المادة كاملة    
في بداية هذا الدرس ورد التنبيه على استطراد المؤلف في بيان قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وسبب هذا الاستطراد، ثم انتقل الحديث لبيان الأوجه الإعرابية التي ذكرها المصنف رحمه الله في قوله تعالى: (كَمِثْلِهِ) حيث تم ترجيح القول الأول تبعاً للمصنف، وبعدها تم إثبات بعض الصفات التي طال الخلاف حولها وتقريرها، ومنها: علم الله، مع مناقشة المنكرين لها، وإثبات تقدير الله عز وجل، والرد على المعتزلة النافين والمنكرين لتقدير الله للآجال.
  1. انحرافات في تلقي القرآن

     المرفق    
    قد تقدم الحديث عن معنى قوله: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الشورى:11] والمؤلف هنا استطرد في بيان أن قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الشورى:11]، مع دلالته عَلَى إثبات الصفات لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ونفي المثيل عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لا يعارض قوله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى)) [الروم:27]، فإثبات المثل الأعلى شيء، ونفي المثيل له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شيء آخر.
    واستطرد تبعاً لذلك في شرح معنى: ((الْمَثَلُ الْأَعْلَى)).
    وموجز ذلك أن المثل الأعلى هو الكمال المطلق، والغاية العليا للصفة التي ليس وراءها شيء، فلله تَعَالَى المثل الأعلى في العلم فمهما كَانَ عند المخلوقين من علم، ومهما وصفنا أي مخلوق بأنه عالم، فإن لله المثل الأعلى في ذلك؛ بمعنى أن له الكمال المطلق في العلم الذي ليس وراءه أي شيء، وليس فيه نقص بأي وجه من الوجوه،
    وذكر المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- الأمور الأربعة التي عبر بها السلف عن معنى المثل الأعلى، وتضمن كون المثل الأعلى لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأمور الأربعة التي هي ثبوت الصفات العليا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والشعور بها، وعلمها، وإدراكها، ثُمَّ ذكر صفاته والخبر عنها.
    ثُمَّ الرابع محبته وتوحيده وإخلاص العمل لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتجريد متابعة رسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    ثُمَّ يبين المؤلف أن هذه الآية ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الشورى:11] فيها خلاف بين النحاة والشُّراح المفسرين من الناحية الإعرابية ويذكر هذه الأوجه، ويجيب في أثناء ذلك عَلَى الشبهة التي قد تطرح وهي دخول الكاف عَلَى المثل ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) فيظن أن ليس في الآية نفياً مثلياً مباشرة، وإنما هي نفي شبيه المثلية، فهل هذه الآية عَلَى ظاهرها؟ أو ما المقصود من هذه الكاف الزائدة؟ هذا ما سوف نتحدث عنه فيما بعد.
    والقول بأن هناك معارضة بين قوله تعالى:((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) وقوله تعالى: ((وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى))[الروم:27].
    دعا المؤلف إِلَى نوع من الاستطراد البياني، وأن هناك من يتلقون القُرْآن عَلَى غير ما أمر الله تَعَالَى به من التلقي والقبول؛ وهم الذين في قلوبهم مرض؛ الذين ذكرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في قوله: ((فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ))[آل عمران:7] وذكرهم في قوله: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ)) [محمد:26]
    وهنا مرضان من أمراض القلوب في تلقي القرآن، سواء ما كَانَ من الصفات أو غيرها، فالأول:
    1. اتباع المتشابه ورد المحكم

      وهو أن الإِنسَان يتبع المتشابهات ليحرف ويرد بها المحكمات، ويؤول معاني المحكمات لأجل المتشابهات، وهذا نوع من أنواع المرض والعياذ بالله.
    2. كراهية بعض ما أنزل الله

      والثاني: أن يكره الإِنسَان بعض ما أنزل الله ويجامل أعداء الله ويقول: ((سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ))[محمد:26] فلا يسلم تسليماً كلياً قاطعاً لما أنزله الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولما جَاءَ عن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا قدر موجب لإحباط العمل، فلذلك قال في آخر الآية: ((فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ))[محمد:28] لأن كراهية بعض ما أنزل الله سبب من أسباب إحباط العمل.
      فلو أن أحداً آمن بدين الإسلام كله وبشريعة الإسلام كلها، إلا أنه لم يؤمن بحرمة الربا -مثلاً- أو يكره في نفسه كون الربا حرام، أو كون الزنا حرام، أو يكره ويتضجر من أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرع للمرأة أن تقرَّ في بيتها وأن لا تتبرج وهو يريد هذا التبرج، أو يكره هذه الآيات، ويكره هذا الحكم، وإن كَانَ مسلماً منقاداً لبقية الشريعة فإن هذا كله يؤدي إِلَى إحباط عمله - والعياذ بالله؛ لأن هذا اعتراض وكراهية لبعض ما أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.

      ومن هذا أيضاً ما كَانَ في نفاة الصفات كالذين تحدث عنهم المؤلف كـابن أبي دؤاد حيث أشار عَلَى الخليفة المأمون -وكان وزيراً للمأمون مقرباً عنده- أن يكتب عَلَى ستر الكعبة: ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم والعياذ بالله فقد كره أن يكتب ((وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الشورى:11]؛ لأن في نظره أن السمع والبصر من صفات المخلوقين، فيكون فيها تشبيه، أما العزة والحكمة، فلا تدل عَلَى التشبيه، وهذا من جهله، وعقله الفاجر.
      فإن البشر أيضاً فيهم العزة وفيهم الحكمة، كما أن فيهم السمع وفيهم البصر، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أثبت العزة له ولرسوله وللمؤمنين، وكذلك أثبت الحكمة لبعض عباده فَقَالَ تعالى: ((وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة)) [لقمان:12] وعليه فليس الفرق بين صفات الله وصفات المخلوقين أن نرد بعض الصفات ونؤمن ببعض! وإنما الفرق أن نقول: إن ما يتعلق بذات الله من صفاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يختلف اختلافاً كلياً عن صفات المخلوقين، فلله تَعَالَى صفات لائقة بجلاله، وللمخلوق صفات لائقة به وهو الجاهل والناقص والعاجز.

      وكذلك ما ذكره عن الجهم بن صفوان أنه قَالَ: وددت أني أحُكُّ من المصحف قوله تعالى:((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] أعاذنا الله من الغواية والضلال، ومثله امرأة جهم فقد سمعت رجلاً يقرأ قوله تعالى: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طه:5] فقالت: محدود عَلَى محدود ليس هكذا.
      لذلك قال بعض العلماء: إن الجهمية يريدون أن يثبتوا أنه ليس في السماء شيء، وليس فوق العرش شيء، وهم -كما ذكرنا- يثبتون مجرد وجود مطلق لا يوصف بأي شيء، وهذا من الجرأة عَلَى الله، ومن الزيغ، ومن مرض القلب والضلال.

      ومثال ثالث: وهو عمرو بن عبيد ومما نقل عنه أنه كَانَ دائماً لما يقرأ قوله تعالى: ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)) [المسد:1] يتضجر ويريد أن لا تكون من القرآن، وسبب ذلك أن عقله الفاجر الضعيف يقول كيف ينزل الله هذه الآية ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)) [المسد:1] وفيها دليل عَلَى أن أبا لهب سيموت كافراً.
      وأبو لهب مازال حياً؟! وهذا السؤال يورده الفلاسفة على الجهمية فيقولون: إن من آمن دخل الجنة، فكيف يكون موقف الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فعل أبو لهب ذلك؟ ولما سمع عمرو بن عبيد هذه الشبهة ولم يعرف لها جوباً، قَالَ: ليتني أحك هذه السورة من المصحف فنرتاح من المشكلة وجوابها! نسأل الله العفو والعافية.
    3. عدم رد الأمر إلى ولي الأمر عند التنازع

      والقاعدة التي يعرف بها وقوع الضلال والزيغ هي: أنه يأتي من عدم رد الأمر إِلَى أولي العلم، كما قال تعالى: ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ))[الأنبياء:7]، وقَالَ: ((وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)) [النساء:83] فلذلك إذا جاءنا أمر أي أمر كان: علمي، أو أمر من أمور الدعوة ومصالح الدعوة الإسلامية كما في بداية الآية :((وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ)) [النساء:83].
      فيسأل فيه العلماء عند الإشكال ويتنبه إِلَى أنه قد لا يكون هناك إشكالٌ أصلاً مثل قوله تعالى: ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ))[المسد:1] فليس فيه إشكال عَلَى الإطلاق؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي خلق أبا لهب ويعلم عناده وكرهه للدين، وأنه لن يؤمن فمن المحال أن يقع خلاف ما قدره الله عَزَّ وَجَلَّ.
      فالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أنزل القُرْآن بمقتضى ما علمه وقدره، مِنْ أن عناد هذا الرجل لن يجعله يوماً من الأيام يتوب إِلَى الرشد ويسلم، فيظل أبو لهب عَلَى الكفر حتى يموت، فهذا علمه الله عَزَّ وَجَلَّ وقدره، ومن المحال أن يقع شيءٌ خلاف ما قدره الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وليست المسألة بهذا الإشكال الذي يجعل الإِنسَان عندما يعجز عنها أو تواجهه القضية يتمنى أن هذه الآية ليست موجودة، أو أن هذا الحديث لم يصحَّ عن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

      بل الذي يتحتم عند مرور الآية والحديث الصحيح أن نتلقى ذلك بالإيمان، وبالقبول، وبالتصديق؛ فإن أشكل علينا شيء في معنى أحدهما رددناه إِلَى أولي العلم من الأحياء، أو من الأموات من خلال كتبهم، فإن لم يكن بعد ذلك معرفة رددنا علمه إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويجب أن نعترف دائماً بعجزنا، وجهلنا، وقصورنا، عن فهم كثير مما جَاءَ به الوحي.هذا هو نهاية الاستطراد ثُمَّ بعد ذلك ينتقل المُصنِّف إِلَى إعراب قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11].
  2. أوجه إعراب كلمة: "كمثله" في قوله تعالى: ليس كمثله شيء

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [وفي إعراب ((كَمِثْلِهِ)) وجوه، أحدها أن الكاف صلة زيدت للتأكيد.
    قال أوس بن حجر:
    ليس كمثل الفتى زهير             خلق يوازيه في الفضائل
    وقال آخر:
    ما إن كمِثْلِهِمُ في النَّاس من بشر
    وقال آخر:
    وقَتْلى كمثل جذوع النخيل
    فيكون (مثله) خبر (ليس)، واسمها (شي).
    وهذا وجه قوي حسن، تعرف العرب معناه في لغتها، ولا يخفى عنها إذا خوطبت به، وقد جَاءَ عن العرب أيضاً زيادة الكاف للتأكيد في قول بعضهم: (وصاليات ككما يُؤْثَفَين).
    وقول الآخر:
    فأصبحت مثلَ كعصف مأكولِ
    الوجه الثاني: أن الزائد مثل أي: ليس كهو شيء، وهذا القول بعيد؛ لأن "مثل" اسم، والقول بزيادة الحرف للتأكيد أولى من القول بزيادة الاسم.
    الوجه الثالث: أنه ليس ثُمَّ زيادة أصلاً، بل هذا من باب قولهم: مثلك لا يفعل كذا، أي: أنت لا تفعله، وأتى بمثل للمبالغة، وقالوا في معنى المبالغة هنا: أي: ليس لمثله مثل لو فرض المثل، فكيف ولا مثل له، وقيل غير ذلك والأول أظهر]. إهـ.

    الشرح:
    هذه الوجوه التي ذكرها المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- في إعراب: ((كَمِثْلِهِ))، من الآية ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ))[الشورى:11] تتفاوت.
    1. أصح أوجه الإعراب أن الكاف حرف صلة زيدت للتأكيد

      وهذا هو الوجه الأول: وهو أن الكاف حرف صلة زيدت للتأكيد، فيكون إعراب الآية عَلَى هذا المعنى: (ليس) فعل ناسخ والكاف زائد (مثل) اسم مجرور، وهذا المثل في موضع خبر ليس، بحيث لو كَانَ غير قرآن لقلنا: ليس مثله شيء، وإعراب (شيء) اسم (ليس) متأخر.
      وهذا الإعراب عَلَى أساس أن الكاف زائدة، ومن المعلوم أن زيادة المبنى -أي: زيادة اللفظ- لا بد أن تقتضي الزيادة في المعنى، وهذه الزيادة لتأكيد نفي المثل في قوله تعالى:((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))[الشورى:11] وقد ذكر المؤلف: أن هذا الوجه قوي، وهو الذي اختاره، ويقويه ويستدل عَلَى ذلك بما ورد في كلام العرب مما يدل عَلَى زيادة الكاف كما في الأبيات التي أوردها:
      ليس كمثل الفتى زهير
      ومقصود الشاعر بهذا أن نقول: ليس مثل الفتى زهير أحد من الخلق، فقَالَ: ليس كمثل الفتى زهير، وذلك زيادة لتأكيد أنه ليس هناك من يشبه زهير في الخلق.
      وقال آخر (ما إن كمثلهم في النَّاس من أحد)، أو (ما إن كمثلهم في النَّاس من بشر).
      والكاف في هذا المثال زائدة، ومراد الشاعر أن يقول: ليس مثلهم في النَّاس من أحد، لكنه جَاءَ بحرف الكاف الزائد لزيادة التأكيد، فيكون إعراب الآية عَلَى هذا الوجه متكون من فعل ناسخ، وخبر مقدم، ومبتدأ مؤخر، وزيدت الكاف في الخبر المقدم وهو "مثل" للدلالة عَلَى تأكيد المعنى، وحرف الصلة الزائد يعمل لفظاً، وإن لم يكن يغير الحقيقة، وزيادته تدل عَلَى أنه لا بد أن يكون له معنى، وتكون دلالته عَلَى التأكيد غالباً، كما في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّه)) [فاطر:3] أي هل خالق غير الله؟ فـ(مِنْ) هنا حرف جر زائد، زيادته للتأكيد، ولهذا يأتي التابع الذي بعده معطوفاً مرفوعاً بناءً عَلَى المحل ((هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ))[فاطر:3] فجاء بحسب المحل؛ لأن المحل مرفوع ولم يأت بحسب اللفظ.
      وإن كانت (من) في اللفظ أدت إِلَى خفض قوله (خالق)، كما أن الكاف هناك خفضت قوله: (مثل)، لكن هذا الأثر اللفظي لا يغير من مقصود الألفاظ والعبارات شيئاً، وهذا المعنى واضح إن شاء الله.
      يقول: (وقد جَاءَ عن العرب أيضاً زيادة الكاف للتأكيد في قول بعضهم:"وصاليات ككما يُؤْثَفَيْن"، أي كما أن الكاف تزاد في (مثل)، فإنها تزاد أيضاً في (كما)، وأصل البيت أن يقول: (وصاليات كما يؤثفين)، فزاد الكاف وقَالَ: (وصاليات ككما يؤثفين)، وهذا أيضاً من الشواهد الدالة عَلَى أن الكاف قد تأتي زائدة، ويذكر أيضاً البيت الآخر وهو المنسوب إِلَى رؤبة بن العجاج الرجّاز العربي المشهور فيقول :
      فأصبحت مثل كعصف مأكول
      ومراد الشاعر أن يقول: أصبحت مثل عصف مأكول، أو فأصبحت كعصف مأكول لكنه جَاءَ بمثل وبالكاف معاً للدلالة عَلَى التأكيد، لا سيما وأنَّ وزن الرجز يقتضي أن يأتي بكلمة، فجاء بكلمة فيها زيادة معنى.
      والرجز من البحور الشعرية الستة عشر التي أصّلها الخليل بن أحمد وهو من أكثر أشعار العرب.
      والعرب يستخدمون الرجز كثيراً وخاصة في مواضع القتال، أو في المواقف التي فيها الحمية والحماس.
      ومعظم الرجز يأتي في المعارك ومثاله ما تمثل به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكره:
      هل أنتِ إلا أصبع دميتِ            وفي سبيل الله ما لاقيتِ
      ومنه قول جعفر الطيار:
      يا حبذا الجنةُُُ واقترابها            طيبة وبارد شرابها
      والروم روم قد دنا عذابُها            كافرة بعيدة أنسابها
      عليَّ إن لاقيتها ضرابها
      والقصد أن الراجز أتى بالحرف الزائد من أجل وزن البيت، وهذا الحرف فيه زيادة في المعنى.
      إذاًً تأتي (الكاف) زائدة كما في قول رؤبة: (فأصبحت مثل كعصف مأكولِ) ومثله قوله تَعَالَى ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))[الشورى:11].

      الوجه الثاني من الأعراب: أن الزائد هو كلمة (مثل)، فمعنى ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ)) أي ليس كهو أي كذاته - تَعَالَى - شيء ((وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الشورى:11] فـ(مثل) هنا زائدة؛ لأنه ليس لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مثل، فننفي هذه المثلية.
      ويكون (الكاف) هو حرف التشبيه و(مثل) اعترضت بين الجار والمجرور بحيث لو كَانَ في غير القُرْآن لقلنا ليس كهو شيء وهو السميع البصير، وعلى هذا يرد قوله تعالى: ((فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا))[البقرة:137] فإن المقصود: فإن آمنوا بالقرآن، أو فإن آمنوا بالله عَزَّ وَجَلَّ فتكون "مثل" في هذه الآية زائدة المعنى زائدة اللفظ.
      ولعل من الملاحظ أن هناك فرق بين هذه الآية وبين الآية التي في الشورى ففي آية الشورى نجد أن الحرف هو "الكاف" والاسم هو "مثل" والأحق أن حرف الكاف هو الزائد وأن "مثل" أصل في الكلام.
      وعلى هذا كَانَ هذا القول -أي القول الثاني- قولاً بعيداً لأن القول بزيادة الحرف للتأكيد أولى من القول بزيادة الاسم.

      الوجه الثالث من الإعراب: أنه ليس في الآية زيادة أصلاً، فعندما تقول العرب: (مثلك لا يفعل كذا) فكأنهم قالوا: (أنت لا تفعل كذا)، أي: مثلك لا يليق به القبائح، ويأتوا بكلمة " مثل " والمقصود بها أنت المخاطب، فقوله سبحانه: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) أي ليس كذاته شيء، ليس كهو شيء، وعلى هذا تكون " مثل " غير زائدة وإنما جرت عَلَى أسلوب العرب وأتى بـ "مثل" للمبالغة وقالوا في معنى المبالغة: ليس كمثله مثل -لو فرض له مثل- فكيف ولا مثل له، أي: ليس لله عَزَّ وَجَلَّ مثل، لكن لو فرض ذلك فإنه ليس لمثله مثل، فيكون هذا المعنى أقوى في نفي المثلية عن الله عَزَّ وَجَلَّ.
      وأصحاب هذا القول لا يريدون أن يثبتوا الزيادة في كلام الله تَعَالَى لأن بعض النَّاس عندما يسمع بعضهم يقول: " لا " زائدة في قوله تعالى: ((لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)) [القيامة:1] يقول: لا يجوز أن نقول: إن في القُرْآن شيء زائد.
      وكذلك في هذه الآية إنما فيها معنى أصلي والآن نعرف المقصود بالزيادة في كلام الله.
    2. المقصود بالزيادة في كلام الله

      والحقيقة أن قولهم: هذه الكلمة زائدة، لا يعني أن في القُرْآن شيئاً زائداً يمكن أن نستغني عنه أو لا قيمة له، كلا، إنما المقصود أن هذه الاصطلاحات وضعت لمعرفة معاني الألفاظ، ومعاني الكلمات والجمل لا أكثر ولا أقل، ولا شك أن قوله تعالى: ((لا أُقْسِمُ بِيَوْمَ القِيَامَةِِ))ِ[القيامة:1] أبلغ وآكد من قوله: أقسم بيَوْمَ القِيَامَةِ، ومثله قوله تعالى: ((هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ))[فاطر:3] ففي أصل الكلام ليس هناك خالق غير الله فلفظة (مِن) زائدة من ناحية لفظية، وأما من ناحية المعنى فلها فائدة عظيمة وهي: التعميم، فإن جملة: ((هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ)) أقوى من قول: (هل خالق غير الله) فظهر بهذا أن هذه الكلمات الزائدة تعطي معانٍ عظيمة لولاها لما حصلت هذه المعاني، وكما تحصل الفائدة في زيادة بعض الكلمات أيضاً تحصل الفائدة في الحذف، وهذا معروف في لغة العرب.وبهذا نكون قد أوضحنا الثلاثة الأوجه الواردة في الآية.
  3. إثبات علم الله

     المرفق    
    قال أبو جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [خلق الخلق بعلمه].
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [خلق: أي: أوجد وأنشأ وأبدع، ويأتي خلق أيضاً بمعنى: قدر. والخلق: مصدر، وهو هنا بمعنى المخلوق، وقوله (بعلمه) في محل نصب عَلَى الحال، أي: خلقهم عالماً بهم، قال تعالى: ((أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير))ُ[لملك:14] وقال تعالى: ((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَار))[الأنعام:59-60] وفي ذلك رد على المعتزلة.
    قال الإمام عبد العزيز المكي صاحب الإمام الشَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللهُ - وجليسه، في كتاب الحيدة الذي حكى فيه مناظرته بشراً المريسي عند المأمون حين سأله عن علمه تعالى: فَقَالَ بشر: أقول: لا يجهل.
    فجعل يكرر السؤال عن صفة العلم، تقريراً له، وبشر يقول: لا يجهل، ولا يعترف له أنه عالم بعلم، فَقَالَ الإمام عبد العزيز: نفي الجهل لا يكون صفة مدح، فإن قولي هذه الأسطوانة لا تجهل، ليس هو إثبات العلم لها وقد مدح الله تَعَالَى الأَنْبِيَاء والملائكة والمؤمنين بالعلم، لا بنفي الجهل.
    فمن أثبت العلم فقد نفى الجهل، ومن نفى الجهل لم يثبت العلم، وعلى الخلق أن يثبتوا ما أثبته الله تَعَالَى لنفسه وينفوا ما نفاه، ويمسكوا عما أمسك عنه.
    والدليل العقلي عَلَى علمه تعالى: أنه يستحيل إيجاده الأشياء مع الجهل، ولأن إيجاده الأشياء بإرادته، والإرادة تستلزم تصور المراد، وتصور المراد: هو العلم بالمراد، فكان الإيجاد مستلزماً للإرادة، والإرادة مستلزمة للعلم، فالإيجاد مستلزم للعلم، ولأن المخلوقات فيها من الإحكام والإتقان ما يستلزم علم الفاعل لها؛ لأن الفعل المحكم المتقن يمتنع صدوره عن غير علم؛ ولأنُ من المخلوقات ما هو عالم، والعلم صفة كمال، ويمتنع أن لا يكون الخالق عالماً وهذا له طريقان:
    أحدهما: أن يُقَالَ: نَحْنُ نعلم بالضرورة أن الخالق أكمل من المخلوق، وأن الواجب أكمل من الممكن، ونعلم ضرورة أنا لو فرضنا شيئين، أحدهما: عالم والآخر: غير عالم، كَانَ العالم أكمل، فلو لم يكن الخالق عالماً لزم أن يكون الممكن أكمل منه، وهو ممتنع.
    الثاني: أن يُقَالَ: كل علم في الممكنات، التي هي من المخلوقات، فهو منه، ومن الممتنع أن يكون فاعل الكمال ومبدعه عارياً منه بل هو أحق به. والله تَعَالَى له المثل الأعلى، ولا يستوي هو والمخلوقات، لا في قياس تمثيلٍ، ولا في قياس شمولٍ، بل كل ما ثبت للمخلوق من كمال فالخالق به أحق، وكل نقص تنزه عنه مخلوق ما فتنزيه الخالق عنه أولى] إهـ.

    الشرح:
    انتقل المُصنِّفُ - رَحِمَهُ اللهُ - إِلَى الفقرة الثامنة عشرة، وموضوعها إثبات صفة العلم لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    والأدلة عَلَى ذلك من الكتاب والسنة والفطرة والعقل.
    فـأبو جعفر الطّّحاويّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يقول: (خلق الخلق بعلمه) كما قال الشارح: أي: خلقهم عالماً بهم، أي خلقهم حال كونه عالماً بهم، وفي هذا إثبات العلم لله سبحانه.
    1. العرب في الجاهلية يؤمنون بصفة العلم لله

      لقد كَانَ العرب في الجاهلية يؤمنون بذلك ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه))[لقمان:25] فكل من يثبت أن الله هو الخالق عليه أن يثبت أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عالم، وفي هذا رد عَلَى من ينكر هذه الصفة -صفة العلم- ويستدل عَلَى ذلك أيضاً بما ورد من الآيات كقوله تعالى: ((أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) [الملك:14]، وقوله: ((وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ))[التحريم:2]، وقوله: ((وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً)) [النساء:92].
    2. الأدلة النقلية والعقلية في إثبات صفة العلم لا تحصى

      وأمثال ذلك من الآيات والأحاديث والأدلة العقلية كثيرة لا تحصى ولا تحصر في إثبات علم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومنها ما تقدم الحديث عنه وهو المرتبة الأولى من مراتب القدر: وهو العلم بأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يعلم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كَانَ كيف يكون، وأنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد كتب ذلك كله وقدره وهو عليم به -جل شأنه- وأن وقوع الشيء وفق ما قضاه وقدره لا يزيد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- علماً بالشيء، فإنه يعلمه عَلَى صفته التي سيكون عليها قبل أن يكون.
      ومن ذلك آيات علم الغيب قاطبة، ولهذا استدل المُصنِّف -رحمه الله تعالى- بآية الأنعام :((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ))[الأنعام:59] وأمثال ذلك من الآيات الدالة عَلَى أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو المتفرد بعلم الغيب.
      فهذا إثبات لصفة العلم،
      والذين ينكرون صفة العلم: هم الجهمية، ومن هَؤُلاءِ الجهمية بشر المريسي ولذلك نقل المُصنِّف نصاً عن عبد العزيز الكناني -رحمه الله تعالى- وعبد العزيز الكناني أو المكي تلميذ من تلاميذ الإمام الشَّافِعِيّ، وكان من جلسائه وخاصته.
      وتوفي الإمام الشَّافِعِيّ -رحمه الله تعالى- قبل أن تفشو فتنة القول بخلق القرآن، ويظهر أمر الجهمية، وبعضهم يقول: إنه أدرك ذلك؛ لكنه اتخذ سبيل التورية ونجا، لكن الأظهر أن الإمام الشَّافِعِيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- لم يدرك ذلك وإنما أدركه تلاميذه، ومنهم عبد العزيز المكي أو الكناني، فلما ظهرت هذه الفتنة وفشت عند المأمون، رحل عبد العزيز الكناني -كما بين ذلك في كتابه الحيدة- إِلَى الخليفة المأمون، واستعد لمناظرة بشر المريسي أمام النَّاس عَلَى الملأ، ومناظرة الذين ينكرون صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ويحرفون كتاب الله.
      ثُمَّ كتب الإمام عبد العزيز المكي خلاصة ما دار بينه وبين هَؤُلاءِ القوم في كتابه المسمى الحيدة.
      مع العلم أن هناك من يقول: إن كتاب الحيدة لا تصح نسبته للإمام عبد العزيز الكناني.
      وأقول: قد لا يكون الكتاب بهذا الشكل المتكامل له؛ لأن فيه بعض زيادات غيره، لكن الكتاب والقضية لهما أصل، والحوار هذا قد جرى ووقع، فقد يكون الذي كتب هذا الكتاب والمناظرة ابن عبد العزيز الكناني الذي اصطحبه معه من مكة إِلَى بغداد ليناظر بشر المريسي.
      أما بشر فهو رجل يهودي، كَانَ أبوه صباغاً يهودياً - كما قال ذلك الإمام أحمد.
      وهذا الرجل تعلم الفلسفة وتعلم الكلام ليفسد به دين الإسلام،
      وكان زميلاً للقاضي أبي يوسف المعروف، وكان القاضي يقول له: يا بشر! إما أن تدع الكلام، أو تفسد علينا خشبة، يعني: نصلبك عَلَى خشبة فنخسر هذه الخشبة، لكنَّ بشراً عاند، وأخذ يتعلم هذه العلوم، وهذه الثقافات، يعارض بها كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكان عَلَى مذهب الجهم بن صفوان في نفي صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      حتى أنه ورد أن أم بشر جاءت إِلَى أحد علماء الْمُسْلِمِينَ فقالت له: إن أباه كَانَ يهودياً، وإنه عَلَى دين أبيه، وإنما يريد أن يفسد دينكم بهذا العلوم (بعلم الكلام) الذي جَاءَ به.
      وقد رد الإمام المحدث الجليل عثمان بن سعيد الدارمي عَلَى بشر المريسي في كتابه المشهور المعروف: الرد عَلَى بشر المريسي العنيد، أو (رد الإمام عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد)، فرد عليه، وأثبت كثيراً من الصفات التي كَانَ بشر ينكرها ومنها صفة العلم،
      فـبشر والجهمية عموماً يقولون في صفة العلم: ليس بجاهل، وهذا كما قلنا: أولاً: وجود مطلق لا يوصف بشيء إلا بالسلوب، يعني النفي فقط.
      فينفون عن الله الجهل ولا يثبتون له العلم، كما كَانَ يقول الإمام عبد العزيز في مناظرته لـبشر: الله عالم أو الله يعلم، فيقول بشر: لا يجهل، فهذا يكرر السؤال وذاك يكرر الجواب لا يزيد عَلَى قوله: لا يجهل لا يجهل.
      فقال له الإمام عبد العزيز الكناني بعد ذلك: لو قلت هذه الأسطوانة لا تجهل لم يكن ذلك مدحاً لها بأنها تعلم.
      وكما قال المصنف: نفي الجهل لا يعني إثبات العلم ولكن إثبات العلم يعني نفي الجهل، فكان هذا مما أفحم به الإمام عبد العزيز الكناني بشراً في مجلس الخليفة.
      وقد مدح الله تَعَالَى الأَنْبِيَاء والملائكة والمؤمنين بالعلم لا بنفي الجهل، فمن أثبت العلم فقد نفى الجهل، ومن نفى الجهل لم يثبت العلم
      وعلى الخلق أن يثبتوا ما أثبته الله تَعَالَى لنفسه وينفوا ما نفاه، ويمسكوا عما أمسك عنه، ما أجمل هذه العبارات التي قالها الإمام عبد العزيز وأرشد الخلق إليها "أن يثبتوا لله ما أثبته لنفسه، وينفوا ما نفاه، ويمسكوا عما أمسك عنه" وهذه هي القاعدة العامة في مثل هذه الصفات: صفة العلم وغيرها.
      ثُمَّ انتقل المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- إِلَى الدليل العقلي، وهذا الدليل قد سبق معنا عَلَى شكل قاعدة من القواعد التي نعرف بها إثبات الصفات، والتي نستدل بها عَلَى أن الفطرة الإِنسَانية والعقل الإِنسَاني يثبت صفات الله - عَزَّ وَجَلَّ - وأن له الكمال المطلق -عَزَّ وَجَلَّ- وهذه القاعدة هي: (كل صفة كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه فالله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - أحق بها) فلو أخذنا صفة العلم وجدناها صفة كمال، والمخلوق يمدح بأنه عالم، وكلما كَانَ المخلوق أكثر علماً كلما كَانَ هذا زيادة في مدحه، فنقول: هو أكثر علماً من فلان، فالذي له المثل الأعلى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يجب أن يثبت له العلم من باب الأولى، والمخلوق إنما استمد علمه مما أعطاه الله إياه من العلم، وهذه القاعدة فصلها المُصنِّف فيما سيذكره، يقول: (الدليل العقلي عَلَى علمه -تعالى- أنه يستحيل إيجاده الأشياء مع الجهل) هذا الأمر الأول، لأن الذي يؤمن بأن الله هو الذي خلق الكون، وخْلقُ هذه الأشياء يثبت لله صفة العلم، لاستحالة وجود هذه الأشياء مع الجهل، ولا يخلقها إلا من يعلمها كما قال تعالى: ((أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ))[الملك:14] سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      الأمر الثاني: أن الإيجاد والخلق لا يكون إلا بإرادة، فالإِنسَان عندما يريد أن يعمل أي عمل، فإن ذلك العمل لا بد أن يُسبق بإرادة وتصور، وهذا معنى قول المصنف: ولأن إيجاده الأشياء بإرادته، فالإرادة تستلزم تصور المراد، وأن يكون معلوماً عند الفاعل، فتصور المراد هو العلم بالمراد، فكان الإيجاد مستلزماً للإرادة، والإرادة مستلزمة للعلم، وعليه فالإيجاد مستلزم للعلم، فإيجاد الله تَعَالَى للمخلوقات يقتضي أن يكون عالماً بها، وإن كنا لم نعرف الحقيقة الكاملة لعلم الله عَزَّ وَجَلَّ؛ لكن المقصود حقيقة الإيمان بعلم الله عَزَّ وَجَلَّ.
      وأن الناظر إِلَى الآيات الكونية والآيات النفسية والآيات الآفاقية، يجد أنها تدل دلالة قاطعة ليس معها شك ولا ريب عَلَى أن الذي خلق هذه متصف بصفة العلم، وأن هذا العلم لا يمكن للمخلوق أن يتصوره ولا يمكن للإدراك البشري أن يصل إليه عَلَى الإطلاق.
      هذه أدلة فطرية وحسية وعقلية يسقط معها ويتهافت. قول من يقول: إننا لا نثبت لله تَعَالَى العلم، بل ننفي عنه الجهل.
      ولا يدخل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تحت قياس البشر لا في قياس التمثيل، ولا في قياس الشمول، يقول: (بل كل ما ثبت للمخلوق من كمال فالخالق أحق به وكل نقص تَنزّه عنه مخلوقاً ما فتنزيه الخالق عنه أولى)، وهذه القاعدة يمكن أن نضيف إليها قيداً فنقول: (كل ما ثبت للمخلوق من كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أولى به).
      هذه هي الفقرة الثامنة عشر المتعلقة بإثبات صفة العلم لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والرد عَلَى من أنكرها. والأدلة عَلَى إثبات العلم أكثر من هذا وإنما المقصود هنا التعرض لمذهب الجهمية النفاة وبيان بطلانه عقلاً ونقلاً.
      ثُمَّ تأتي الفقرة التاسعة عشرة.
  4. إثبات القدر

     المرفق    
    قال أبو جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [وقدَّر لهم أقداراً]
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [قال تعالى:: ((وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً))[الفرقان:2] وقال تعالى: ((إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ))[القمر:49] وقال تعالى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً[الأحزاب:38] وقال تعالى: ((الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى))[الأعلى:2، 3]، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: {قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه عَلَى الماء}]إهـ.

    الشرح:
    أقول: إن جملة: [وقدر لهم أقداراً].
    فيها دليل عَلَى إثبات القدر والمقادير أو التقدير.
    فأول ما خلق الله القلم قال له: اكتب فكتب مقادير كل شيء، فلا يقع بعد ذلك شيء في الدنيا إلا وهو موافق ومطابق لما كتبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يمكن أن يرد أحد من النَّاس ما قدره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقضاه.
    وقد سبق شرح هذا في مبحث الإرادة.
    ومن أركان الإيمان الستة: أن يؤمن الإِنسَان بالقدر أي: بأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عالم بكل شيء، وذلك قبل أن توجد هذه الأشياء وقبل أن تخلق، وأنه قدر كل ما كَانَ وما سيكون وكتب ذلك عنده، وأن الخير والشر من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يتنافى هذا مع ما قد سبق تقريره من أن سبب الخير فضل من الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وسبب الشر ذنب العبد، ثُمَّ إن ما كتبه - سبحانه - وقدره لا معقب له، ولا راد لقضائه بأي وجه من الوجوه، بل كما قال النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{واعلم أن الأمة لو اجتمعت عَلَى أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا عَلَى أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف}.
    فهذا دليل من أدلة كثيرة عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد كتب القدر، وقدر المقادير أو التقدير.
    1. الفرق بين القدر والتقدير

      والتقدير بمعنى: الخلق ومقادير المخلوقات بمعنى الموازين التي توزن به، وخلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل شيء بقدر قال تعالى: ((وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً))[الفرقان:2] فقوله: ((فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً))هو من هذا الباب أيضاً من باب التقدير الذي هو بمعنى وضع الأمور أي بخلق كل شيء، عَلَى مقتضى الحكمة التي قدرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وشاءها، فهذه مقادير المخلوقات من الحياة والموت، ومن الحجم والطول والعرض.
      وتقدير الأمور هو أيضاً من خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما قال سبحانه: ((الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى))[الأعلى:2-3] فهذا من "التقدير" لا من "القدر"، وإن كَانَ المعنى اللفظي واحد، والفرق بينهما أن القدر الذي هو ركن من أركان الإيمان وهو الإيمان بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علم كل شيء، وكتبه، وقضاه، وقدره، وأنه لا يقع إلا وفق ما علمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وكتبه وقدره وقضاه، وأنه لا يخرج عن هذا الأمر شيء، وأما إيماننا بتقدير الله مقادير المخلوقات فهذا جزء من إيماننا بأنه هو وحده الخالق، الحكيم، البارئ، المصور سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا الحديث قد سبق أن شرحناه وشرحنا قوله: وإن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه عَلَى الماء.

      ولم يخالف في إثبات القدر إلا القدرية ومن المعلوم أن مراتب القدر أربع: ومن القدرية من خالف في إثبات المرتبة الأولى وهي العلم، وهذه أقل فرقهم وقد سبق أن ذكرنا أن من أنكر العلم من القدرية فهو كافر.
    2. أكثر الاختلاف في القدر هو في باب أفعال المخلوقين

      أكثر الخلاف في القدر هو في أفعال المخلوقين وليس في العلم، ولهذا جَاءَ بالجملة التالية وهي امتداد لهذه الجملة، ليرد بذلك على المعتزلة الذين يقولون: إن الآجال ليست من تقدير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو أن الآجال تقع خلاف ما كتب الله عَلَى النحو الذي سنفصله.
      يقول أبو جعفر الطّّحاويّ رحمه الله تعالى:
      [وضرب لهم آجالاً]
      قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
      [يعني: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قدر آجال الخلائق، بحيث إذا جَاءَ أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. قال تعالى: ((إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)) [يونس:49] وقال تعالى: ((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً))[آل عمران: 145]، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قَالَ: {قالت أم حبيبة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورَضِيَ اللهُ عَنْها: اللهم أمتعني بزوجي رَسُول الله، وبأبي أبي سفيان، وبـأخي معاوية، قَالَ: فَقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئاً قبل حله، ولن يؤخر شيئاً عن حله، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النَّار وعذاب في القبر كَانَ خيراً وأفضل} فالمقتول ميت بأجله، فعلم الله تَعَالَى وقدَّر وقضى أن هذا يموت بسبب المرض، وهذا بسبب القتل، وهذا بسبب الهدم، وهذا بسبب الحرق، وهذا بالغرق، إِلَى غير ذلك من الأسباب، والله سبحانه خلق الموت والحياة، وخلق سبب الموت والحياة.
      وعند المعتزلة: المقتول مقطوع عليه أجله، ولو لم يقتل لعاش إِلَى أجله فكأن له أجلان.
      وهذا باطل؛ لأنه لا يليق أن ينسب إِلَى الله تَعَالَى أنه جعل له أجلاً يعلم أنه لا يعيش إليه ألبتة، أو يجعل أجله أحد الأمرين، كفعل الجاهل بالعواقب، ووجوب القصاص والضمان عَلَى القاتل لارتكابه المنهي عنه ومباشرته السبب المحظور.
      وعلى هذا يخرج قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {صلة الرحم تزيد في العمر} أي: سبب طول العمر.
      وقد قدر الله أن هذا يصل رحمه فيعيش بهذا السبب إِلَى هذه الغاية، ولو لا ذلك السبب لم يصل إِلَى هذه الغاية.
      ولكن قدر هذا السبب وقضاه، وكذلك قدر أن هذا يقطع رحمه فيعيش إِلَى كذا، كما قلنا في القتل وعدمه] اهـ.

      الشرح:
      قول أبي جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وضرب لهم آجالاً) هذه الجملة مأخوذة ومستنبطة من الآيات الكثيرة الدالة عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد جعل للخلق آجالاً ((فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)) [النحل:61] كما هو معلوم من آي كثيرة.
      ثُمَّ يقول المُصنِّف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: [يعني أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قدر آجال الخلائق بحيث إذا جَاءَ أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون قال تعالى: ((فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ))[النحل:61]. وقال تعالى: ((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً))[آل عمران:145] وذكر الحديث الذي في صحيح مسلم، وفيه إثبات الآجال، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل لكل مخلوق أجلاً، وهذا ثابت بنفس الآيات والأدلة التي تثبت القدر، ومنها الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في أن الجنين {يكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أم سعيد} فيؤمر الملك بكتب أربع كلمات، منها: الأجل، أي: أجل الإِنسَان، فليس هناك أي مجال لأن يتوقع أحد أن هذا الأجل يمكن أن يُغَيَّر ويمكن أن يُبَدَّل وقد كتبه الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الإِنسَان وهو لا يزال في بطن أمه؛ ليقطع الأمل؛ ويقطع تعلق النَّاس بأن أحداً غير الله يملك أن يمد في عمر فلان أو يقصر من عمر فلان، أو أنه إذا قتل فلاناً فإنه قد انتقصه شيء من عمره.
      والآجال والأرزاق قد قدرت وكتبت كما جَاءَ في الحديث الصحيح الآخر، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن روح القدس -وهو جبريل عَلَيْهِ السَّلام- نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب}، أي: إذا طلب الواحد شيئاً من أمور الدنيا فليطلبه بإحسان وليجمل في الطلب ولا يلح؛ فإنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها حتى آخر لحظة من لحظات الدنيا وهي ساعة الاحتضار فإن بقي له في تلك الساعة لقمة من طعام أو شربة من حساء أخذها، وكذلك العمر لن تموت نفس حتى تستوفي ما كتب الله لها من العمر وإن كَانَ لحظة واحدة أو نفساً واحداً، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أحصى كل شيء، وهو العليم بكل شيء، وهو الذي قدر مقادير كل شيء، طويت الصحف ورفعت الأقلام، وما عَلَى العباد إلا التسليم والانقياد والإذعان والإيمان بكل ما يقدره الله عَزَّ وَجَلَّ ويقضيه.

      أما حديث أم حبيبة بنت أبي سفيان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُما - فهو حديث صحيح، وقد دعت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وسمعها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي تدعو الله أن يمتعها بزوجها رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبأبيها وبأخيها، وهكذا النفس البشرية تتمنى وتتعطش إِلَى الخلود، وتدعو وترجو أن تخلد أو يخلد من تحب، وهذا شيء موجود في النفس البشرية، وليس هذا بذاته بمحظور مادام أن الله تَعَالَى قد جعله، وله فيه حكم.
      وهذا الشيء هو الذي جعل أبانا آدم يطيع الشيطان في قوله: ((إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ))[الأعراف:20] لما أغراه الشيطان بالخلود ولأن النفس الإِنسَانية تكره الموت والانقطاع وهذا هو الذي أشغل أبانا عن قضية أنه إذا أكل وقع في معصية الله عَزَّ وَجَلَّ، وأنساه عما أمر به الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فالشاهد أن أم حبيبة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها لما دعت بذلك وسمعها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {قد دعوت الله بآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة}، فلن يزيد عمر أحد يوماً واحداً، ولن يزيد رزقه ذرة واحدة، ولن يتأخر أجله ولو لحظة واحدة بسبب هذا الدعاء الذي قد يدعو به الإِنسَان، أو بأي سبب من الأسباب التي يلجأ إليها الإِنسَان. {لن يعجل شيئا قبل أجله، ولن يؤخر شيئاً عن أجله، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النَّار وعذاب في القبر كَانَ خيراً وأفضل} وهذا من آداب الدعاء، وهو أن الإِنسَان يسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يعيذه من عذاب النَّار ومن عذاب القبر، ويسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما يتعلق بالنجاة وبالفوز الأخروي، هذا أهم وأولى ما يدعو به الإِنسَان
      ، أما أن يدعو الإِنسَان بأمر فيه اعتداء، كالدعاء بطول العمر -مثلاً- وهو يعلم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد ضرب أجلاً محدوداً، فهذا محرم، ومثله من يدعو الله بجميع أنواع الأدعية التي فيها اعتداء كدعاء الله أن يحي ميتاً من الأموات؛ بل عَلَى الإِنسَان أن يدعو بما فيه خيري الدنيا والآخرة، والأولى أن يدعو الله بما فيه علاقة بالفوز بالجنة والنجاة من النار.
    3. الرد على الجهمية والمعتزلة في قضية تقدير الله للآجال

      ثُمَّ انتقل المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ بعد ذلك إِلَى بيان الرد عَلَى الجهمية والمعتزلة وخاصة المعتزلة في هذه القضية فذكر: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الخلق وخلق أعمالهم، وخلق الموت وأسباب الموت، وخلق الحياة وأسباب الحياة، فهو الخالق لذلك كله، بخلاف المعتزلة الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه، فعلى قولهم: لو أن أحداً قتل أحداً، فإن هذا القاتل قد قطع أجل المقتول الذي لو لم يقتله لعاش حتى يبلغه، ولهذا يقتل القاتل!
      فرد عليهم المُصنِّف رحمه الله تعالى: بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي خلق الموت، وخلق أسباب الموت، وهو الذي قدر أن هذا يموت بالحرق، وهذا بالغرق، وهذا يقتل بالسيف وهذا بالمرض.

      أما المعتزلة فقولهم واضح البطلان؛ لأنه يستلزم إثبات أجلين: أجلاً حقيقياً: وهو الذي قدر كما يقولون، وأجلاً واقعياً: وهو الوقت الذي بقي للمقتول.
      وهذا باطل؛ لأنه لا يليق أن ينسب إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أنه جعل للعبد أجلاً يعلم أنه لا يعيش إليه! وما الفائدة أن يجعل الله له أجل وهو يعلم أنه سيقتل دون أن يدركه، أو أن يجعل أجله أحد الأمرين كفعل الجاهل بالعواقب، وهَؤُلاءِ المعتزلة يقولون: إن الله أذن أن يعيش العبد ستين سنة -وأصل ضلالهم أنهم يقولون: إن أفعال العباد لا يخلقها الله- فلما قُتلَ وعمره أربعين سنة، فمعنى هذا أن الله عَزَّ وَجَلَّ جعل له أجل أربعين، وأجل ستين إن لم يقتله أحد.
      وإذا قتله أحد فيما دون ذلك فيكون هذا هو الأجل الحقيقي، فكأنهم والعياذ بالله ينفون العلم عن الله عَزَّ وَجَلَّ بدليل أنه لا يعلم أنه سيقتل، كل ذلك حتى يهربون من قضية أن الله هو الذي خلق أفعال العبد؛ لأنهم قالوا: إذا كَانَ الله هو الذي خلق فعل العبد فكيف يجازيه عليه؟ وإنما يجازى القاتل بالقتل حداً؛ لأنه قطع الأجل وهذا دلالة عَلَى الفعل إذا كَانَ الله خلق الفعل.

      والرد عليهم كما ذكر المصنف: وجوب القصاص والضمان عَلَى القاتل وذلك لارتكابه المنهي عنه ومباشرته إياه برضاه وباختياره، فالذي قتل مسلماً معصوماً بريء الدم برضاه وباختياره مستوجب للقتل ومستحق له؛ لأنه ارتكب ما نهى الله تَعَالَى عنه، ولهذا فإن القاتل إذا كَانَ مجنوناً - مثلاً - فإنه لا يقتل وهذا دليل عَلَى أن القاتل يقتل، لا لأن القاتل قطع أجل الله الذي قدره للمقتول، كما تزعم المعتزلة، بل من أجل أن القاتل ارتكب ما نهى الله عنه ومباشرته السبب المحظور.
      ثُمَّ يقول: (وعلى هذا يخرج قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {صلة الرحم تزيد في العمر} أي: سبب طول العمر) ولفظ الحديث: {من أراد أن يُنسأ له في عمره، ويبارك له في رزقه، فليصل رحمه}.
      وقد يشكل فهم هذا الحديث عَلَى كثير من النَّاس مع ما قد قدره الله وكتبه من الآجال - كما في حديث ابن مسعود - وحتى يزول ذلك الإشكال لا بد أن يعلم أن الله خلق النتائج مثل الموت والحياة، وخلق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأسباب: فقدر أن عمر هذا الإِنسَان ستين سنة -مثلاً- وقدر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن من أسباب كون عمره ستين سنة أنه يصل رحمه، كما لو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قدر عمر إنسان ثمانين سنة، فلا يسلط عليه وباء ولا داء بل يرزقه الصحة والعافية، فهذه أسباب خلقها بها طال عمر هذا الإِنسَان إِلَى الثمانين، وما قيل في هذا الإِنسَان يُقال في الإِنسَان الأول الذي عمر ستين سنة فكانت صلة الرحم سبباً لطول عمره إِلَى هذا القدر، وعلى هذا فلا يفهم أن من المفترض أن يكون عمر إنسان ما خمسين سنة، فلما جَاءَ بصلة الرحم زاد عمره إِلَى السبعين مثلاً.