من الأصول المتقررة والقواعد المتحتمة المشتهرة: أنه لا يلزم من إطلاق حكم الكفر على قول أو فعل ثبوت موجبه في حق المعين، إلا إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع، ومن موانع التكفير: التأويل والخطأ، فأهل السنة يفرقون بين المتأول والمخطئ وبين المعاند المكابر، أما أهل البدع فقد كفر بعضهم كل من أتى بمكفر ولم يفرقوا بين المتأول وغيره، ومنهم من لم يكفر أحداً وإن ارتكب ما ارتكب من نواقض الإسلام، وهذا خطأ في المنهج، وضلال في المعتقد.
  1. التكفير في الاعتقادات والعمليات عند أهل البدع

    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال، لكن في الاعتقادات البدعية، وإن كان صاحبها متأولاً، فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول، لا يفرقون بين المجتهد المخطئ وغيره، أو يقولون: بكفر كل مبتدع، وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة، فإن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ونصوص الوعد التي يحتج بها هؤلاء تعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك.
    والكلام في الوعيد مبسوط في موضعه، وسيأتي بعضه عند الكلام على قول الشيخ: "وأهل الكبائر في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون.
    والمقصود هنا: أن البدع هي من هذا الجنس، فإن الرجل يكون مؤمناً باطناً وظاهراً، لكن تأوَّل تأويلاً أخطأ فيه، إما مجتهداً وإما مفرطاً مذنباً، فلا يقال: إن إيمانه حبط بمجرد ذلك، إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي، بل هذا من جنس قول الخوارج والمعتزلة، ولا نقول: لا يكفر؛ بل العدل هو الوسط وهو: أن الأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة المتضمنة نفي ما أثبته الرسول أو إثبات ما نفاه، أو الأمر بما نهى عنه أو النهي عما أمر به؛ يقال فيها الحق، ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص، ويبين أنها كفر، ويقال: من قالها فهو كافر ونحو ذلك، كما يُذكر من الوعيد في الظلم في النفس والأموال، وكما قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الآخرة، ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها.
    وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: "ناظرت أبا حنيفة رحمه الله مدة، حتى اتفق رأيي ورأيه أن من قال بخلق القرآن فهو كافر"]
    اهـ.
    الشرح:
    يقول رحمه الله: [وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال] أي: هناك من فرق بين العمليات والعلميات، فلا يكفرون في العمليات كشرب الخمر أو الزنا أو السرقة مثلاً، فيوافقون في هذا مذهب أهل السنة، لكنهم إذا جاءوا إلى باب العلميات أو الاعتقاديات تجرءوا في التكفير؛ لأن الأمر يتعلق بالعقيدة، وهم يظنون أن من اعتقد عقيدة مخالفة للحق إما في ذاته أو في نظرهم فإنه يكفر.
    وهذه الطوائف لا يشترط أن تكون من الخوارج أو المعتزلة، وإنما هي طوائف توافق كلام الخوارج أو المعتزلة، إلا أن الذي يقوله هؤلاء في العمليات هم يقولونه في الاعتقاديات أو العلميات.
    يقول المصنف: [لكن في الاعتقادات البدعية وإن كان صاحبها متأولاً] أي: لا يفرقون بين قائل وقائل، وهذا يدخلنا في مسألة المعين، وقد أطال المصنف رحمه الله في مسألة التفريق بين إطلاق الوعيد على عمومه وبين وصف المعين به، فكل وعيد عام جاء في الآيات أو الأحاديث فإنه يقال ويقرر كما جاء في النصوص، لكن تنزيله على معين يحتاج إلى تثبت واستيفاء شروط وانتفاء موانع.
    1. تكفير المتأول والمخطئ عند أهل البدع

      قال المصنف: "وإن كان صاحبها متأولاً، فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول لا يفرقون بين المجتهد المخطئ وغيره"، أو يقولون بكفر كل مبتدع، فمثلاً يقولون: من نفى صفة من صفات الله فقد كفر، فهذه العبارة من حيث الجملة صحيحة، وذلك لو قيلت على أساس أن النفي إذا أطلق فإنه يطلق على من ينفي نفي إنكار وجحود لما في القرآن مثلاً.
      لكن هذه العبارة أحياناً تطلق على من نفى متأولاً، فتكون في هذه الحالة خاطئة؛ لأن من الناس من يخطئ فينفي بعض الصفات وإن كانت في القرآن، أو ينفي بعض ما ورد في القرآن ويكون متأولاً لا جاحداً ولا منكراً، فبعض العلماء قال في مثل قول الله تعالى في آية الكرسي: ((وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ))[البقرة:255] الكرسي هو العلم!! وهذا تأويل، فهل يكفر قائله وإن كان متأولاً؟! ونعني بالمتأول الذي لا يكفر: هو من كان له تأويل سائغ، أو كان القول ناشئاً عن اجتهاد له وجه من النظر.
      والتأويل له ثلاث حالات: منه ما يكون كفراً، ومنه ما يكون بدعة ضلالة، ومنه ما يكون خطأ.
      فالتأويل الكفري مثل تأويلات الباطنية عموماً، وكقول الرافضة : يجب أن تقتل عائشة ؛ لأن الله تعالى يقول: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً))[البقرة:67] فهذا التأويل غير سائغ وليس له أي وجه من النظر؛ لأن هذه الآية نزلت في موسى عليه السلام وبني إسرائيل، وقد ذكر الله تعالى أنهم ذبحوها، فقال: ((فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ))[البقرة:71] فهذا التأويل مردود من أصله.
      والتأويل البدعي مثل تأويل قوله تعالى: ((وَسِعَ كُرْسِيُّهُ))[البقرة:255] بأنه علمه، فهذا التأويل له شبهة وله وجه، وهو أن هذا ورد ونقل، وقد يكون النقل غير صحيح؛ ولكن بعض الناس قد يعتمد على دليل ضعيف وهو يرى أنه صحيح، أو أنه نقل عن السلف، فمثل هذا لا نكفره؛ لأن له وجهاً، فالحل الصحيح في مثل هذا أن نكشف الشبهة، ونبين له عدم صحة الدليل إن كان غير صحيح، أو قد يكون الدليل صحيحاً؛ لكنه لا يدل دلالة صريحة على ما ذهب إليه، لكن وقعت شبهة في فهمه رأى أنها هي الدليل، فهذا نكشف له الشبهة ولا نكفره؛ لوجود أدلة وقرائن لديه وشبهات، وهذه الشبهات لا تصلح أن تكون قطعيات، وليست دلائل صريحة بلا شك، ولكن أيضاً لا نتناساها ونلغيها بالكلية؛ إذ هي موجودة عنده، فمثل هذا لا يبادر بتكفيره، وإنما يبين له الحق وتقام عليه الحجة، وذلك كمن ينكر الرؤية متأولاً، فإن أئمة من أهل السنة كفروا من أنكر الرؤية؛ لكن المتأول تقام عليه الحجة وتكشف له الشبهة ولا يبادر إلى تكفيره، ومثله من جهل بأحاديث عذاب القبر ونعيمه ولم تقم الحجة عنده بالآيات، فهذا أيضاً متأول تكشف له الشبهة.
      والناس في ذلك مراتب ودرجات؛ فمن الناس من هو عالم جليل له بحار من الحسنات وأخطأ في قول، فالله يغفر له.
      ومنهم من هو مبتدع ضال زائغ، ولكن لا يصل بنا الأمر إلى تكفيره، وبينهما درجات متفاوتة تتدرج في الحكم.
      فمن كفَّر كل من قال هذا القول ولم يفرق بين المجتهد المخطئ وبين المعاند المكابر فقد أخطأ، وكذلك من قال بكفر كل مبتدع فإنه مخطئ أيضاً.
    2. الرد على أهل البدع في تكفيرهم المتأول والمخطئ

      قال المصنف رحمه الله: [وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة، فإن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان] وهذا لا شك في صحته، فقد وردت فيه نصوص متواترة، منها: حديث أنس في الصحيحين وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان} وهؤلاء هم الجهنميون، ولا يمكن أن تدخل الجنة إلا نفس مؤمنة قطعاً.
      إذاً: هذا عنده إيمان ولو ذرة، وليس بكافر، وهنا الدلالة، فلو كفرتم كل من قال بدعة ولو مغلظة لكانت هذه الأحاديث ضدكم في هذا؛ لأنكم تجعلونه خارجاً من الملة، ومعنى ذلك: أنه خالد مخلد في النار.
      قال المصنف: [ونصوص الوعد التي يحتج بها هؤلاء تعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك] فهما طائفتان متقابلتان في العمليات والعلميات؛ فطائفة أطلقت نصوص الوعيد فقط، وطائفة نظرت إلى نصوص الوعد فقط، وكلتاهما على خطأ؛ كما قال: "وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي استدلت بها المرجئة ونصوص الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة؛ تبين لك فساد القولين"، أي أنك إذا نظرت إلى كلام المرجئة تجد عندهم أدلة على أنه من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان فإنه يخرج من النار، وهذا حق، وأن الصدقة تطفئ الخطيئة، وأن من مات في سبيل الله غفر له عند أول قطرة من دمه، وأن الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة مكفرة لما بينها، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم مثلَّ الصلوات الخمس بنهر جار غمر يغتسل منه الإنسان كل يوم خمس مرات، فهل يبقى فيه درن؟! وأن الإنسان إذا قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر.
      فينظرون إلى هذا الجانب، فيقولون: كيف تقولون بعد ورود هذه الفضائل: إن من اعتقد كذا فهو في النار! صحيح أن عنده بدعة، لكن عنده هذه الأعمال كلها، فينسون البدعة نهائياً وينظرون إلى هذه الأعمال التي ورد فضلها.
      ولكن الوعيدية الذين يأخذون نصوص وألفاظ الوعيد، يقولون مثلاً: هذا يأكل أموال اليتامى وقد قال الله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا))[النساء:10] فهذا في النار وسيصلى سعيراً، وينظرون إلى حديث: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن} يقولون: هذا زنى، وهكذا حديث: {ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن} وهذا شرب الخمر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الكاسيات العاريات المائلات المميلات: {لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها}، إذاً: هذه لن تجد عرف الجنة الذي هو ريحها.
      ولو نظرنا إلى كتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري رحمه الله في جانب الترغيب فقط لقلنا: لن يدخل النار أحد، ولو نظرنا جانب الترهيب فقط لقلنا: لن يسلم منها أحد، ولكن الواجب هو أن تجمع هذه وهذه، فهذا هو المنهج الوسط والعدل والحق، إذ الإنسان الذي يأكل الربا ويأكل أموال اليتامى ولكن عنده حج وجهاد وصدقة وذكر وإنفاق وقراءة قرآن، ليس مثل الذي حياته كلها ربا وأكل مال يتيم أو زنا وليس عنده هذه الأمور.
  2. منهج أهل السنة في الحكم على أهل البدع والكبائر

    إن المنهج الرباني هو أن يحكم على الإنسان بمجموع أعماله، فبالنسبة للآخرة يجب أن لا نختلف، فالموازين تنصب يوم القيامة عند الله تعالى: ((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ))[الأنبياء:47] ومذهب أهل السنة والجماعة أنه ميزان حقيقي وله كفتان، ففي كفة توضع الحسنات وفي الأخرى توضع السيئات، فتوزن الأعمال كما في حديث صاحب البطاقة وغيره، وهذا في الآخرة.
    وأما في الدنيا فإنه يجب علينا أيضاً أن نأخذ نفس الميزان، فلهذا أمرنا الله سبحانه وتعالى عندما وضع الميزان ((أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ))[الرحمن:8-9].
    وليس معنى الميزان بالقسط هو في البيع والشراء فقط! بل هو ميزان عام في الحياة كلها كما قال تعالى: ((وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا))[الأنعام:152] وقال: ((وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ))[الإسراء:35] أي في جميع أمور حياتكم، وقال: (( أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ))[الرحمن:8-9]، فيجب عليك أيها المسلم أن تقيم الوزن في كل شيء حتى في عباراتك، ولا يصح أن يكون الحال أنك إذا كنت راضياً عن فلان قلت فيه أحسن ما تعلم ومدحته، وإذا غضبت عليه قلت فيه أسوأ ما تعلم! بل لابد أن يكون كل ذلك بميزان، فكما أن الميزان يوم القيامة عدل؛ فكذلك يجب علينا في الدنيا أن نزن بالعدل، فإذا ارتكب شخص جريمة فلا ننسى فضله إن كان له فضل، والعكس صحيح: فعندما نتكلم عن الفضائل، فليس معنى ذلك أننا ننكر ما يكون قد وقع فيه مما لا يليق، وقد بين ضوابط ذلك علماء الجرح والتعديل.
    فنجد عندهم الموازين العادلة، فهم يعطون الإنسان ما له وما عليه دون حيف أو جور، ولذا ائتمنهم الله على هذا العلم الشريف الذي اختصت به هذه الأمة، وهو علم الإسناد والجرح والتعديل، فيزنون الناس بالميزان الصحيح. فإذا تعرضوا -مثلاً- لأحد من الخوارج، فلا يقولون: إنه خارجي وانتهى، أو شيعي وانتهى؛ بل إذا كان له فضل في علم أو جهاد، أو حتى في الشعر والتأليف فإنهم يقولون: وله كتاب في البلدان أبدع فيه، أو له شعر جيد، وله كذا وكذا.. لكن عقيدته كذا، حتى إنهم عندما تكلموا عن شعر أبي العلاء لم يقولوا: إنه ملحد ضال وشعره من أسفه الشعر! وكذا أبو نواس الشاعر الماجن، بل إن الإمام الذهبي والخطيب البغدادي أثنيا على شعره، فشعره جيد لكن موضوعاته باطلة وفيها خطأ، فلابد من الميزان العدل.
    ثم من مزايا العدل أنك إذا كنت عادلاً منصفاً؛ فإن الخصم تؤنبه نفسه ويستسلم ويضطر أن يرجع إلى الحق، لكنه إذا رآك تظلمه ولا تذكر إلا معايبه وتنسى فضائله ولا تنصفه، فإن ذلك يدفعه إلى عدم قبول الحق وإلى المكابرة والمجادلة والمدافعة، وإن كان ذلك بالباطل، نسأل الله العفو والعافية.
    يقول المصنف: [والمقصود هنا أن البدع هي من هذا الجنس] قوله: (هذا) إشارة إلى الكبائر العملية، فالبدع حكمها حكم الكبائر العملية، قال: "فإن الرجل يكون مؤمناً باطناً وظاهراً" واحترز بقوله: (باطناً) لكي يبين خطأ من كفره؛ لأننا إذا قلنا: إنه كافر؛ فمعناه أنه في الباطن غير مؤمن، وإذا قلنا: إنه مؤمن ظاهراً فقط فليس بغريب؛ لأن المنافقين مؤمنون في الظاهر، لكن المصنف يقول: "فإن الرجل يكون مؤمناً باطناً وظاهراً، لكن تأوَّل تأويلاً أخطأ فيه؛ إما مجتهداً وإما مفرطاً مذنباً، فلا يقال: إن إيمانه حبط بمجرد ذلك، إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي"، فالمصنف رحمه الله يُعلِّم أهل السنة أن لا يغلوا ولا يتسرعوا في إطلاق التكفير أو التبديع أو التضليل حتى يتبين حل المعنى هل هو مخطئ معذور أو مجتهد أم لا؟
    فهذه هي عقيدة أهل السنة، لكننا نجد أهل البدعة يكفرون أهل السنة بما يعتقدونه من الحق، فمثلاً: تجد معظم كتب الأشاعرة ونفاة الصفات يقولون: ما حكم من يثبت الجهة لله؟ ويقصدون بالجهة العلو.
    فهناك ثلاثة أقوال عند الأشاعرة في هذه المسألة: القول الأول: من أثبت أن الله فوق العالم فإنه يكفر، ومعنى هذا أن من أثبت ما جاء في القرآن وما جاء في السنة فإنه يكفر! وهذا من العدوان والبغي والظلم! قالوا: لأنه أثبت شيئاً في حق الله مستحيلاً، فأثبت لله المحال، وهو أن الله في حيز، وأنه تحيط به المخلوقات، وهذه كلها لوازم باطلة أوردوها وهي لا تلزم القائل، لكنهم جعلوها لوازم فكفروا بها، وهذا غاية البغي والظلم والعدوان.
    القول الثاني: أن قائل هذا القول لا يكفر، بل هو فاسق.
    القول الثالث: هو التفصيل؛ فإن كان جاهلاً على معتقد العوام فلا يكفر؛ لأنه يعذر بجهله، مثل: الجارية التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم فأجابت بمعتقد العوام ومعتقد الناس في الجاهلية على حد زعمهم! فمن كان كذلك فلا يكفر، قالوا: أما العالم الذي تبين له الأدلة، مثل: الفخر الرازي أو الزمخشري ومن هو عارف بعلم الكلام وعالم بلوازم الحيز والجهة والجوهر والعرض، قالوا: فهذا إن قال ذلك فإنه يكفر -نسأل الله العفو والعافية-.
    فانظر كيف يكون البغي! وقد تقدم قول الخوارج المعاصرين منهم والأقدمين، وقول المعتزلة في مسألة الرؤية حيث قالوا: من قال: إن الله يُرى في الآخرة فقد كفر، فهكذا تجد أهل البدع!
    فالشيخ المصنف هنا يعلم أهل السنة الإنصاف، ولم يقابل المبتدعة بمثل منهجهم، وذلك أن من منهج أهل السنة أنهم لا يكفرون المبتدع حتى يعلموا: هل هو متأول أو غير متأول؟ أله شبهة أو ليس له شبهة؟
    فليس في أهل الفرق من هو متحلٍ بالإنصاف والعدل مثل أهل السنة والجماعة أبداً!
    فـأهل السنة في معتقداتهم على الحق، ومع ذلك يعدلون مع من كان على الباطل، ولا يخرجون عما أمر الله به بقوله:: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ))[النحل:90]، وأما الظلم فقد حرمه الله سبحانه وتعالى، فقال: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً}.
    أما أهل البدع فإنهم يجورون على أهل السنة ويتهمونهم ويكفرونهم؛ بناءً على ما يعتقدونه من الحق، وكفى بهذا فارقاً بين الطائفتين.
    يقول المصنف رحمه الله: "لكن تأول تأويلاً أخطأ فيه، إما مجتهداً وإما مفرطاً مذنباً، فلا يقال: إن إيمانه حبط بمجرد ذلك" أي أنه: قد يحبط إيمانه بأسباب أخرى مثلما قلنا في المعتزلة، فإنَّ منهم من كُفِّر بعينه لأنه قال القول ولديه عقائد فاسدة باطلة غير ذلك القول، ولكن من المعتزلة من لم يكفر؛ لأنه أخذ القول المنسوب إلى ذلك الكافر أو الملحد ظاناً أنه هو الحق والهدى، حتى إن الذين كفَّروا ابن أبي دؤاد وبشر المريسي من العلماء لم يكفر كثير منهم المعتصم أو المأمون لما اتبعوا قول المعتزلة في مسألة خلق القرآن وجلدوا الإمام أحمد وغيره؛ لأنهم كانوا يعلمون أن هؤلاء الخلفاء لبس عليهم، فترى أن هؤلاء العلماء كفروا المشير بالجلد والتعذيب ولم يكفروا من قام بتنفيذ ذلك، وذلك لأن من أشار بذلك عالم يعرف الأدلة، وقد اقترن بقوله هذا اعتقادات فاسدة أوجبت تكفيره عند من كفره. ومقصدنا هو أننا لا نقول: يحبط عمل المبتدع بمجرد هذه البدعة التي هي غير مكفرة وربما تكون مكفرة، فيكون القول في ذاته كفراً ولكن صاحبه لا يكفر.
    ثم قال المصنف: "إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي، بل هذا من جنس قول الخوارج والمعتزلة" أي: القول بأنه كفر وحبط عمله، هو من جنس قول الخوارج والمعتزلة في أصحاب الكبائر العملية.
    ومن ورد الشرع بتكفيره فلا نقول: إنه لا يكفر، ولا نقول: إنه يكفر ويحبط عمله؛ وذلك حتى نفرق بين المقالة والقائل. فمثلاً: نفي رؤية الله في الآخرة ونفي الصفات ونفي القدر... كل هذه المقالات كفر، بل ونقول: (يكفر قائلها) إطلاقاً عاماً، لكن القائل المعين هو الذي فيه التفصيل، فمن كفر قائل هذه المقالات كائناً من كان وحكم بأن عمله يحبط رددنا عليه، ومن قال: إن قائل ذلك لا يكفر بأي حال نرد عليه أيضاً ولا نقره على قوله.
  3. حكم فرق أهل القبلة المتوعدين بالنار والهلاك

    نأتي إلى مسألة الاثنتين والسبعين فرقة، فإن من المعلوم أن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فما حال الثنتين وسبعين فرقة: أهم من أهل الوعيد أم هم خارجون عن الملة؟
    الجواب: الفرق على نوعين:
    النوع الأول: فرق خارجة عن الإسلام، وهي فرق كثيرة، وقد ذكرنا أمثلة لها؛ كفرق الباطنية القديمة والحديثة وغلاة الشيعة وغلاة الصوفية وأشباههم.
    النوع الثاني: فرق خارجة عن السنة، والفرق الخارجة عن السنة هي الاثنتين والسبعين فرقة، ولهذا لما عرَّف النبي صلى الله عليه وسلم الفرقة الناجية قال: {هي الجماعة} أو: {ما أنا عليه وأصحابي} !!
    فمن خالفهم فهو خارج عن الجماعة، ومخالف لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أما الفرق الخارجة عن الإسلام بالكلية فهذه قد انتقلت إلى ملة أخرى وإن انتسبت إليه، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب الإيمان ولم يذكر غير هذا القول، وفي مجموع الفتاوى ذكر أن بعض السلف اختلفوا في ذلك، لكنه رجح أنها من أهل الوعيد، ولا يعني قولنا: إنها من أهل الوعيد أن كل فرد منها سيدخل النار، وإنما نقصد أنه متوعد؛ ففي الدنيا نحكم عليه بالميزان كما سبق، وفي الآخرة يكون الحكم عليه كذلك.
    ولنضرب على ذلك مثلاً: لو أن إنساناً ابتدع بدعة من بدع الصوفية التي لا تخرج صاحبها من الملة، وليس عنده إلا هذه البدعة وهو مُصر عليها ومعاند ويرفض الحق، وليس عنده أي حسنة، فهذا يقال عنه: مبتدع، ويكون من أهل الوعيد، ويوم القيامة إذا وزنت أعماله وليس عنده حسنات وعنده هذه البدع، فهو مثل أهل الكبائر الداخلين تحت مشيئة الله، ولابد أن يعذب الله منهم أناساً، فلا ننفي ونقول: لن يعذب أحد منهم؛ بل لابد أن يعذب أناساً منهم ويغفر لأناس، كما قال تعالى: ((يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ))[المائدة:40].
    وشخص آخر عنده هذه البدعة نفسها، لكن معه جهاد وصيام وزكاة وحج وصدقة، وأمور كثيرة من الحسنات، فهذه إذا وضعت مع تلك البدعة رجح ميزان الحسنات؛ سواء وفق ميزاننا نحن في الدنيا عندما نزن الرجال أو عند الله سبحانه وتعالى.
    إذاً: القائل المعين شيء والفرقة شيء آخر.
  4. التفريق بين الخطأ في أصل المنهج والخطأ في جزئية منه

    بعد ما ذكر المصنف رحمه الله حديث الرجل الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه عبد الله وكان يلقب حماراً، قال: "وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة وأئمة في العلم والدين، وفيهم بعض مقالات الجهمية، أو المرجئة، أو القدرية، أو الشيعة، أو الخوارج، ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة بل بفرع منها" أي: أنه لا يمكن لإمام من الأئمة في العلم والدين أن يكون شيعياً أو قدرياً -مثلاً- من جميع الوجوه ويكون قائماً بجملة تلك البدعة، لكن قد يقوم بفرع وجزئية منها.
    وأعبر بتعبير واضح عن هذا فأقول: هناك فرق بين المنهج العام للإنسان وبين الأخطاء في المسائل التفصيلية، فالإنسان إذا كان منهجه العام الأخذ من الكتاب والسنة، فهذا يعد من أهل السنة وإن أخطأ في التفاصيل، ومن كان منهجه الاعتزال، فيقال: إنه معتزلي وإن أصاب في بعض الأمور أو وافق أهل السنة أو أخذ بحديث أو بأكثر من أحاديث الصحيح، فالأئمة المشاهير ممن اتهم بارتكاب بعض العقائد البدعية أو الضلالات لم يأخذها جملة، ولو أخذها جملة لصار من أهلها، ولكنه أخذ فرعاً منها.
    فلابد من التفريق بين المنهج والجزئية، وبهذا المنهج نتعامل مع الأحزاب والجماعات والفئات المعاصرة؛ فقد يكون فلان مثلاً زعيماً زنديقاً ملحداً، لكن قد يكون من أتباعه من فيه خير ودين وصلاح وإن وافقه في بعض ما يقول، وهذا الحكم من العدل الذي أمر الله سبحانه وتعالى به.
    لكن في الجملة نقول: إن كل معتزلي أو رافضي فهو ضال أو زائغ، ولا شك في ذلك، لكن عندما نأخذ الأمر على التفصيل فقد نجد بعض الناس أخذ من الرافضة شعبة فقط، وقد يكفرهم من غير هذه الشعبة، وبعض الناس أخذ من الاعتزال شعبة، وقد يضللهم في الباقي، ففرق بين المنهج المتكامل وبين أن يأخذ الإنسان بجزئية من المنهج، ولو كان هذا الميزان واضحاً عند المسلمين وعند كثير من أهل السنة في القديم والحديث لما احتاجوا أن يتخاصموا فيما بينهم ويختلفوا ويرد بعضهم على بعض، ولكانوا كما كان علماؤنا الأولون على القسطاس المستقيم والميزان العدل الذي لا طغيان فيه.
    قال رحمه الله: "بل العدل هو الوسط، وهو أن الأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة المتضمنة نفي ما أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم أو إثبات ما نفاه" أي: كما في مسائل الصفات أو مسائل القدر وغيرها.
    مثال ما أثبته النبي صلى الله عليه وسلم: قوله للجارية: {أين الله؟ قالت: في السماء، فأقرها} فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الله في السماء وكذلك في غيره من الأحاديث، فجاء أناس فنفوه. أو إثبات ما نفاه الرسول صلى الله عليه وسلم كمن أثبت لله من الصفات أو نسب ما لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم.
  5. الرد على من زعم أن الورع هو عدم تكفير من ارتكب الكفر

    قال المصنف رحمه الله: [أو الأمر بما نهى عنه أو النهي عما أمر به، يقال فيها الحق] أي هذه الأقوال المبتدعة المحرمة، قال: [ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص ويبين أنها كفر] أي: لا تلغى النصوص، فإن كانت النصوص تنص على أعمال كفرية فيبين أنها كفر، فنقول مثلاً: الحكم بغير ما أنزل الله كفر، ونفي أسماء الله وصفاته كفر، وإنكار القدر كفر، فنقول هذا القول ونطلقه كما أطلقته الأدلة، قال: "كما يذكر من الوعيد في الظلم في النفس والأموال"، أي كما نقول: من اقتطع من مال آخيه شيئاً بغير حق فهو ظالم، من اغتاب أخاه فقد ظلمه، فمثلما يقال في الظلم يقال في الكفر والفسق والضلال، فتبقى نصوص الوعيد على إطلاقها وعلى بابها.
    والمصنف رحمه الله يريد أن يرد على بعض الناس الذين يظنون أن من الورع ألا يكفِّروا أحداً، فيقولون عن عبادة القبور والطواف بها: هذه أمور منكرة ومحرمات، أو هذه أشياء لا تنبغي ولا تليق بالمسلمين! وهذا الظن منهم خاطئ، لأننا نكون بذلك قد سلبنا النصوص دلالتها ولم نعمل بها ولم نعلنها ونبينها.
    وقد استدل المصنف رحمه الله على ما قررناه بكلام الأئمة، مع أن القرآن والسنة مليئان بالتكفير؛ لكن لأن بعض الناس ينتسب إلى هؤلاء الأئمة، فقال المصنف رحمه الله: [وكما قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها] فإذا كان كثير من الأئمة قد كفروا من قال: القرآن مخلوق، وكفروا أيضاً من قال: إن الله لا يرى في الآخرة، وهذا وارد ومنقول في كتب العقيدة، وكذلك من قال: إن الله لا يعلم الأشياء قبل وقوعها -أي: من أنكر مرتبة العلم من مراتب القدر وهي المرتبة الأولى، وإنما نص على هذه المرتبة لأن القدرية ينكرونها، ولذا قال الإمام أحمد والإمام الشافعي رضي الله عنهما: "ناظروا القدرية بالعلم"، فمن أنكر علم الله بالأشياء قبل وقوعها فقد كفر، فهذا نص عليه السلف، فهل هناك أحد يدعي أنه أكثر ورعاً أو تحرزاً من السلف ؟!
    فأراد المصنف رحمه الله أن يبين لأتباع الأئمة الأربعة وغيرهم أن الأئمة كفروا من كفره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لكن ذلك على العموم لا للأشخاص.
    يقول المصنف: [وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: (ناظرت أبا حنيفة رحمه الله مدة حتى اتفق رأيي ورأيه أن من قال بخلق القرآن فهو كافر)] وقد نص المصنف رحمه الله على أبي حنيفة بالاسم؛ لأنه حنفي وهو يؤلف للحنفية، فحتى لا يقال: أنت خرجت عن مذهب إمامك؛ أراد أن يقول: إن مذهب الإمام أبي حنيفة -كما قال عنه تلميذه أبو يوسف -: إنه يكفر من قال: إن القرآن مخلوق، ولا شك أن أي حنفي مُسلِّم بأن الإمام أبا حنيفة أورع منه، وكل الحنفية مسلِّمون أنه متبوع ومجتهد وأن آراءه صحيحة، حتى إن بعضهم يغلو فيه غلواً عجيباً، فلشدة غلوهم وكون الشيخ المصنف منهم، ولأنه يريد أن يخاطبهم؛ نص على أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله نص -كما روى عنه تلميذه أبو يوسف -: "أن من قال: القرآن مخلوق فقد كفر"، ولا يعني ذلك أن الإمام أبا حنيفة كفَّر كل معين! وإنما أطلق القول، ولهذا قال المصنف رحمه الله: "وأما الشخص المعين إذا قيل... إلخ"، أي أنه سيأتي الكلام على المعين، وأما ما هنا فإنما هو في الحكم على القول على العموم، أي أنه لابد من التفريق بين الحكم على المقالة والحكم على قائلها، والتفريق بين إطلاق الوعيد العام وبين تنزيله على المعين، والتفريق بين العقوبة وبين تنفيذها في حق المعين.