضت.
    وإنه يوجد من شبابنا -مع الأسف- من يتمنى أن يعيش عيشة هؤلاء، فهل هذا يرجو الله واليوم الآخر؟! لا. بل حظه في الدنيا أن قال: لقد اكتفيت، خمس عشرة سنة كان يزني وانتهى الأمر، فهذا حظه.
    ذهبت الملذات وبقيت التبعات، سبحانك يا رب! أما لك عقوبة إلا النار؟! والله لو تفكر الإنسان في هذا الكلام لكفى وشفى:
    (قد علم أنه يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره).
  8. أسباب سقوط العقوبات

     المرفق    
    قال: (فإن فاعل السيئات يسقط عنه عقوبة جنهم بنحو عشرة أسباب عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة:
    السبب الأول: التوبة، قال تعالى: ((إِلاَّ مَنْ تَابَ))[مريم:60] وقال: ((إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا))[البقرة:160] وغيرها، والتوبة النصوح: هي التوبة الخالصة التي لا يختص بها ذنب دون ذنب، لكن هل تتوقف صحتها على أن تكون عامة، بحيث لو تاب من ذنب وأصر على آخر قبلت توبته؟ الصحيح أنها تقبل.
    وهل يجب الإسلام ما قبله من الشرك وغيره من الذنوب وإن لم يتب منها، أم لابد مع الإسلام من التوبة من غير الشرك؟ حتى لو أسلم وهو مصر على الزنا وشرب الخمر، فهل يؤاخذ بما قد عمله في كفره من الزنا وشرب الخمر، أم لابد أن يتوب من ذلك الذنب مع إسلامه، أو يتوب توبة عامة من كل ذنب؟ الأصح أنه لابد من التوبة مع الإسلام.
    وكون التوبة سبباً لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها، مما لا خلاف فيه بين الأمة، وليس هناك شيء يكون سبباً لغفران جميع الذنوب إلا التوبة، قال تعالى: ((قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ))[الزمر:53]، وهذا لمن تاب؛ ولهذا قال: (لا تَقْنَطُوا) وقال بعدها: ((وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ))[الزمر:54]).
    فانظر إلى هذا الإله الكريم، الحليم الغفور الودود سبحانه وتعالى، كيف جعل هذه الأسباب لإسقاط العقوبة، هل من كرم أعظم من هذا الكرم؟! وجود أعظم من هذا الجود؟! وعفو وصفح وحلم وتجاوز مثل هذا؟! يجعل هذه العشرة الأسباب تسقط العقوبة في حال الذنب، أي: أن هذه ليست لمن لم يذنب، هذه لمن أذنب وأسرف على نفسه، ووقع فيما حرم الله، ولم يقف عند حدود الله، جعلت لك هذه الوسائل والطرائق المختلفة فخذ منها ما شئت، وتمثلها وحققها؛ فيكفر الله تبارك وتعالى عنك، ويعفو ويغفر لك، ولا تعاقب، وتكون ممن زحزح عن النار، وتدخل الجنة بإذن الله تبارك وتعالى.
    هذه رحمة من الله سبحانه وتعالى الذي كتبه في كتابٍ فهو عنده فوق العرش: {أن رحمتي سبقت غضبي}، وقد عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة، والشيخ رحمه الله تعالى نقل هذه العشرة الأسباب من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وقد ذكرها في كتاب الإيمان، وبالمناسبة فإن كتاب الإيمان موجود في مجموع الفتاوى في الجزء السابع، ولشيخ الإسلام ابن تيمية ثلاثة كتب في الإيمان: الإيمان الكبير، وهو المطبوع وحده باسم: الإيمان، والثاني: الإيمان الأوسط، والثالث: الإيمان الصغير، وكل بحسبه، وتجد في الصغير والأوسط من الفوائد ما لا يوجد في الكبير على سعته، فكلها فوائد ودررٌ عظيمة، رحم الله شيخ الإسلام رحمة واسعة.
    ومن هذه الكتب الثلاثة يتكون عندنا الجزء السابع من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والمحقق هنا ذكر أن الجزء السابع من صفحة (487) إلى (501) ذكر فيه الأسباب التي بها تسقط العقوبات عن المذنب والمجرم.
    وأولها: التوبة: وبدأ بالتوبة لأن شأنها عظيم جداً، ولهذا أطال فيها ابن القيم رحمه الله بما لم يطل في غيرها من المنازل، ولعدة أمور:
    أولاً: لأنها تكفر الذنوب، فأي ذنب تاب منه العبد كفرته التوبة وإن كان الشرك بالله، وقد قال الله تعالى في حق المشركين: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ))[التوبة:11]، وفي الآية الأخرى: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ))[التوبة:5].
    فلو كان الذنب كائناً ما كان فإن التوبة تكفره، هذا الأمر الآخر وهو مهم جداً، وقد أشار إليه الشيخ هنا مما يجعل التوبة تقدم، فالمراد ليس قيمة التوبة في ذاتها بقدر ما هو بسبب ما وقع بين الناس من الاختلاف في حكم مرتكب الذنوب، ولكن رغم هذا الاختلاف نجد أن التائب تقبل توبته عند الرافضة والخوارج والمعتزلة -كل الفرق- أي إنسان يتصور أن هذا ذنب حتى لو كان مخطئاً تجده يقبل أنك تتوب منه.
    إذاً: فالأمة متفقة عليها، ونحن نقول: إن الزنا كبيرة، وشرب الخمر كبيرة، وتقول الخوارج : إنه كفر، وكذلك المعتزلة، لكن نتفق معهم أنه إذا تاب تاب الله عليه، والفرق أننا نقول: تاب من ذنب، وهم يقولون: تاب من كفر، لكن التوبة تقبل.
    إذاً: من ترك هذا الذنب اتفقنا نحن وهم على أنه مؤمن مسلم تائب مقبول لا يؤاخذ، بغض النظر عن أننا اختلفنا في تصنيف أو في نوعية الذنب، وهكذا...
    إذاً: هذا مما يعطي التوبة أهمية خاصة، وهي مجمع عليها.
    يقول: السبب الثاني: الاستغفار، والثالث: الحسنات، والرابع: المصائب، والخامس: عذاب القبر، والسادس: دعاء المؤمنين ... إلى آخر العشرة، وكلها تغني عنها التوبة، وكلها مع عدم التوبة لا تغني، إلا الاستغفار؛ وذلك لعلاقة التوبة به، وسنذكر إن شاء الله العلاقة بينهما.
    إذاً: الأساس هو التوبة، ولأن تبديل السيئات إلى حسنات إنما يكون بالتوبة؛ فإن لم تكن توبة فالأمر لا يعدو أن يكون محواً ومجاوزة.
    إذاً: فرق بين محو ومسامحة وتجاوز، وبين أن تبدل، وهل على الكريم من لوم؟ والله سبحانه وتعالى أكرم كريم، والدليل على التبديل قوله تعالى: ((إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ))[الفرقان:70] الدواوين الكبرى، والسجلات العظمى في جانب الشر والفجور والطغيان والشرك، وغيرها من الذنوب التي نبه عليها بالشرك وقتل النفس والزنا، حيث إن هذه الثلاثة هي أصل جميع الذنوب في الدنيا.
    أي: أن ذكرها يغني عن ذكر جميع الذنوب، فقد ذكر الشرك وهو أعظم الذنوب، وهو حق الله، وليس بعده ذنب، والقتل؛ لأن القتل يكون في أشد ما تكون القوة الغضبية عند البشر، أما الزنا فهو أصل الذنوب المتولدة عن القوة الشهوانية.
    فهذه الثلاث من الكبائر تكفيك: أعظم الذنوب جميعاً، وأشد ذنب بالقوة الغضبية، وأشد ذنب بالقوة الشهوانية، ومع ذلك لو فعلها العبد ثم تاب: ((فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ))[الفرقان:70].
    أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يبدل سيئاتنا حسنات، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.