إن من أعظم البغي تكفير المعين من أهل القبلة دون النظر إلى توافر الشروط وانتفاء الموانع، فقد يكون المعين مجتهداً مخطئاً مغفوراً له، وقد يكون له حسنات أوجبت له رحمة الله، وقد يكون جاهلاً لم تبلغه نصوص الأحكام، وهذه الموانع قد دلت عليها نصوص القرآن والسنة؛ كحديث صاحب بني إسرائيل الذي أمر أولاده إذا مات أن يحرقوه ويسحقوه ثم يذروه في يوم صائف.
  1. الجهل مانع من موانع التكفير

    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له، ويمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله، كما غفر للذي قال: إذا متُّ فاسحقوني ثم ذُرُّوني.. ثم غفر الله له لخشيته، وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته، أو شك في ذلك.
    لكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا لمنع بدعته، وأن نستتيبه، فإن تاب وإلا قتلناه.
    ]
    الشرح: هذا مثال آخر لكون المعين قد لا يندرج تحت الوعيد العام؛ فإن الإنسان قد يفعل الكفر أو يقوله، لكنه لا يندرج تحت الوعيد العام في التكفير أو التضليل أو التفسيق؛ لمانع من الموانع قام به، وقد ذكر المصنف من الموانع: أن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له، فقد يكون مذنباً، وقد يكون جاهلاً، كما يظهر من هذا الحديث، أن الحامل لصاحبه على أن قال ما قال هو الجهل، وسوف نفصل الكلام في هذا الحديث بعد أن نذكر بعض ألفاظه.
  2. حديث الرجل الذي قال لبنيه (إذا مت فاسحقوني)

    1. صحة الحديث والرد على من أنكره

      هذا الحديث متفق عليه، رواه الإمام البخاري والإمام مسلم، ورواه غيرهما من الأئمة، فهو حديث صحيح ثابت، ومن رده فقد ردَّ حديثاً صحيحاً ثابتاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا دليل له على رده، ولم يرده أحد أولم يعمل به بناءً على دليل علمي أو شبهة، وإنما غاية ما عندهم أن يقولوا: إنه مخالف للقطعيات أو للكليات، أو مخالف للأصول، أو ما أشبه ذلك، وهذا كله من معارضة الحق بالباطل؛ لأن الأصول والقطعيات عندنا هي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهناك فرق بين القواعد العقلية والقواعد الشرعية: فالقواعد العقلية لا تقبل التخصيص، فإذا وُجدت جزئية واحدة، أو مثال واحد لا تنطبق عليه القاعدة؛ بطلت القاعدة.
      أما القواعد الشرعية: فإنها وإن كانت قطعية فإنها تقبل التخصيص وتقبل التقييد.
      فهذا الحديث وأمثاله هو أصل برأسه، إذْ قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم وصحّ عنه، ولا يقال: إنه عارض الأصول.
    2. ذكر روايات الحديث التي في الصحيح

      وقد رواه الأئمة عن جمع من الصحابة، منهم: أبو سعيد الخدري، وحذيفة، وأبو هريرة رضي الله تعالى عنهم، وغيرهم كما في بعض الروايات، لكن هذه الروايات هي التي في الصحيح، فقد رواه الإمام البخاري عن هؤلاء الثلاثة:
    3. رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه

      الرواية الأولى: رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أن رجلاً كان قبلكم رغسه الله مالاً، فقال لبنيه لما حُضر: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإني لم أعمل خيراً قط، فإذا متُ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذرُّوني في يومٍ عاصف، ففعلوا، فجمعه الله عز وجل، فقال: ما حملك؟ قال: مخافتك، فتلقاه برحمته}.
      هذا الرجل من بني إسرائيل ممن كان قبلنا {رغسه الله مالاً} أي: أعطاه الله مالاً ووسع عليه، وقيل: إن الرواية الصحيحة {رأسه}.
      {فقال لبنيه لما حُضر} أي: عندما جاءه الموت وحضره، {أي أبٍ كنتُ لكم؟} يسأل أبناءه فيقول لهم: يا أبنائي! كيف كانت أبوتي ومعاملتي لكم؟ {قالوا: خير أب}، وأبوهم يريد بذلك أن يستوثق منهم، فكأنه يقول: مقابل إحساني إليكم وتربيتي لكم وأبوتي الحانية عليكم ... إلخ؛ أريد منكم أن تنقذوني من عذاب الله {قال: فإني لم أعمل خيراً قط}، ولا يلزم من كونه لم يعمل خيراً قط، أن يكون تاركاً لجميع الفرائض مرتكباً لجميع المحرمات، لكن قد يقال: إنه قالها هضماً للنفس، واعترافاً بالتقصير، فهذا الرجل لا ريب أنه من أهل التوحيد، وإلا لما استحق رحمة الله سبحانه وتعالى، فإن الكفار ملعونون مطرودون من رحمة الله، لكن هذا الرجل لم يعمل خيراً قط، ومعناه كما جاء في بعض الروايات: أنه أسرف على نفسه في المعاصي، وفرط في حق الله؛ تركاً للواجبات، وارتكاباً للمحظورات، فقال: {فإذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في يوم عاصف} واليوم العاصف هو الذي تكون الريح فيه شديدة، فهو يريد منهم أن يذروه كما في قوله تعالى: ((تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ))[الكهف:45]، بمعنى: أن يحرقوه ثم يسحقوه ثم يطحنوه، ثم يذروه في يوم عاصف، فتذهب به الريح في كل مكان، {ففعلوا، فجمعه الله عز وجل، فقال: ما حملك؟}، أي: ما الذي دفعك إلى ذلك؟ وما الذي حملك على ما صنعت؟ وما سبب الإقدام على هذا الفعل؟ {قال: مخافتك، فتلقاه برحمته}.
    4. رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنه

      الرواية الثانية: رواية حذيفة رضي الله تعالى عنه أن عقبة قال له: ألا تحدثنا ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعته يقول: {إن رجلاً حضره الموت، لما أيس من الحياة أوصى أهله}، وفي الرواية الأولى: (أبناءه)، قال: {إذا مت فاجمعوا لي حطباً كثيراً، ثم أوروا ناراً، حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي، فخذوها فاطحنوها، فدرُّوني في اليم في يوم حارٍّ -أو راحٍّ-} (في اليم) أي: في البحر، (في يوم حارٍ -أو راحٍّ-)، قيل: من الحور، وقيل: في يوم حانٍ، فإن العرب تقول إذا اشتدت الريح: تحن كحنين الإبل، أو تحور كحور الإبل، (أو راحٍّ) أي: شديد الريح، {فجمعه الله، فقال: لِمَ فعلت؟ قال: خشيتك. فغفر الله له، فقال عقبة: وأنا سمعته يقول}. فالحديث من رواية عقبة وحذيفة رضي الله عنهما.
    5. رواية أبي هريرة رضي الله عنه

      الرواية الثالثة: رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، إلا أنه قال في أولها: {كان رجل يسرف على نفسه في المعاصي، فلما حضره الموت قال لبنيه: ...} إلخ الحديث.
    6. شرح الحديث

      وقد ذكر الإمام البخاري رحمه الله هذا الحديث في كتاب الرقاق، وفي كتاب التوحيد، وفي كتاب أخبار الأنبياء، وبوب له في كتاب الرقاق: (باب الخوف من الله)، وهذا من فقه الإمام البخاري رحمه الله، وكما قال العلماء: فقه البخاري في تراجمه.
      ومن هنا نعلم ما يريده البخاري رحمه الله وما الذي يختاره في معنى هذا الحديث؛ لأن الحديث فيه خلاف كبير، فـالبخاري رحمه الله عندما يضعه في باب معين ويختار له ترجمة معينة؛ فإنه يضعه في الباب الذي يرى أنه يدل عليه، فقد قال رحمه الله وغفر له: (باب الخوف من الله)، فلينتبه لهذه الترجمة!
      عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعاً: {كان رجل ممن كان قبلكم يسيء الظن بعمله}، ولهذا قال في الرواية الأولى: {لم أعمل خيراً قط}، وفي رواية: (لم يبتئر خيراً قط) فقد كان يسيء الظن بعمله، وقد جاء في بعض الروايات: أنه (كان نباشاً)، ينبش القبور فيسرق الأكفان وما قد يجد فيها، وهذا الفعل من أقبح أنواع الجرائم، فإن الإنسان إذا سرق الأحياء فهي جريمة بشعة وشنيعة، فكيف إذا سرق الأموات؟! ومعنى ذلك: أن الخوف من الله والخوف من الموت وتذكر الآخرة غائب عن ذهنه تماماً، فإن بعض الناس -وإن كان مسرفاً في المعاصي- إذا رأى جنازة أو ميتاً أو مقبرة خاف وارتدع، أما الذي يقدم على سرقة القبور ويحفرها وينبشها ليأخذ ما فيها من الأكفان؛ فإن هذا دليل على قسوة القلب وغلظته وبعده عن الله، وأنه لا يفكر في اليوم الآخر، ولا يخاف الله، ولا يرجو لقاءه، وهذا العمل وأعمال أخرى -كما يبدو من ظاهر الروايات- تستحق أن يُساءَ الظن بها.
      {فقال لأهله: إذا أنا مت فخذوني فذروني في البحر في يوم صائف}، ولا تعارض بين الروايات، فقد ورد: {نصفه في البر ونصفه في البحر}، المهم أنه حدد لهم (في يوم صائف)، أي: يوم عاصف، شديد الرياح، فبعد أن تطحن عظامه يذر بعضها في البر وبعضها في البحر؛ ليكون -كما يظن- أصعب إعادة؛ فهو يظن أنه لو بقي على هيئته ووضع في القبر، فستكون إعادته سهلة، لكن إذا تفرق بهذا الشكل فسوف يغيب فكأنه يغيب ويتلاشى تماماً، ولن يبعث ولن يحاسب ولن يعاقب. قال: {ففعلوا به، فجمعه الله، ثم قال: ما حملك على الذي صنعت؟ قال: ما حملني عليه إلا مخافتك، فغفر له}.
      وعن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً فيمن كان قبلكم آتاه الله مالاً وولداً}، أي: أعطاه الله مالاً وولداً، وفي الرواية السابقة: (رغسه أو رأسه)، وهي بمعنى واحد. {فلما حضر قال لبنيه: أي أبٍ كنت لكم؟} (أيّ) اسم استفهام منصوب على أنه خبر كان مقدم، {قالوا: خير أب} كما في الرواية الأولى، فهو أراد أن يستوثق منهم بأنهم سوف يمتثلون ما يريد، قال: {فإنه لم يبتئر عند الله خيراً فسرها قتادة: لم يدخر}، وهذه الرواية فيها الثقات، فإن الرجل قال: فإني لم أبتئر، لكن الصحابي أو الراوي عدل عن قوله: (فإني) فقال: (فإنه)، كما جاء في حديث موت أبي طالب قال: {هو على ملة عبد المطلب}، فعدل الراوي عن أن يقول: (أنا)، وهذا من حسن الكلام، أن يعدل الإنسان عما لا يستساغ أن يقوله، وخاصةً في مثل هذا الأمر؛ لأن فيه كفراً والعياذ بالله! وهنا الأمر أخف من الكفر، لكن الراوي عدل عنه فقال: {قال: فإنه لم يبتئر عند الله خيراً}، أي: قال الرجل لأبنائه: أنا لم أدخر عند الله خيراً قط، فمعنى ذلك: أنا قادم على مصير خطير، فماذا أرجو وقد حضر الموت وحان اللقاء؟ فيقول لأبنائه: لابد من حيلة، فأعينوني على الخلاص من هذه المشكلة، وكان الحل الذي تخيله وظنه هو هذا. قال: {وإن يقدم على الله يعذبه}، وفي بعض الروايات: {لئن قدر الله علي ليعذبني}، وهذا سنذكره فيما بعد؛ لأن قوله: (قدر) جاء في بعض الروايات فقط، ولذلك فقد أخطأ من قال: إن إنكاره أو شكه في قدرة الله ناشئ من قوله: (لئن قدر علي)، فإن قوله هذا ليس شرطاً في إنكاره للقدرة، فإن الروايات التي ذكرناها وليس فيها ذكر القدرة، الظاهر منها أنه ليس موقناً بقدرة الله.
      فالرجل يريد أن يتخلص ويفر من عقاب الله، وظن أن هذه الوسيلة مؤدية إلى الخلاص، فقال: {وإن يقدم على الله يعذبه، فانظروا فإذا مت فأحرقوني، حتى إذا صرتُ فحماً فاسحقوني -أو قال: فاسهكوني- ثم إذا كان ريحٌ عاصف فاذروني فيها}، وفي هذه الرواية زيادة بعض المعاني، فإن قوله: {إذا مت فأحرقوني، حتى إذا صرت فحماً} أي: اجمعوا حطباً، وأحرقوا الجسد حتى لا يبقى منه شيء، ثم إذا احترقت -أو امتحشت- العظام فاسحقوها، وانتظروا حتى إذا كانت ريح عاصف فاذروه فيها، واجعلوا بعضه في البر وبعضه في البحر، وهذا غاية ما يمكن أن يُتَصور من التلاشي، وفقدان المادة التي يعاد أو يبعث منها الإنسان.
      {فأخذ مواثيقهم على ذلك}، وعند مسلم : {فأخذ منهم يميناً}، فعاهدوه وحلفوا له بالأيمان أنه إذا مات أن يفعلوا به هكذا، فلما أخذ منهم الموثق على ذلك مات، والتقدير: فمات ففعلوا، {فقال الله: كن}، هذه قدرة الله تعالى كما قال سبحانه: ((قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ))[يس:78-79]، وقال عز وجل: ((كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ))[الأعراف:29] وقال تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ))[الروم:27]، فهو أهون عليه، سبحانه وتعالى، ولا فرق عند الله تعالى سواء بقي الإنسان على هيئته، أو سحق وطحن، أو أكله السبع، أو الحوت، أو رمي في أي مكان ... فلا يؤثر ذلك في شيء من قدرة الله سبحانه وتعالى.
      فلهذا قال الله سبحانه وتعالى: {كن، فإذا رجلٌ قائم}، وهذا مصداق قوله تعالى: ((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ))[يس:82]، فإذا رجلٌ قائم، من البر ومن البحر.. العظام المطحونة.. اللحم الذي أكلته النار.. كل شيء سحق وطحن وذُري، أعاده الله سبحانه وتعالى كما كان، فإذا به رجل قائم بين يدي الله سبحانه وتعالى.
    7. هل وقعت المساءلة للرجل من الله تعالى أم لم تقع؟

      يورد البعض سؤالاً حول قصة هذا الرجل فيقولون: هل وقعت المسائلة لهذا الرجل من الله على الحقيقة في قبره، أم أنه حكاية لما سيقع في يوم القيامة؟
      فالظاهر أنه وقع قبل يوم القيامة، وإن كان بعض العلماء يقول: إن هذا ذكر لما سيكون يوم القيامة.
      وعلى أية حال: إن كان ذلك قد وقع -وهو الظاهر الذي نراه- فهو ظاهر الحديث، وإذا لم يقع، فهو -كما ذكرنا- من باب أن الله سبحانه -وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم- قد يخبر عن أشياء مستقبلية لم تقع على أنها قد وقعت؛ لتيقن وتحقق وقوعها كما أخبر الله تعالى وكما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم. {قال: كن، فإذا رجلٌ قائم، ثم قال: أي عبدي! ما حملك على ما فعلت؟ فقال: مخافتك، أو قال: فرقٌ منك}، والفرق: هو الخوف، قال: يا رب! مخافتك والفرق منك.
  3. الخوف من الله عزوجل

    إن الخوف من الله تعالى من أهم الأمور التي يجب أن نتعظ ونعتبر بها، فقد ترجم البخاري رحمه الله لهذا الباب: (باب الخوف من الله)، فلابد أن نكون خائفين من الله.. خائفين من ذنوبنا، فإن هذا الرجل قد بلغ به الخوف حداً بعيداً، أذهله وأنساه قدرة الله سبحانه وتعالى على الإعادة وعلى الخلق، ونحن لا نصل إلى هذا الحد، لكن لابد من الخوف من الله عز وجل، ولهذا يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح "هو من المقامات العلية، وهو من لوازم الإيمان، قال الله تعالى: ((وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ))[آل عمران:175]، وقال تعالى: ((فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ))[المائدة:44]، وقال تعالى: ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ))[فاطر:28]، وتقدم حديث: {أنا أعلمكم بالله، وأشدكم له خشية}"، فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أشد الناس خشية لله وتعظيماً له، قال: "وجمع بين العلم والخشية، وهما متلازمان في الحديث كما هما في الآية"، فأشد الناس خشية لله هم أعلمهم بالله وبصفاته، وقدرته وعذابه، كما قال تعالى: ((نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ))[الحجر:49-50] فإذا عرفوا ذلك فإنهم سوف يتقون ويخافون ويرجون.
    1. خوف المقربين

      يقول الحافظ رحمه الله: "وكلما كان العبد أقرب إلى ربه كان أشد له خشية ممن دونه"، أي: كلما كان الإنسان أقرب إلى الله وأحرص على طاعة الله، فإنه يكون أشد خوفاً من غيره، ولذلك فإن المسرفين على أنفسهم بالمعاصي، والمجاهرين بما حرم الله، والمرتكبين للموبقات، نجد أن الخوف من الله في قلوبهم مفقوداً أو شبه مفقود، وبالعكس؛ فإن العباد الأتقياء الصالحين الورعين الزاهدين، هم أكثر الناس خوفاً من ربهم، كما قال تعالى: ((وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ))[المؤمنون:60]، ولهذا لما سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أهؤلاء هم الذين يسرقون ويزنون ويسرفون على أنفسهم بالمعاصي؟ قال: لا يا ابنة الصديق . هؤلاء الذين يصومون ويصلون ويزكون، ولكنهم يخافون ألا يتقبل منهم}، فهم ((يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ))[المؤمنون:60]، والوجل: هو الخوف ((أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ))[المؤمنون:60]، فيأتون بالطاعات، ويفعلون الواجبات، ويتركون المحرمات، ويتقربون إلى الله سبحانه وتعالى بما شرع من النوافل بعد الفرائض، ومع ذلك (قلوبهم وجلة) أي: خائفة؛ إذ لا يدرون هل يتقبل منهم أم لا؟
      يقول الحافظ: "وكلما كان العبد أقرب إلى ربه كان أشد له خشيةً ممن دونه، وقد وصف الله تعالى الملائكة بقوله: ((يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ))[النحل:50]، والأنبياء بقوله: ((الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ))[الأحزاب:39]"، وكلما عظمت خشية الله سبحانه وتعالى في قلب عبدٍ من العباد هانت عليه خشية الناس حتى لا يكاد يخافهم، وقد ذُكر عن بعض السلف -قيل هو العز بن عبد السلام، وقيل: غيره من العلماء- أنه دخل على أحد سلاطين المماليك وكان بطاشاً جباراً، فقالوا له: لِمَ لمْ تخف منه؟ قال: لما دخلتُ على السلطان ورأيت عظمته وهيبته تذكرت عظمة الله، فإذا هو عندي -أي: السلطان- مثل الهر. إن هؤلاء بالنسبة إلى الله عز وجل لا شيء، فلا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ومثل هذا لو شاء الله لأسكته وأماته وأهلكه في تلك اللحظة، ولو شاء الله لكان أول من يقتله جنده الذين يفتخر ويعتز بهم، ولكان أول ما يدمره ماله الذي يظن أنه هو الذي جمعه، كما قال قارون: ((إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي))[القصص:78] فقد تقتضي مشيئة الله أن يكون مالك أو جاهك أو غيره سبب هلاكك؛ إذ الكل بيد الله سبحانه وتعالى.
      فكلما كان الإنسان أخشى لله سبحانه وأخوف منه، فإنه يكون أقل خوفاً وخشيةً ممن دونه؛ لأنه يكون على يقين بأن الرازق والخالق والمدبر لكل شيء هو الله، وأن الناس لو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وكذلك لو أرادوا أن ينفعوه، فالكل منه سبحانه وتعالى، فالفضل له وحده، والخوف يكون منه وحده سبحانه وتعالى.
      يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وإنما كان خوف المقربين أشد؛ لأنهم يطالَبون بما لا يطالَب به غيرهم، فيراعون تلك المنزلة"، فالمقربون مع قربهم من الله وعلمهم به، ومعرفتهم لدين الله، إذا أخطئوا خطأً صغيراً فإنه يكون كالخطأ الكبير من غيرهم، فقد تكون النظرة من طالب العلم أو من العالم أشد أو مثل الزنية من الفاجر، ذلك لأن الفاجر ليس عنده علم بالله عز وجل، وكذلك لخلو قلبه وفراغه من خشية الله، فلهذا يخاف المقرب من الذنب وإن كان صغيراً بالنسبة إلى ما يرتكبه أصحاب الكبائر، وهذا -مع الأسف- عكس ما هو سائد في حياتنا الآن، فإن خطابنا وكلامنا دائماً إنما هو ( نحن أحسن من غيرنا) وهذه مصيبة، فقد أصبحنا عكس ما أمر الله به ونبيه صلى الله عليه وسلم، وعكس ما كان عليه السلف الصالح والمقربون، فشعارنا أمام كل فحشاء وكل منكر ومصيبة وداهية تحصل منا (أننا أحسن من غيرنا)، حتى تارك الصلاة إذا قيل له: اتق الله، أقم الصلاة، فإنه لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، قال: أنا أحسن من غيري! هناك أناس يشربون الخمر، ويذهبون إلى بانكوك ويفعلون.. ويفعلون.. وهل هناك شيء أشد من ترك الصلاة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أو تترك أمتي الصلاة؟!} لقد استغرب النبي صلى الله عليه وسلم أن تترك أمته الصلاة! ولكن مع الأسف هذا هو الحاصل من بعض من ينتسب إلى الإسلام، كما ذكر الله تعالى عن بني إسرائيل: ((فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ))[مريم:59]، فإذا كان تارك الصلاة يرى أنه أحسن من غيره، فإن شارب الخمر يرى أنه أحسن من غيره، فيقول: هناك أناس يتعاطون المخدرات ويزنون! وآكل الربا يرى أنه أحسن من غيره ... وهكذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
      فهل هذا شعار الصالحين المؤمنين، إن المؤمنين هم الذين يخافون إذا أطاعوا واستقاموا .. يجاهدون في سبيل الله ويخافون ألا يتقبل الله منهم الجهاد، ويصلون جماعة بإقامة الأركان والواجبات والسنن، ويخافون أن لا تقبل منهم، وينفقون في السر من طيب أموالهم وكسبهم، ويخافون أن لا يقبل منهم، فما أبعد حالنا عن حال السلف الصالح والله المستعان!
      يقول: "لأنهم يطالبون بما لا يطالب به غيرهم".
      فالمجتمع الذي يعرف دين الله تعالى وأمره، ويعرف الحلال والحرام، مطالب بما لا يطالب به غيره، والإنسان وإن كان مقرباً أو صالحاً أو فيه خير، فهو مطالب بما لا يطالب به غيره.
      إذاً: اعرف منزلتك، واعرف قدرك، واستقم على أمر الله.
      يقول رحمه الله: "ولأن الواجب لله منه الشكر على المنزلة؛ فيضاعف بالنسبة لعلو تلك المنزلة، فالعبد إن كان مستقيماً فخوفه من سوء العاقبة؛ لقوله تعالى: ((يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ))[الأنفال:24]"، إذاً: الواجب على الإنسان إذا كان من المقربين أن يشكر الله سبحانه وتعالى، ويضاعف الخوف منه سبحانه، فإن هذا من شكر النعمة، فإذا رزق العبد الخوف من الله فمن شكر النعمة أن يخاف الله أكثر، وإذا رزق التقوى فمن شكرها أن يتقي أكثر، وإذا رزق الاستقامة فمن شكرها أن يستقيم أكثر.. وهكذا، فكل عمل من أعمال الخير من شكر الله عز وجل عليه أن يزيد العبد منه، هذا هو معنى كلامه رحمه الله كما يبدو.
      يقول رحمه الله: "فالعبد إن كان مستقيماً فخوفه من سوء العاقبة"، وما أكثر من تكون حياته كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: {يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها}.
      إذاً: الخوف من سوء العاقبة والخاتمة، هو ديدن الصالحين، وعباد الله المتقين، وما من أحد إلا وهو يخاف على نفسه من ذلك حتى الأنبياء، ولذلك كان دعاء يوسف عليه السلام: ((تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ))[يوسف:101] فلابد أن يدعو العبد ربه أن يحييه مؤمناً ويتوفاه على الإيمان، فإنه لا يضمن ذلك مهما استقام في حياته، والكلام في هذا يطول.
      يقول الحافظ : "أو نقصان الدرجة بالنسبة" فالعبد إما أن يحال بينه وبين قلبه فيحبط عمله بالكلية -عياذاً بالله- كما مر معنا في قصة الرجل الذي قال: (والله لا يغفر الله لفلان)، أو تنقص درجته؛ إذْ ربما يكون في شبابه على استقامة، ودعوة، وجهاد، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ثم يختم له في آخر عمره بضعف وفتور ونقص في ذلك، وإن لم ينقطع بالكلية.
      يقول: "وإن كان مائلاً فخوفه من سوء فعله"، أي: إن كان مذنباً فخوفه من سوء فعله، ولذلك ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثل المؤمن والمنافق مع ذنوبهما، فقال: "المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا" أي: أطاره بيده، فمهما افترى، أو كذب، أو زنى، أو سرق، أو أكل الحرام، أو ترك الصلاة، كلها عنده كذباب وقع على أنفه ثم طار وذهب، وكأن لم يكن شيء، لكن المؤمن الذي يخاف الله ويشعر بخطر الذنوب، لو فعل ذنباً واحداً لرآه كالجبل يخاف أن يقع عليه.
      يقول الحافظ: "وينفعه ذلك مع الندم والإقلاع، فإن الخوف ينشأ من معرفة قبح الجناية والتصديق بالوعيد عليها، وأن يحرم التوبة، أو لا يكون ممن شاء الله أن يغفر له، فهو مشفق من ذنبه، طالب من ربه أن يدخله فيمن يغفر له"، ثم ذكر رحمه الله أحاديث كثيرة في الدلالة على هذا الموضوع، والمقصود هنا هو دلالة الحديث، وما يتعلق بموضوع العقيدة، وهو الحكم على المعين، وأن المعين قد لا يندرج تحت الوعيد.
  4. الجواب على استشكال: كيف غفر للرجل وهو منكر للبعث؟

    يقول الحافظ رحمه الله: عند رواية: {فو الله لئن قدر الله علي} "قال الخطابي: قد يستشكل هذا فيقال: كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى؟" لأنه قال: (لئن قدر الله عليَّ)، حتى وإن لم يذكر لفظ القدرة فإنه قد أوصى أبناءه أن يحرقوه؛ ظناً منه أن هذا الشيء سيخلصه من البعث والحساب.
    لقد كان يرى أنه وقع في مأزق عظيم.. فالموت أدركه وحضره، وصفحته كلها سوداء، وديوانه كله خطايا، وتذكر شدة عذاب الله سبحانه وتعالى، وتذكر أن أمامه كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وملائكةً يكتبون ما يفعل ولن يظلموه شيئاً، وميزاناً ينصب يوم القيامة: ((وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ))[الأنبياء:47]، وعرضاً على الله سبحانه وتعالى، ووقوفاً بين يديه.. تذكر هذه المعاني كلها، فظن أن لا مخرج له أبداً، وأمام هذا الضيق والكرب والشدة والبحث عن حلٍّ؛ أوصى بهذه الوصية.
    إذاً: هو يظن أن هذه الوصية سوف تنجيه من عذاب الله، وأنهم إن فعلوا به ذلك فلن يقف بين يدي الله ولن يسأله الله؛ لأنه قد تفرق في البر والبحر وذهبت به الريح في كل مكان وانتهى أمره.
    فهو -على حسب الاستشكال الذي أورده الخطابي رحمه الله- منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى، قال الخطابي: "والجواب: أنه لم ينكر البعث"؛ لأنه لو كان منكراً للبعث لما خاف من لقاء الله عز وجل، فهو معترف ومصدق بالبعث، لكن الخطأ والخلل جاء من ظنه أن هذه الحيلة سوف تنجيه من البعث.
    يقول الخطابي: "وإنما جهل فظن أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب، وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله"، فإيمانه واضح، إذ قد قال: (خشيتك يا رب). (مخافتك يا رب)، يقول الحافظ: "قال ابن قتيبة " وهو أديب أهل السنة كما أن الجاحظ أديب المعتزلة ". قال: "قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين فلا يكفرون بذلك"، وهذه العبارة انتصر لها وأيدها شيخ الإسلام رحمه الله، فقوله: (قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين)، فليس كل مسلم لابد أن يكون محيطاً بجميع صفات الله، فقد يغلط، وهذا شيء وارد، لكنه قال: (في بعض الصفات)، وقال: (قوم من المسلمين)، أي أن هناك أسباباً؛ إما لجهلهم، وإما لغير ذلك، فلتلك الأسباب يقع بعض المسلمين في الخطأ أو الغلط في بعض الصفات، فليس هذا من باب الإنكار والجحود، فلا يكفرون بذلك.
    وهنا تقام عليهم الحجة، وتكشف لهم الشبهة، ويبين لهم. وإن كان الأصل أن جحد الصفات كفر بلا شك، لكن قد يغلط من يغلط في ذلك، فلهذا قلنا: إن المُعَيَّن لا يُسرع في الحكم عليه، فربما يكون جاهلاً، وربما يكون مخطئاً.. فليس كالجاحد إنكاراً، الذي يكفر بها رداً وتكذيباً.
    1. ذكر من أول قوله: (لئن قدر الله علي)

      قال الحافظ : "ورده ابن الجوزي -أي: رد كلام ابن قتيبة- وقال: جحده صفة القدرة كفر اتفاقاً"، أي: ما دام أنه جحد القدرة، وأن الله لا يقدر على جمعه وبعثه؛ لأنه ظن أن الله لن يقدر على بعثه بعد أن يطحنوه ويذروه؛ فإن هذا كفر اتفاقاً. قال: "وإنما قيل: إن معنى قول: (هلئن قدر الله عليَّ) أي: ضيّق"، وهذه هي التأويلات، فإذا أخرجنا اللفظ عن ظاهره فلابد من تأويله، وهناك عدة تأويلات:
      التأويل الأول: قوله: (لئن قدر الله عليَّ) أي: ضيق، قال ابن الجوزي: "وهي كقوله: ((وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ))[الطلاق:7] أي: ضيق".
      التأويل الثاني: قال: "ولعل هذا الرجل قال ذلك من شدة جزعه وخوفه، كما غلط ذلك الآخر فقال: {اللهم أنت عبدي وأنا ربك}" والجواب عن التأويل الأول سنذكره عندما نذكر كلام شيخ الإسلام، وأما التأويل الثاني: فإن هناك فرقاً بين الرجلين؛ إذ إن صاحب الدابة عندما قال: {اللهم أنت عبدي وأنا ربك} أخطأ في اللفظ فقط، أما في المعنى فهو يريد أن يقول: (اللهم أنت ربي وأنا عبدك)، لكنه من شدة الفرح أخطأ لسانه، أما هذا فإنه قال: (أحرقوني ثم اسحقوني..) إلخ، فهو معتقد من قلبه وجازم على الفعل، ومصمم عليه ومريد له، إذ قال: افعلوا بي هذا الفعل حتى لا يبعثني ربي ولا يجازيني.
      إذاً: الفرق بينهما واضح، فليس حكمهما واحداً.
      التأويل الثالث: قال: "أو يكون قوله: (لئن قدَّر عليَّ) -بتشديد الدال- أي: قدَّر علي أن يعذبني ليعذبني"، أي: إن كان مقدراً علي العذاب، وقد قضى الله بأني أعذب، فإني سوف أعذب عذاباً لا يعذبه أحد قبلي.
      وهذا التأويل يخرج الحديث عن معناه؛ لأنه لا فائدة حينئذ من حرقه وطحنه وذره في الريح؛ لأنه إن كان كتب عليه العذاب فسيعذب؛ سواء طحنوه أو لم يطحنوه، أحرقوه أو لم يحرقوه، فهذا الكلام إذاً ليس له معنى، وقد رد عليه شيخ الإسلام رداً علمياً كما سنذكره.
      التأويل الرابع: قال: "أو على أنه كان مثبتاً للصانع، وكان في زمن الفترة، فلم تبلغه شرائط الإيمان"، وهذا تأويل غير صحيح؛ لأنه كان من بني إسرائيل، وقد قال: أسرفتُ على نفسي بالمعاصي، وما ادخرتُ خيراً قط، فهذا دليل على أنه عارف بأمر الله، عالم بشرع الله، فكيف يقال بأنه من أهل الفترة؟!
      يقول الحافظ رحمه الله: "وأظهر الأقوال: أنه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه، حتى ذُهب بعقله لما يقول"، أي: لم يعد يعقل حقيقة ما يقول، قال: "ولم يقله قاصداً لحقيقة معناه؛ بل في حالة كان فيها كالغافل والذاهل والناسي، الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه"، فهذا الرجل عند الموت غلب عليه الخوف حتى نسي ما عدا ذلك، وقد يأتي على بعض الناس حالة يذكر فيها الرجاء المطلق وينسى الخوف، في حال الموت وفي غيره، لكن هذا لأنه في حال الموت ولإسرافه في الذنوب والمعاصي؛ كان ذلك أليق به أن يكون أكثر ذهولاً ونسياناً لقدرة الله سبحانه وتعالى، فهو لا ينكر أن الله على كل شيء قدير، ولا ينكر البعث بعد الموت، لكن لشدة خوفه من البعث أمر أبناءه أن يفعلوا به ذلك، فهو موقن أن البعث سيكون، لكنه ظن أن هذه حيلة يمكن أن ينجو بها من العذاب فيتلافى البعث.
      يقول الحافظ : "وأبعد الأقوال قول من قال: إنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر"، وهذا كلام بعيد؛ إذ كيف يجوز أن يغفر الله للكفار؟ وعلى هذا التأويل لن يكون للحديث معنى، لكن يظل معناه وموعظته وعبرته قائمة على الاحتمال الصحيح: أن الخوف من الله عز وجل هو الذي حمله على ذلك.
  5. فتوى ابن تيمية في الاحتراز من تكفير المعين

    سئل شيخ الإسلام رحمه الله: "عن قومٍ داوموا على الرياضة مرة -أي: الرياضة الروحانية وهي التعبد- فرأوا أنهم قد تجوهروا" أي: قد صُفِّيت نفوسهم حتى تحولوا إلى جواهر، ومعلوم أن أصل التصوف مأخوذ من الديانة الهندوسية، وعندهم أن الإنسان يتجوهر أو يتروحن، أي: يعذب الجسد حتى يُصفى الجوهر فيبقى الروح فقط، وهذه طريقة عبادة الهنود، فإذا صُفِّيت الروح اتحدت ببراهما، ولهذا فإن أصل دين الاتحادية والحلولية والوجودية هو من ذلك الدين الباطل، فإنهم يقولون: نعبد الله حتى نتحد معه، ثم يقول أحدهم: أنا الله! أو سبحاني سبحاني! أو ما في الجبة إلا الله! تعالى الله عما يصفون!
    يقول: "فرأوا أنهم قد تجوهروا فقالوا: لا نبالي الآن ما عملنا، وإنما الأوامر والنواهي رسوم العوام، ولو تجوهروا -أي: العوام- لسقطت عنهم، وحاصل النبوة يرجع إلى الحكمة والمصلحة"، أي: أن الغرض من النبوة ومن الدين ومن القرآن هو الحكمة والمصلحة، "والمراد منها ضبط العوام"، وهذا كما يقول الفلاسفة كـابن سينا وغيره: أن هذه الأوامر والنواهي والخطابات التي في القرآن عن صفات الله وغيرها، المراد بها الجمهور والعوام فقط، قال: "ولسنا نحن من العوام فندخل في حجر التكليف؛ لأننا قد تجوهرنا وعرفنا الحكمة.
    فهل هذا القول كفر من قائله؟ أم يبدع من غير تكفير؟ وهل يصير ذلك عمن في قلبه خضوع للنبي صلى الله عليه وسلم؟".
    لأنهم مع هذا الكفر يدعون محبة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه.
    فأجاب رحمه الله: "لا ريب عند أهل العلم والإيمان أن هذا القول من أعظم الكفر وأغلظه، وهو شرٌ من قول اليهود والنصارى؛ فإن اليهودي والنصراني آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض"، وكذلك عندهم التزام ببعض الأوامر، أما هؤلاء فقد قالوا بالتحلل من كل أمرٍ ونهيٍ.
    ثم ذكر أن هذا أيضاً شرٌ من شرك العرب؛ لأن العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كان لديهم التزام ببعض الشيء، فلم يقل بالتحلل بالكلية من الأمر والنهي إلا هؤلاء وشيوخ الصوفية الذين يقولون: يسقط عنا التكليف إذا بلغنا درجة اليقين، فإن الله يقول: ((وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ))[الحجر:99] فعندهم: إذا بلغ العبد منزلة في العبادة سقطت عنه التكاليف!
    يقول: "فمن كان من قوله هو أنه أو طائفة غيره قد خرجت عن كل أمرٍ ونهي، بحيث لا يجب عليها شيء، ولا يحرم عليها شيء، فهؤلاء أكفر أهل الأرض، وهم من جنس فرعون وذويه، وهم مع هذا لابد أن يلتزموا بشيء يعيشون به".
    فحتى لو قالوا: لا نلتزم أمراً ولا نهياً، فإن هذا محال؛ لأنه لابد أن يلتزموا بشيء يعيشون به. قال: "إذ لا يمكن للنوع الإنساني أن يعيش إلا بنوع أمرٍ ونهي" بل حتى في بلاد الغرب التي يسمونها بلاد الحرية الشخصية والديمقراطية ...إلخ، لا يمكن أن يعيشوا من غير التزام أمرٍ ونهي، فالذي يقول: أنا لا أعبد شيئاً ولا ألتزم بأمر ولا بدين، فإن هذا محال، وإذا لم يكن عابداً لله فلابد أن يكون عابداً حتى للشيطان أو الطواغيت عموماً.
    قال: "فيخرجون عن طاعة الرحمن وعبادته إلى طاعة الشيطان وعبادته"، ولهذا فالأوراد والأذكار والرياضات البدعية؛ كلها من عبادتهم للشيطان.
    يقول: "ففرعون هو الذي قال لموسى: ((وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ))[الشعراء:23]" على سبيل الإنكار، "ثم كانت له آلهة يعبدها كما قال له قومه: ((وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ))[الأعراف:127]، أو (وإلهتك) كما في قراءة أخرى، فيصير المعنى على هذه القراءة: لا يعبدك، وليس فيها شاهد على ما نحن بصدده، لكن على القراءة المشهورة (وآلهتك) أي: لا يعبد ما تعبد يا فرعون، وهنا الشاهد على ما قاله شيخ الإسلام .
    إذاً: حتى فرعون كان يعبد آلهة، وهذا هو الواقع من تاريخ الفراعنة والمصريين القدماء أنهم كانوا يعبدون أصناماً.
    يقول: "فمنهم من يزعم أنه سقطت عنه الصلوات الخمس لوصوله إلى المقصود، وربما قد يزعم سقوطها عنه إذا كان في حال مشاهدة وحضور"، كما يقول بعض الصوفية: أن الصلاة لا تسقط عنه دائماً لكن أحياناً، فيصلي بعض الصلوات، ويحضر بعض الجمع ويتخلف عن بعضها، فإذا قيل له في ذلك قال: لقد كنتُ في حال الجمع! أو كنت في حال المشاهدة والحضور! نعوذ بالله من ذلك! يقول: "وقد يزعمون سقوط الجماعات عنهم استغناءً عنها بما هو فيه من التوجه والحضور"، يقولون: إن الغرض من الذهاب إلى المسجد أن يكون الإنسان قلبه متعلقاً بالله وحاضراً، وهذا الأمر يحصل لنا ونحن في البيت! وهذا من أشد الكفر والضلال، يقول: "ومنهم من يزعم سقوط الحج عنه مع قدرته عليه؛ لأن الكعبة تطوف به"، وكم من شيوخ الصوفية قيلت عنه هذه الحكاية! يقال لأحدهم: لمَِ لم يحج الشيخ؟ فيقول: كيف يحج والكعبة تطوف به؟!! نعوذ بالله من هذا الكذب والافتراء على الله، فهذا القول أكفر من تركه لهذا الركن من أركان الإسلام، قال: "ومنهم من يستحل الفطر في رمضان لغير عذر شرعي، زعماً منه استغناءه عن الصيام"، يقول: إن الغرض من الصيام هو التهذيب الروحي ونحن في قمة الروحانية، فلِمَ الصيام؟!! "ومنهم من يستحل الخمر"، وأول من اكتشف الحشيش هم الصوفية الفقراء الهنود، عندما كانوا يمشون في الأرض ويأكلون أي شيء من النبات، فوجدوا هذه الشجرة فأكلوها، فرأوها شجرة عجيبة، يأكلها الفرد فيخرف ويظن أنه يرى الجنة والنار ..إلخ، فخدمت قضيتهم الروحانية الحمقاء، ولذلك أُثِرَ عن بعضهم أنهم كانوا ينهون عن شرب الخمر، ويقولون: الحشيش أحسن منه، والعياذ بالله!
    يقول رحمه الله: "ومنهم من يستحل الخمر زعماً منه أنها إنما تحرم على العامة الذين إذا شربوها تخاصموا وتضاربوا دون الخاصة العقلاء"، فالحكمة عندهم والعلة في تحريم الخمر أنها تورث العداوة والبغضاء، كما ذكر الله في القرآن، يقولون: وهذه العداوة إنما تحصل بين العوام، الذين إذا سكروا تشاجروا وتخاصموا، لكن مشايخ الطرق إذا شربوا فلن يفعلوا شيئاً من هذا، فالعلة منتفية. قال: "ويزعمون أنها تحرم على العامة الذين ليس لهم أعمال صالحة، فأما أهل النفوس الزكية والأعمال الصالحة، فتباح لهم دون العامة".
    وهذه من الشبهات الشيطانية التي لبسها عليهم الشيطان، وما أكثر التلبيس!
    قال شيخ الإسلام: "وهذه الشبهة كانت قد وقعت لبعض الأولين"، فقد شرب أفراد من الصحابة الخمر ظناً منهم أنها حلال، تأويلاً لقوله تعالى: ((لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا))[المائدة:93].
    قال: "ومن هؤلاء من يستحل بعض الفواحش؛ كاستحلال مؤاخاة النساء الأجانب والخلو بهن، زعماً منه أنه يحصل لهن البركة بما يفعله معهن، وإن كان مُحرماً في الشريعة"، لقد كان يقال هذا الكلام فيقول البعض: لعله إشاعات غير صحيحة، وها هو ذا شيخ الإسلام يذكره، وهذا ما يقوله الصوفية من البركة في الخلوة والزنا والفواحش والموبقات، والعياذ بالله!
    يقول: "فهؤلاء كفار باتفاق المسلمين، وهم بمنزلة من يستحل قتل المسلمين بغير حق، ويسبي حريمهم، ويغنم أموالهم، وغير ذلك من المحرمات".
    الشاهد لهذا الموضوع قوله: "لكن من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يعذر به، فلا يحكم بكفر أحدٍ حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة، كما قال الله تعالى: ((لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ))[النساء:165]"، فمع ما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عنهم إلا أنه يحترز ويذكر احتمالات حتى لا يفهم كلامه في سياقٍ دون ما يقصد، فيقول: لا يعني ذلك أن كل من استحل شيئاً من المحرمات يكفر مطلقاً؛ لأن من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يعذر به، والتكفير يكون كما قال: "فلا يحكم بكفر أحد حتى تقام عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة"، فلابد أن يبلغ قبل أن نكفره، وهذا الحكم إنما هو عندنا نحن في تكفير الناس، وليس عند الله، أما عند الله فإن الله تعالى أعلم بعباده.
    يقول: "كما قال تعالى: ((لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ))[النساء:165]، وقال تعالى: ((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا))[الإسراء:15]، وقد جعل شيخ الإسلام هذه الآية في العذاب الذي هو العقوبة في الدنيا، لكن المراد بها: عذاب الآخرة الذي هو العذاب على ترك أوامر الله، وليس العذاب الكوني القدري الذي يقع لهم في الدنيا إذا كفروا أو أعرضوا.
    قال رحمه الله: "ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، أو لم يعلم أن الخمر يحرم؛ لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا؛ بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية".
    وهذا الأمر يقع كثيراً عند الذين أسلموا قريباً ولم يعلموا بأحكام الشريعة.