المادة    
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وقد بلغ الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البلاغ المبين، وأوضح الحجة للمستبصرين، وسلك سبيله خير القرون، ثُمَّ خلف من بعدهم خلف اتبعوا أهواءهم، وافترقوا، فأقام الله لهذه الأمة من يحفظ عليها أصول دينها، كما أخبر الصادق صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين عَلَى الحق لا يضرهم من خذلهم} وممن قام بهذا الحق من علماء الْمُسْلِمِينَ: الإمام أبو جعفر أحمد بن مُحَمَّد بن سلامة الأزدي الطّّحاويّ، تغمده الله برحمته، بعد المائتين، فإن مولده سنة (تسع وثلاثين ومائتين) ووفاته سنة (إحدى وعشرين وثلاثمائة).
فأخبر رَحِمَهُ اللهُ عما كَانَ عليه السلف، ونقل عن الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وصاحبيه: أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الحميري الأنصاري، ومُحَمَّد ابن الحسن الشيباني رضي الله عنهم ما كانوا يعتقدونه من أصول الدين ويدينون به رَبّ الْعَالَمِينَ] إهـ.

الشرح:
يقول المصنف: [وقد بلغ الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البلاغ المبين وأوضح الحجة] وهذا لا يشك فيه أحد ولو شك فيه أحد لكان كافراً مرتداً، وهذه القضية بديهة ومعلومة عند جميع الْمُسْلِمِينَ .
لكن ما نجعله من لوازمها يخفى عَلَى كثير من الْمُسْلِمِينَ.
فإذا آمنا وأيقنا أن الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بلغ الدين كاملاً ولم ينقص منه أي شيء، فيترتب عَلَى ذلك أنه إذا وضع أحد قواعد نفهم بها بعض الآيات، أو جَاءَ بإضافات وأعمال جديدة لم يشرعها النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقَالَ: هذه من حقيقة الدين، فمعنى ذلك أن هذا الإِنسَان يقول بلسان حاله -إن لم يقل بلسان مقاله- أن ما جَاءَ به النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناقص، وأنه لم يبلغ البلاغ، ولم يؤدّ الأمانة التي وكلت إليه وحاشاه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك، لكن هذه هي حقيقة قولهم.

ومن ذلك التأويل الذي سيذكره المصنف.
  1. بلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم يستلزم المنع من وضع قواعد وإضافات ليست مستمده منه

    فالذين وضعوا قواعد التأويل متفقون ومطبقون ومجمعون عَلَى أن هذا التأويل لم يعرفه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا الصحابة، ويقولون: هذا من أصول الدين التي يجب أن نتمسك بها، ويردون بها كثيراً من النصوص، ويحرفون بها معاني كثير من الآيات لأنها قاعدة ضرورية!
    كيف تقولون إنه من أصول الدين مع قولكم: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يذكره ولم يتعرض له ولم يأت به؟!
    فلازم كلامكم أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما بلغ، وقد خان الأمانة والرسالة عياذاً بالله، وبذلك نفهم أهمية توثيق قضايا العقيدة التي خالفت فيها الفرق، وترتيبها وإرجاعها إِلَى القضايا المحكمة.

    ولذلك قال الشيخ مُحَمَّد بن عبد الوهاب رَحِمَهُ اللَّهُ في كشف الشبهات : "إن العامي الموحد يغلب الألف من الْمُشْرِكِينَ أو من أصحاب البدع".
    لأنه وإن كَانَ عامياً، وعلمه محدود، لكنه يرجع القضايا المشتبهة الشائكة التي يخوض فيها العلماء إِلَى قضايا واضحة وأصول وضوابط محكمة.
    فنرد المتشابهات أو المشكلات إِلَى المحكم الواضح الجلي، فإن جَاءَ أحد وقَالَ: نؤول هذه، أو نترك هذه، فعندنا كلمة عامة محكمة وهي: ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمنا به، وهكذا...
    فمن جاءنا وقَالَ: هذه زيادة نعمل بها، ولم يعملها بها الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، ولم يأت فيها شيء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالجواب عليه أنه: ما دام كذلك فهي ليست من الدين ولا أجر فيها ولا ثواب، بل فيها العقوبة والرد {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد}.
    وهذا ينطبق عَلَى ما وضع من قواعد علم الكلام، والبدع العملية والفرعية، بل كل بدعة ابتدعت فهي داخلة فيما أحدث بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والافتراق لم يقع في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يكن هناك معتزلة أو مرجئة.
    لكن كيف تفرقت الأمة؟ وكيف ظهرت هذه البدع؟
    ورد الحديث بذكر ذلك، وإن كَانَ بعضهم يطعن فيه، لأنه ليس في الصحيحين، وإنما ورد في المسند، وعند ابن أبي عاصم، وفي السنن في روايات كثيرة: {إن هذه الأمة تفترق عَلَى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النَّار إلا واحدة}وبعضها تذكر {إن اليهود افترقت عَلَى إحدى وسبعين فرقة والنَّصَارَى افترقت عَلَى اثنين وسبعين فرقة، وهذه الأمة تفترق عَلَى ثلاث وسبعين فرقة} وبعضها لا يذكر زيادة {كلها في النَّار إلا واحدة} وبعض الروايات تذكر صفات الفرقة الناجية وأنها {ما أنا عليه اليوم وأصحابي}.
    الشاهد أن مجموع الروايات تدل عَلَى صحة الحديث، حتى إن بعضهم عده من الأحاديث المتواترة مع أنه ليس في أحد الصحيحين، لكن الافتراق في ذاته ثابت وواضح من أدلة قطعية غير هذه الألفاظ، وغير هذه الروايات التي وردت في الحديث.
  2. من أسباب الاختلاف نسيان الحظ

    ونحن نعلم جميعاً أن اليهود والنَّصَارَى افترقوا إِلَى حد الاقتتال، وأنهم كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَر)) [البقرة:253] فهم اختلفوا وتفرقوا بغياً بينهم ((فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء))[المائدة:14].
    وأخبرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن اليهود والنَّصَارَى اختلفوا، وأخبرنا في هذه الآية من سورة المائدة أن سبب اختلاف النَّصَارَى أنهم نسوا حظاً مما ذكروا به.
    ولو أخذنا هذه الآية فإنها تفسر لنا كثيراً جداً جداً من أسباب وقوع الخلاف بين الْمُسْلِمِينَ، كيف أنهم لما نسوا حظاً مما ذكروا به وقعت العداوة والبغضاء بينهم.
    ونطبق هذه الجملة القرآنية عَلَى هذه الأمة، ونعرف أن هذه الأمة افترقت، بسبب "نسيان الحظ" وذلك بآيات وأحاديث الوعيد مثلاً:
    ذكر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى الوعيد فيمن قتل وزنى وسرق: ((وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً)) [الفرقان:68-69] وجاء أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن... إلخ}، وجاء في الحديث الآخر: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}.
    وهكذا نصوصٌ كثيرة في مقام الوعيد، فجاءت الخوارج فأخذت حظاً مما ذكروا به، حيث أخذوا بأحاديث الوعيد فقط، وَقَالُوا: إذاً من ارتكب كبيرة فهو كافر خارج من الملة، وتركوا الأحاديث والآيات التي تفسرها وأخذوا حظاً مما ذكروا به وتركوا الحظ الآخر، مع أنهم لو أخذوا هذا وهذا لفهموا ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان دعواهما واحدة}، فقد فُسِّر ذلك بأنه ما كَانَ من قتال في عهد عَلِيّ ومعاوية، وشهد لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإيمان والإسلام مع وقوع القتال، وفي آية الحجرات يقول تعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا)) [الحجرات:9] فالقتال يقع بين المؤمنين ولا يخرجهم من الملة، نعم هو كبيرة وعليها وعيد شديد، ولكن لا يخرج من الملة.
    وأخذت المرجئة حظاً آخر مما ذكروا به، فأخذوا بآيات وأحاديث الوعد: {من قال لا إله إلا الله دخل الجنة}، فأخذوا بروايات مطلقة مع وجود روايات تقيدها وتفسر معناها وتدل عليها، منها تكفير تارك الصلاة مثلاً: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} {بين العبد وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة}، فتركوا جانب الوعيد كله، وأخذوا بجانب الوعد فقط.
    وفي موضوع الصفات: فإثبات صفات الله عَزَّ وَجَلَّ جاءت في آيات كثيرة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمنا كيف نؤمن بصفات الله عَزَّ وَجَلَّ وأنها عَلَى جانبين: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الشورى:11] نفي وإثبات ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) هذا جانب نفي وتنزيه لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ((وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) هذا جانب إثبات لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    فجاءت المعطلة فأخذوا بجانب النفي والتنزيه فقط، وقالوا لا يسمع ولا يبصر، وليس له يد ولم يستو ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))، وإذا أثبتنا اليد والعين والنزول والرؤية، أصبح الإله من المخلوقات الممكنات، وأصبح له أعضاء والعياذ بالله، فقدموا أموراً لم ترد في كتاب الله ولا سنة رسوله، وقالوا نَحْنُ ننزه الله وننفي هذه كلها، ولو كانت في الكتاب والسنة، فإننا نأولها ونردها وننفيها حتى ننزه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنها، فأخذوا حظاً مما ذكروا به ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى: 11] ((هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً)) [مريم:65] ((وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)) [الإخلاص:4] ونفوا صفات الله عَزَّ وَجَلَّ بمثل هذه الآيات.
    وبالمقابل جاءت المشبهة ونسوا حظاً مما ذكروا به، وتركوا الآيات التي جاءت في تنزيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأثبتوا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الصفات كما يليق بالمخلوق -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- مشابهين في ذلك لليهود عندما قالوا: إن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى -كما هو مذكور في التوراة- خلق السموات والأرض في ستة أيام واستراح في اليوم السابع والعياذ بالله!
    فجعلوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتعب ويلغب، كما يلغب ابن آدم إذا عمل عملاً ما، ولذلك نفى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك فقَالَ: ((وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ)) [ق:38] أي: لم يمسنا التعب ولا النصب ولا اللغب، وردّ عليهم، فجاء هَؤُلاءِ المشبهة، وأخذوا من اليهود التشبيه وزادوا عليهم فَقَالُوا: له يد كيدنا، فجعلوا صفات الله عَزَّ وَجَلَّ مثل صفات المخلوق.
    فإذا قال لهم أُولَئِكَ المعطلة: أنتم شبهتم، قالوا: أنتم عطلتم، لذا قال السلف الصالح: المعطل عابد عدم، والمشبه عابد صنم، فالمعطل عابد عدم لأنه يقول: إن الله تَعَالَى لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا يمينه ولا شماله، وليس له يد، وليس له عين، وليس له أي صفة من الصفات، ولا يسمع ولا يبصر.
    إذاً: فهذا معدوم غير موجود، فالمعطل عابد عدم، ولكن المشبه عابد صنم لأن الذي يقول يد الخالق كيد المخلوق، ووجهه كوجه المخلوق، وقدمه كقدم المخلوق، فإنما هو يعبد صنماً، لأن الأصنام نحتت لكي تعبد من دون الله، لكي يقَالَ: هذا هو الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
    والشاهد أن سبب الخلاف بينهما هو أن هذا أخذ حظاً مما ذكر به ونسي حظاً، وهذا أخذ حظاً مما ذكر به ونسي الحظ الآخر، فأغرى الله بينهما العداوة والبغضاء.
    فتجد في كتب المعطلة أنهم يكفرون المشبهة، وفي كتب المشبهة يكفرون المعطلة، وفي كتب المرجئة يكفرون الخوارج، وفي كتب الخوارج يكفرون المرجئة، أغرى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بينهم العداوة والبغضاء، وهذا من أعظم أسباب الاختلاف أن لا يؤخذ الكتاب كله ولا يتلقى العلم والدين كله من عند الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
  3. وكذلك الشهوات وحب الدنيا

    ومن أسباب الاختلاف: "الشهوات وحب الدنيا" فإن حب الدنيا يفسد النية والإرادة، وإذا فسدت الإرادة ودخل الدخن إِلَى القلب، فإن الأعمال تفسد، ويترتب عَلَى فساد الأعمال فساد في الاعتقاد، وأسباب ذلك تبدأ بسيطة لكنها فيما بعد تظهر وتبدو، حتى تكون منهجاً من المناهج.
    فحب الدنيا كَانَ من عوامل الإفساد بين الْمُسْلِمِينَ، ومن عوامل تفرق الْمُسْلِمِينَ وهلاكهم كما جَاءَ في الحديث الصحيح، لما جَاءَ أبو عبيدة من البحرين بالغنيمة أو الجزية إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَ: {لعله بلغكم ما جَاءَ به أبو عبيدة من هجر }ومع ذلك قال لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخر الحديث: {فو الله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم} فالتنافس في الدنيا والتفرق فيها يؤدي إِلَى التفرق في الدين.

    ولذلك لما قام بعض النَّاس يريد الخلافة وينازع فيها تفرقت الأمة الإسلامية، حتى أصبح لهم في عام (72 أو 73) أربعة أمراء للحج، حجت طائفة مع بني أمية تحت راية بني أمية في يوم عرفة، وحجت طائفة تحت راية المختار بن أبي عبيد، وحجت طائفة تحت راية عبد الله بن الزبير، وحجت طائفة للخوارج تحت راية نافع بن الأزرق، أربع رايات للحج في وقت واحد وفي يوم واحد يوم عرفة بعد حوالي "60 سنة" من وفاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!
    وذلك لأجل الأهواء والشهوات وحب الدنيا والتنازع عَلَى الملك.
    كما قال أبو برزة في الحديث الذي رواه البُخَارِيّ، قَالَ: "والله إني لأحتسب عند الله أني أصبحت ساخطاً عَلَى هذا الحي من قريش، إن هذا الذي في العراق إنما يقاتل عَلَى الدنيا، وإن هذا الذي هنا إنما يقاتل عَلَى الدنيا، وإن أُولَئِكَ -يعني القراء الخوارج- إنما يقاتلون عَلَى الدنيا".
    فحب الدنيا كَانَ من أسباب تفرق الْمُسْلِمِينَ وتنازعهم واختلافهم.
  4. وكذلك دخول الحاقدين

    ومن أسباب تنازع الْمُسْلِمِينَ واختلافهم: دخول الحاقدين، وهذا عامل خارجي، والعامل الخارجي لا يأتي إلا عقوبةً لخلل داخلي، كما أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عاقب في يوم أحد: ((أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)) [آل عمران:165].
    فكانت العقوبة بسبب ما عند النفس من الذنوب كما جَاءَ في الآية الأخرى: ((مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَة)) [آل عمران:152] فبسبب فساد الإرادة، أو بسبب الخلل الداخلي تأتي العقوبة الخارجية، وتسليط الأعداء، وإلا فقد قال تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً)) [آل عمران:120]، فأعداؤنا يكيدون علينا ليل نهار دائماً، فإذا تحدثنا عن أي مصيبة أصابت الْمُسْلِمِينَ قلنا هو بسبب الأعداء، فالشيوعيون والصليبيون واليهود يخططون ويعملون ضدنا.. وهكذا وكأننا قوم مؤمنون صالحون متقون، ولكن هَؤُلاءِ آذونا وامتحنونا وفعلوا بنا!
    سُبْحانَ اللَّه!! لماذا لا ننظر إِلَى السبب الأعظم؟ وهو لماذا سلطهم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى علينا؟
    لأنه لا تقوى ولا صبر لدينا، ولذلك سُلطوا علينا فضرنا كيدهم وأثر فينا، ولله في ذلك حكمة.
    فاليوم أكثر الْمُسْلِمِينَ يوالون الكفار مع هذه المخططات الواضحة الجلية، فبالله كيف يكون الحال لو أن كَانَ الكفار لا يخططون ضدنا؟
    إذاً لحييناهم ولقبلناهم وبششنا عَلَى وجوههم.

    ولذلك شاء الله أن يكون مقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وهو من أكبر الفجائع في التاريخ الإسلامي، عَلَى يد رجل مجوسي لنعتبر، وعندما جيء به ليحقق معه، شهد بعض الصحابة بأن جفينة النصراني والهرمزان، وهما من ملوك العجم جاءا وأظهرا الإسلام في المدينة، واتفقا مع أبي لؤلؤة المجوسي، ورآهم قبل ذلك بليال وهم يتحدثون، وسقط بينهم السيف الذي له نصلان، وهو الذي استخدم في قتل عمر الفاروق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
    فـالنَّصَارَى والمجوس اتفقوا وبيتوا المؤامرة لمقتل عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، واكتشف الْمُسْلِمُونَ هذه المؤامرة ليعرفوا أن لهم أعداءً، وأن العداوة هذه لن تخمد أبداً، وليحتاطوا من أمثال هَؤُلاءِ.

    واليهود وضعوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السم في الشاة -كما جَاءَ في الحديث الصحيح- الشاة المسمومة التي أكل منها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى قالت الذراع: إنها مسمومة، أنطقها الله لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    فهم ألد أعداء الإسلام كما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)) [المائدة: 82] ولذلك جَاءَ اليهودي عبد الله بن سبأ وأثار الفتنة عَلَى عثمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ليكمل الدور الذي قام به أبو لؤلؤة المجوسي عليه، ولما حرق عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هَؤُلاءِ الزنادقة وكانوا من طائفة عبد الله بن سبأ اليهودي، هرب عبد الله بن سبأ ولجأ إِلَى بلاد فارس، حيث بذر الفكر المجوسي، فالتقى الفكر المجوسي مع الفكر اليهودي، وبذروا الفكرة التي أصبحت تؤلّه علياً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لأن علياً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إنما حرقهم عندما قالوا: أنت أنت.
    قَالَ: من أنا؟
    قالوا: أنت الله.
    فقال رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
    لما رأيت الأمر أمراً منكراً            أججت ناري ودعوت قنبراً
    قَالَ: أوقدوا لي نيراناً فأحرقوهم، فهرب عبد الله بن سبأ إِلَى بلاد فارس، وبذر هذه الفكرة في نفوس العجم، وأوجدت الدين السبئي الذي لا يزال قائماً حتى الآن.
    فمن أسباب تفرق الْمُسْلِمِينَ، وظهور هذه الفرق، هو المكر اليهودي والنصراني والمجوسي.
    وسنأتي أيضاً للتعرف عَلَى هذه الطائفة وغيرها عندما يأتي -إن شاء الله تعالى- الحديث عن الصحابة وما الذي يجب اعتقاده في حقهم رضوان الله عليهم؟
    فالمغرور والمخدوع من يظن أن هذه الطوائف الحاقدة التي أنشأها أعداء الإسلام، وبذروها في بلاد الْمُسْلِمِينَ، وفرقوا بها صف الْمُسْلِمِينَ-أنها يمكن أن تحب وتوالي الإسلام والْمُسْلِمِينَ، فإنها قامت عَلَى الحقد وبه تتغذى.
    والفرق والطوائف المبتدعة المنحرفة تعتمد في تكونها وتركيبها وتجميع أفرادها عَلَى معادة أهل الحق -الطائفة الكبرى- فليس هناك قضية عقلية خاصة، أو بحث نظري مجرد يجمعها، أو هو الذي أعطاها منهجاً، وإنما الذي يجمعها هو العداوة لـأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، أهل الحق، فيربون أنفسهم وأبناءهم وأجيالهم عَلَى الحقد عَلَى الطائفة الحق، لـأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أو الطائفة المنصورة التي قال عنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين عَلَى الحق لا يضرهم من خذلهم} وفي الرواية الأخرى: {لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون عَلَى النَّاس} وفي رواية من حديث جابر في صحيح مسلم زيادة مهمة أو تفسير مهم وهي: {لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من الْمُسْلِمِينَ حتى قيام الساعة} ففيها زيادة أن هذه الطائفة تجاهد النَّاس من أجل إقامة هذا الدين.
    وجهاد أهل البدع مشروع بالأحاديث المتواترة في قتال الخوارج، فهم من أهل البدع، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في الحديث الصحيح المتواتر كما قال بعض العلماء: {لو أدركتهم لقتلتهم قتل عاد}.
    ومن هنا أخذ العلماء قاعدة عظمى وهي: "مقاتلة أهل البدع" وهي أن حكم أهل البدع؛ المقاتلة إذا تميزوا وأصبحوا طائفة، وأما إذا بقوا في المجتمع فإنه يجب علينا أن نكبتهم ونمنعهم من نشر بدعهم والدعوة إليها، ومع ذلك نعطيهم أحكام الإسلام الظاهرة عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -لما لجأوا إِلَى جنبات المسجد وَقَالُوا: لا حكم إلا لله، لا حكم إلا لله، فقال-: إن لكم علينا ألاّ نمنعكم البيت، ولا نمنعكم المساجد، يعني تصلون معنا وتأخذون حصتكم من الفيء من بيت مال الْمُسْلِمِينَ، إلاّ إذا أحدثوا حدثاً، أي: إذا عملوا عملاً يخل بأمر المجتمع المسلم والجماعة المسلمة، وأحكام أهل البدع طويلة ولعله يأتي بعضها إن شاء الله.

    والطائفة المنصورة هي التي عَلَى مثل ما كَانَ عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، كما فسرتها رواية التِّرْمِذِيّ: {ما أنا عليه اليوم وأصحابي} ولما سئل الإمام أَحْمَد عن الطائفة المنصورة قَالَ: (إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم) وذلك أن لأهل الحديث مصطلحين:
    مصطلح علمي.
    ومصطلح شرعي.
    فالاصطلاح العلمي المراد به هم الذين يشتغلون بدراسة الحديث، ونقد الرجال والمتون ومعرفتها وتخريجها، فهَؤُلاءِ يسمون علماء الحديث، كما تقول علماء النحو، وعلماء البلاغة، وعلماء اللغة، وعلماء التفسير، وليس هذا هو المعنى المراد من الإمام أَحْمَد، لأنه يوجد من المحدثين من هو عَلَى بدعة خاصة في القرون الأخيرة، ويوجد من المشتغلين بالرجال ودراسة الأسانيد من لا يمثل عقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ حق التمثيل.
    والاصطلاح الشرعي: هم الذين يأخذون بالأحاديث ويعملون بها.
    ولذلك أطلق السلف عَلَى الذين لا يأخذون بالحديث والأثر من طوائف أهل البدع: أهل الكلام وأهل الجدل، لأن بدعهم لا تقوم عَلَى دليل من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما تقوم عَلَى الجدل وعلم الكلام، فبقيت الطائفة المنصورة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ يأخذون بالأحاديث.
    ولذلك يُسمون: أهل الأثر وأهل الحديث، أي: المتبعون لِمَا كَانَ عليهِ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه؛ فكلام الإمام أَحْمَد إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري منهم" أي المتبع للأثر، حتى وإن كَانَ من أهل اللغة، فقدماء أهل اللغة عموماً النضر بن شميل والخليل بن أحمد وأبو عبيد القاسم بن سلام من علماء اللغة والحديث هَؤُلاءِ من أهل اللغة وهم من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أيضاً.
    فأهل الحديث المراد بهم أهل الأثر المتبعون لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى هذا نستطيع أن نفهم أن الطائفة المنصورة هي المتبعة لما كَانَ عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وهي الناجية الوحيدة، وهي التي قامت بإبلاغ ونقل ما ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    ولذا يقول المصنف: [وممن قام بذلك الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ].
    فقد نقل عقيدة السلف، وبالذات عقيدة الإمام أبي حنيفة وتلميذيه، وهكذا كل من يأتي ويتكلم في عقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ إنما ينقل كلامهم ويشرحه ويوضحه، ولو جاءنا أحد بشيء من عنده لرددناه كما نرد عَلَى أهل البدع، فهذا هو الطريق المتبع وهذا هو طريق أهل الأثر.