المادة كاملة    
يتحدث هذا الدرس عن أسماء الله وصفاته، وضرورة معرفة البشر لربهم بأسمائه وصفاته، مع توضيح لكيفية تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه، كما أنه يذكر كيف تدرجت الفرق في إنكار الصفات، وأنه لا يصح في حق الله تعالى من الأقيسة إلا قياس الأَولى.
  1. البشر ومعرفتهم لربهم سبحانه وتعالى

     المرفق    
    قال الطحاوي رحمه الله تعالى:
    [ لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام ] .
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [قال الله تعالى: ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً))[طه:110] قال في الصحاح: توهمت الشيء: ظننته، وفهمت الشيء: علمته .
    فمراد الشيخ رحمه الله: أنه لا ينتهي إليه وهم، ولا يحيط به علم .
    قيل الوهم: ما يرجى كونه، أي: يظن أنه على صفة كذا، والفهم: هو ما يحصله العقل ويحيط به، والله تعالى لا يعلم كيف هو إلا هو سبحانه وتعالى، وإنما نعرفه سبحانه بصفاته، وهو أنه أحدٌ، صمدٌ، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْض)) [البقرة:255] ((هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))[الحشر:23، 24] إهـ .

    الشرح:
    موضوع نفي أو تشبيه الله بخلقه، قد سبق الحديث عنه عند قول المصنف رحمه الله:
    [فلا شيء مثله]، وهذا استكمال وإيضاح لذلك؛ لأن الطحاوي رحمه الله قد يأتي بعبارات مترادفة، والمقصود منها هو تجلية المعنى وإيضاحه وتحقيقه لدى السامع .
    ولكن المصنف رحمه الله يشرح كل جملة بما يراه مناسباً للفظها .
    وقوله: [ لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام ] في هذا نفي لجميع أنواع العلم؛ لأن العلم إما يقين يفهمه العقل ويعقله ويستوعبه ويتأمله، وإما ظن يتخيله العقل ويتوهمه ويحسبه .
    والله -سبحانه وتعالى- قد نفى إحاطة البشرية له علماً وعقلاً وفهماً ويقيناً، وكذلك ظناً وخرصاً وتوهماً، فالعقول لا تستطيع أن تعرف حقيقة الله وكنه ذاته تبارك وتعالى بحقائقها التي تفهم بها، ولا بظنونها وتخييلاتها وأوهامها
    وفي هذا النفي دليل على أنه سبحانه وتعالى لا سبيل إلى معرفته إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فما جاء في الكتاب والسنة يفهمه العقل؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- خاطبنا بما نعقل، والرسول صلى الله عليه وسلم شرح ذلك الخطاب، وخاطبنا أيضاً بما نفهم وبما نعقل، ومهما حارت عقولنا في فهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإننا لا نحيله، فقد تحار العقول في فهم إدراك حقائقه، ولكن لا تحكم باستحالته لا في إدراك معانيه اللغوية -كما مر معنا إيضاح الفرق بينهما.
    والشرع جاء بمحارات العقول ولم يأت بمحالات العقول، فلم يأت الشرع بما تحيله العقول وتقطع وتجزم بنفيه، ولكن جاء بما قد تحار العقول في إدراك حقيقته وفهمه، مع العلم بأن الألفاظ من جنس الخطاب والكلام الذي يعهده العرب ويعرفه السامعون، فالله -سبحانه وتعالى- لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام، فليس هناك من سبيل إلى معرفة صفاته -عز وجل- إلا ما جاء في الكتاب أو السنة .
    وهناك مثلان مشهوران ذكرهما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الرسالة التدمرية يبينان ذلك:
    الأول: نعيم الجنة، فقد صح الحديث أن {فيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر} ومعنى هذا أن الإنسان مهما توهم أو تخيل أنهار الجنة أو عسلها أو مياهها أو أشجارها أو مسكها أو زعفرانها، فإن هذا مجرد خيال يتخيله، وليست الجنة بما تصوره؛ لأن الحقائق التي فيها لا يستطيع الإنسان أن يتخيلها كما هي أبداً، وإنما هذه ألفاظ جاءت في القرآن أو السنة، كما قال عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنهما-:"ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء" فهو اشتراك في الاسم فقط، أما في الحقائق فمختلفة تماماً .
    الثاني: الروح، فكل إنسان حيٍ له روح، يحس بهذه الروح، ويجزم بوجودها في الأحياء جميعاً، ومع ذلك لا ندري كنه هذه الروح، ولا كيف تعمل وتتأثر، ولا كيف حالها حال اليقظة وحال النوم، ومع ذلك إذا جاء أجل الإنسان فإن روحه تقبض، والناس ينظرون، كما قال عز وجل: ((وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ))[الواقعة:84]، فحقيقة الروح مجهولة، مع أننا نؤمن بها ونعرف من أوصافها ما جاء في الكتاب والسنة، ونسلم بحقيقة وجود الروح، ونعيم الجنة، مع أننا لا ندرك الحقيقة ولا الذات .

    فهذان مثلان مضروبان في مخلوقات الله عز وجل، فكيف يكون الحال مع ذاته -سبحانه وتعالى- الذي هو أجل وأعظم من كل شيء، الذي عجزت العقول عن أن تدركه، وأن تعرف حقيقة ذاته، سبحانه وتعالى، فما علينا إلا التسليم والانقياد والإذعان، ولنعرف ربنا بما أخبر سبحانه وتعالى كما قال: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)) [الإخلاص1-4] وكما قال: ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْض))[البقرة:255]، وكما قال: ((هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ))[الحشر:23] ونحو ذلك من الآيات، وكما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم: { إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام } وأنه ينزل سبحانه وتعالى في الثلث الأخير، وأنه يضحك، ويعجب ونحو ذلك، مما يجب علينا أن نؤمن به دون أن يخطر ببالنا لحظة واحدة أن نطلب إدراك حقيقة اتصافه سبحانه وتعالى وكيفيتها؛ لأنه أمر حجب عنه العقل البشري تماماً، ومن تخوض في ذلك فقد كلف نفسه مالا تطيق، ومصيره إلى الزيغ والضلال، وهذا من أخطر الأمور التي وقعت فيها الفرق، فلم يقفوا بالعقل البشري عند حدود ما شرع الله -سبحانه وتعالى- وإنما تجاوزوا ذلك وتقحموا الحديث في أمور لا قبل لهم بها، ومن تكلف علم أمر لا قبل له به، فإنه يقع في الضلال حتماً ويقيناً سواء كان في المحسوسات، أو المعلومات، أو المرئيات .
    فالأفهام البشرية لم تحط علماً بالكون الذي تعيشه، ولم تدرك حقيقته، ولا كيفيته الكاملة، ولا نهايته، رغم المراصد ووسائل الاستكشاف .
    فيا سبحان الله مَن كان حائراً في معرفة حقيقة ما يرى ويسمع ويحس ويشاهد، فما باله يقحم نفسه في معرفة ما لا يمكن إدراكه قط ؟! هذا من أعظم الأدلة على أن الإنسان ظلوم كفار كما قال الله تعالى في سورة الأحزاب، وهذا من أعظم الأسباب التي أوقعت الفرقة بين المسلمين، وجعلتهم شيعاً من المعتزلة والجهمية والرافضة وأمثالهم؛ فإنهم لم يقفوا عند ما أمر الله به، بل تجاوزوا الحد ونظروا إلى ما قاله علماء الكلام، وأخذوا يخوضون فيما خاض فيه أولئك، فكانت النتيجة أن وقعوا في الحيرة التي وقع فيها أولئك من قبل .
  2. تنزيه الله عز وجل عن مشابهة خلقه

     المرفق    
    قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [ولا يشبه الأنام].
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [هذا رد لقول المشبهة الذين يشبهون الخالق بالمخلوق، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قال عَزَّ وَجَلَّ: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الشورى:11] وليس المراد نفي الصفات كما يقول أهل البدع، فمن كلام أبي حنيفة رَحِمَهُ اللهُ في الفقه الأكبر: لا يشبه شيئاً من خلقه، ولا يشبهه شيء من خلقه، ثُمَّ قال بعد ذلك: وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا. انتهى.
    وقال نعيم بن حماد: من شبه الله بشيء من خلقه، فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه، فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه.
    وقال إسحاق بن راهويه: من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله، فهو كافر بالله العظيم.
    وقَالَ: علامة جهم وأصحابه: دعواهم عَلَى أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ ما أولعوا به من الكذب أنهم مشبهة، بل هم المعطلة.
    وكذلك قال خلق كثير من أئمة السلف: علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة، فإنه ما من أحد من نفاة شيء من الأسماء والصفات إلا يسمي المثبت لها مشبهاً، فمن أنكر أسماء الله بالكلية من غالية الزنادقة القرامطة والفلاسفة، وقَالَ: إن الله لا يقال له: عالم ولا قادر، يزعم أن من سماه بذلك فهو مشبه، لأن الاشتراك في الاسم يوجب الاشتباه في معناه، ومن أثبت الاسم وقَالَ: هو مجاز، كـغالية الجهمية، يزعم أن من قَالَ: إن الله عالم حقيقة، قادر حقيقة، فهو مشبه، ومن أنكر الصفات وقَالَ: إن الله ليس له علم، ولا قدرة ولا كلام، ولا محبة ولا إرادة، قال لمن أثبت الصفات: إنه مشبه، وإنه مجسم؛ ولهذا كتب نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والرافضة ونحوهم، كلها مشحونة بتسمية مثبتة الصفات مشبهة ومجسمة، ويقولون في كتبهم: إن من جملة المجسمة قوماً يقال لهم: المالكية، ينسبون إِلَى رجل يقال له: مالك بن أنس! وقوماً يقال لهم: الشافعية، ينسبون إِلَى رجل يقال له: مُحَمَّد بن إدريس حتى الذين يفسرون القُرْآن منهم، كـعبد الجبار، والزمخشري وغيرهما، يسمون كل من أثبت شيئاً من الصفات، وقال بالرؤية مشبهاً، وهذا الاستعمال قد غلب عند المتأخرين من غالب الطوائف؛ ولكن المشهور من استعمال هذا اللفظ عند علماء السنة المشهورين: أنهم لا يريدون بنفي التشبيه نفي الصفات، ولا يصفون به كل من أثبت الصفات، بل مرادهم أنه لا يشبه المخلوق في أسمائه وصفاته وأفعاله، كما تقدم من كلام أبي حنيفة: أنه تَعَالَى يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، وهذا معنى قوله تعالى:((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ))[الشورى:11]، فنفى المثل، وأثبت الوصف، وسيأتي في كلام الشيخ إثبات الصفات، تنبيهاً عَلَى أنه ليس نفي التشبيه مستلزماً لنفي الصفات] إهـ.

    الشرح:
    موضوع نفي المثل عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ونفي الشبيه قد تقدم في قول الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ: [ولاشيء مثله] وشرح هناك قوله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ))[الشورى:11].
    أما التشبيه فإنه خلق وعقيدة من أخلاق وعقائد اليهود، وأصل التشبيه هو عند اليهود، والتوراة المحرفة الموجودة إِلَى اليوم في أيدي الناس، فيها تشبيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بخلقه.
    وأول فرقة عرفت التشبيه وأظهرته في الإسلام هي فرقة الرافضة، وسبب ذلك عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أخذ ما كَانَ يعتقده -هو وقومه- من التشبيه، فأدخلوه في دين الرفض، واشتهر ذلك عن رجل من الرافضة يقال له: هشام بن الحكم.
    فكان يصف الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بصفات المخلوقين، ويقول: هو مثل واحد من المخلوقين، ويشبه يد الله بيد المخلوق، وقد كفره علماء السلف وذكروا بدعته.
    وهذا من أعظم الأدلة عَلَى أن علماء السلف ليسوا مشبهة، ولكن هَؤُلاءِ الذين نفوا الصفات هم الذين اتهموهم بالتشبيه، لأسباب سيأتي إيضاحها.

    ثُمَّ تطور معنى التشبيه حتى غلب -في القرن الثالث فما بعد- عَلَى إثبات الصفات، وأصبح الذي يثبت صفات الله عَزَّ وَجَلَّ كما جاءت في الكتاب والسنة يسمى مشبهاً، وقد ذكرنا أن الرافضة تحولت من التشبيه إِلَى الاعتزال بعد المحنة والفتنة التي حدثت للإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
    فاجتمع الرافضة -أصحاب عاطفة بلا عقل- والمعتزلة-أصحاب عقل بلا عاطفة- وكوَّنا منهجاً واحداً، ولا يوجد الآن فرقة اسمها: المعتزلة.
    فيقولون: إن الإمام أَحْمَد روى في مسنده أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ينزل كل ليلة إِلَى السماء الدنيا وإلى الأرض، وأنه يركب عَلَى حمار ويمشي، وهذا كذب وبهتان، ولا يمكن لأحد عرف مسند الإمام أَحْمَد أن يخطر بباله أن هذا الحديث موجود في المسند، لكن يقولون لعوامهم هذا.
    فهَؤُلاءِ ينتقمون ويثأرون لما حصل لهم من الإمام أَحْمَد وأهل السنة، الذين كانوا يغلب عَلَى تسميتهم في بغداد الحنابلة فإنهم كانوا لا يدعون رافضياً إلا ضربوه أو قتلوه أو أخرجوه.
    فيفترون عَلَى الإمام أَحْمَد مثل هذا الحديث الذي لا يوجد -ولله الحمد- في مسنده، وهكذا انقلبت التهمة عند هَؤُلاءِ والرافضة قوم بهت،
    كما أن اليهود قوم بهت، كما في الحديث الصحيح {لما جَاءَ عبد الله بن سلام -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- وقَالَ: يا رَسُول الله إن اليهود قوم بهت، فاسألهم عني! فسألهم النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما تقولون في عبد الله بن سلام؟ فَقَالُوا: حبرنا وابن حبرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقام عبد الله وقَالَ: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رَسُول الله، فَقَالُوا: هو شرنا وابن شرنا، وأخذوا يشتمونه}.
    وأول من أطلق كلمة: "الجسم" في هذه الأمة هو هشام بن الحكم الرافضي، فالتشبيه والتجسيم كلمة لم ترد في حق الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وأول من أطلقها هم الرافضة.
    وعقيدة الإمام الطّّحاويّ مثل غيرها من عقائد أهل السنة شرحها بعض الماتريدية شرحاً ماتريدياً، فكما أولوا القُرْآن وأولو السنة، أولوا كلام الطّّحاويّ، فَقَالُوا: قول الطّّحاويّ: [لا يشبه الأنام] فيه نفي للصفات، مع أنه يريد نفي الشبيه والمثيل عن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهو مثبت للصفات.
    ومثلها عقيدة الإمام ابن أبي زيد القيرواني، الإمام المشهور عند المغاربة المالكية، ومن عادة كتب المالكية أنها في أول كتب الفقه، تُقدم بمقدمة في العقيدة، ثُمَّ تبدأ بأحكام الطهارة وأحكام الوضوء والصلاة، وهذه عادة حسنة؛ لأن الإِنسَان أول وأهم ما يجب أن يتعلمه هو العقيدة، فإذا صلحت العقيدة تعلم الوضوء والطهارة عموماً، وهذا ترتيب جيد في باب البحث والعلم والتصنيف.
    والإمام ابن أبي زيد رَحِمَهُ اللهُ كتب عقيدة مبسطة سلفية واضحة في أول كتابه: الرسالة فشرحوا هذه العقيدة شرحاً أشعرياً تماماً.
    فيقول مثلاً: [ولا شيء مثله] فيقول الشارح وهو منهم الشنقيطي، في القرن الحادي عشر، والأزهري صاحب الفواكه الدواني هذا النفي إشارة إِلَى الصفات السلبية، وقوله: "وهو الحي القيوم": هذا الإثبات إشارة إِلَى الصفات الثبوتية.
    وقَالَ: [وهو عَلَى عرشه المجيد بذاته] فَقَالُوا: وهو عَلَى عرشه، والمجيد بذاته، فالله تَعَالَى مجيد بذاته ليس مجيداً بأحد من خلقه، ويحتمل أن "بذاته" يعود عَلَى العرش -يعني بذات العرش- فهو عَلَى عرشه المجيد بذات العرش.
    ولهذا نبه المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى هذه القضية فقَالَ: وليس المراد نفي الصفات كما يقول أهل البدع، فمن كلام أبي حنيفة رَحِمَهُ اللهُ في الفقه الأكبر: لا يشبه شيئاً من خلقه، ولا يشبهه شيء من خلقه، ثُمَّ قال بعد ذلك: وصفاته كلها بخلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، فالإمام أبو حنيفة يثبت لله الصفات وينفي التشبيه، وهذا هو مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ عامة، لكن بدأ بالإمام أبي حنيفة؛ لأن الإمام أبا جعفر الطّّحاويّ حنفيٌ، ولأن الذين شرحوا العقيدة وأولوها عن معانيها هم من الأحناف.
    وقال نعيم بن حماد رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -شيخ الإمام البُخَارِيّ في مصر وإن كَانَ في روايته ضعف- وهو من أشد النَّاس عَلَى الجهمية، فلما سُئل عن ذلك؟ قَالَ: لأني كنت عَلَى منهجهم في أول أمري، فلما تعلمت الحديث عرفت الحق، فكان من أشد علماء الحديث والسنة عَلَى أهل البدع، لأن من عرف بدعة من البدع ثُمَّ هداه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- للرجوع إِلَى حقيقة الدين فإنه يكون أشد عَلَى أهلها ممن لا يعرفها.
    قال -أي- نعيم بن حماد: "من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه"، فهذا كلام واضح وجلي بأن نفي الصفات شيء، وإثبات الصفات شيء، والتشبيه شيء آخر، فالمشبه هو الذي يقول: يد كيدي، أو رجل كرجلي، أو نزول كنـزولي، وأما المثبت:فهو الذي يثبت ما يليق بجلاله فَيَقُولُ: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير)) [الشورى:11]، فيثبت له الصفات وينفي عنه التشبيه، كما جَاءَ في الكتاب والسنة.
    وكيف يقولون: إن من شبه الله تَعَالَى بخلقه فقد كفر، ثُمَّ يكونون مشبهة؟!
    وقال إسحاق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -شيخ الشيخين الإمام البُخَارِيّ ومسلم وقرين الإمام أَحْمَد، ومن أجل أئمة الإسلام وأعلامه-: مَن وصف الله، فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله، فهو كافر بالله العظيم.

    وهذه الأقوال هي جزء من أقوال كثيرة ذكرتها روايات كتب العقيدة، التي كانت تسمى كتب السنة أو الشريعة، مثل كتاب السنة لـعبد الله بن أحمد، وكتاب الشريعة للآجري، وكتاب شرح أصول اعتقاد أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لللالكائي بالسند المتصل إِلَى هَؤُلاءِ الرجال الأعلام الذين هم حجة في دين الله عَزَّ وَجَلَّ، وأئمة من أئمة السلف، الذين ورثوا العقيدة والإيمان والعلم النبوي الصحيح في عصرهم، وقاوموا هذه البدع التي نشأت في أيامهم مثل:
    ابن الماجشون، وإسحاق، وابن المبارك، ونعيم بن حماد، والإمام أَحْمَد، والفضيل بن عياض، ووكيع بن الجراح، ويحي بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي... وغيرهم كثير.
    وكلها نقولٌ تبين حقيقة ما هم عليه من الاعتقاد قي ذات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وأنهم يثبتون الصفات، وينفون التشبيه عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى،
    وكلام إسحاق: علامة وقاعدة على أن الجهمية يسمون أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ مشبهة، ولا يزال هناك قائلون بها منذ ظهور هذه البدع إِلَى هذا اليوم، حتى من المؤلفين الأحياء في هذا الزمن، كـالكوثري وتلاميذه، كالدكتور على سامي النشار، ومثلهم كثير، ولا نريد أن نذكر الأسماء؛ وإنما لنبين أن هَؤُلاءِ يقولون: إن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ مشبهة؛ لأنهم يثبتون الصفات، وأحياناً يقولون: إن الحنابلة مشبهة، أو أن ابْن تَيْمِيَّةَ تعلم التجسيم والتشبيه.
    وكما قال الإمام إسحاق بن راهويه: علامة الجهمية تسمية أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ مشبهة، قَالَ: بل هم المعطلة، عطلوا ونفوا الصفات عن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وأما أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فهم مثبتة وليسوا مشبهة.
  3. تدرج الفرق في إنكار الصفات

     المرفق    
    ثُمَّ انتقل المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ إِلَى بيان تدرج الفرق في إنكار الصفات، واشتراك جميع هذه الفرق في إطلاق التشبيه عَلَى أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
    الفرقة الأولى: الغلاة، الذين لا يثبتون أي صفة ولا اسم، وهم القرامطة والفلاسفة، وهم الطبقة الأولى من المنكرين، ولا يثبتون إلا الوجود المطلق، لا صفة له عَلَى الإطلاق، فكل من أثبت شيئاً من صفات هذا الموجود المطلق قالوا: هذا مشبه ومجسم.
    الفرقة الثانية: الجهمية، الذين قالوا: هذه الأسماء الموجودة مجازات لا حقيقة لها، فمن قَالَ: إن هذه الأسماء حقيقة، قالوا عنه: مشبه.
    الفرقة الثالثة: المعتزلة، الذين قالوا: هذه أسماء وليس له صفة تشتق منها، فمن قَالَ: إن له صفات فهو مشبه.
    الفرقة الرابعة: الأشعرية، الذين يثبتون العلم والإرادة والكلام عَلَى معنى يفهمونه ويفسرونه، لكن ينفون الصفات الخبرية -كما يسمونها - مثل اليد، والنزول، والاستواء ونحو ذلك، فهَؤُلاءِ يقولون: من أثبت له اليد، أو النزول، أو الغضب، أو الرضا، أو الضحك، أو العجب ونحو ذلك، فإنه مشبه. وهكذا ...
    فكل طائفة من طوائف أهل البدع تسمي من أثبت ما نفته هي مشبهاً، فهي تعتقد أن ما هي عليه هو الحق وغاية التنزيه، وإثبات شيء غيره تشبيه وتجسيم.

    ثُمَّ يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: إن كثيراً من الرافضة والمعتزلة أصبحوا يستخدمون هذا الكلام العجيب المضحك، فيقولون: المشبهة هم الذين يثبتون لله يداً وقدماً وساقاً وعيناً ونزولاً وكذا وكذا، يعنون أهل السنة، وهم عَلَى أنواع:
    أولاً: الشافعية: وهم ينتسبون إِلَى مُحَمَّد بن إدريس.
    ثانياً: الحنفية: وهم طائفة ينتسبون إِلَى أبي حنيفة.
    ثالثاً: الحنابلة، وهكذا ...!
    فـأهل السنة جميعاً -بما فيهم الأئمة الأربعة ومن هم أعظم منهم- كلهم مشبهة، كما في كتاب الزينة لـأبي حاتم الرازي الرافضي، وهو غير أبي حاتم الإمام المعروف، وكتاب الغلو والفرق الغالية وكلاهما مطبوع متداول.
    والقاضي عبد الجبار -وهو كبير المعتزلة- ألف أضخم مؤلفات المعتزلة التي ما تزال موجودة إِلَى اليوم، ومنها " المغني "، وهو أضخم كتب علم الكلام المطبوعة البدعية، وكتاب الأصول الخمسة -أصول المعتزلة الخمسة-، ونشر كتب هَؤُلاءِ المبتدعة والرافضة المعتزلة وأمثالهم من المبتدعة لا تجوز، خاصة في بلاد الْمُسْلِمِينَ، ولا يقَالَ: إنها مراجع ليعلم النَّاس باطلهم، لأنها تنشر محققةً مفهرسةً موضحةً، وتقذف إِلَى الأسواق.
    وكثير من النَّاس يعتمدون في كلامهم في التفسير عَلَى كلام عبد الجبار، ومحمـود جار الله الزمخشري صاحب كتاب الكشاف الذي هو مليء بالاعتزاليات، ولأن الاعتقادات الضالة التي فيه، قد يأخذها الإِنسَان وهو لا يريد الضلال، ولكنه يقع في الضلال ويوقع غيره فيه؛ لأنه ينقل عن أمثال هَؤُلاءِ الذين يعتبرون أن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ والأئمة الأربعة مشبهة.
    نعم لا بأس أن يؤخذ عنهم بعض المعاني اللغوية، أو بعض المعاني البلاغية التي لا علاقة لها بالعقيدة، ولا تتعارض معه، لكن أن يرجع إليهم في فهم آيات كتاب الله -وخاصة في فهم آيات الصفات- فهذا لا يجوز أبداً.

    قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ثُمَّ غلب ذلك -يعني هذه التسمية وهي: "نفي التشبيه"- عند المتأخرين لما غلبت البدع وفشت وانتشرت، لكن علماء السنة -أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ- قديمهم وحديثهم لا يريدون بنفي التشبيه نفي الصفات، فهم يثبتون الصفات، وإنما ينفون التشبيه الذي هو تشبيه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بخلقه، أو تشبيه خلقه به -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.كما في كتب أهل السنة، ككتاب السنة لـعبد الله بن الإمام أحمد.
  4. لا يصح في حق الله من الأقيسة إلا قياس الأولى

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [ ومما يوضح هذا: أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلٍ يستوي فيه الأصل والفرع، ولا بقياسٍ شمولي يستوي أفراده، فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يمثل بغيره، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية يستوي أفرادها، ولهذا لما سلكت طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية، لم يصلوا بها إلى اليقين، بل تناقضت أدلتهم، وغلب عليهم بعد التناهي الحيرة والاضطراب، لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافئها .
    ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى، سواء كان تمثيلاً أو شمولاً، كما قال تعالى: ((وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى))[النحل:60] .
    مثل أن يعلم أن كل كمال ثبت للممكن أو للمحدث لا نقص فيه بوجه من الوجوه وهو ما كان كمالاً للوجود غير مستلزم للعدم بوجه::فالواجب القديم أولى به.
    وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه، ثبت نوعه للمخلوق المربوب المدبر، فإنما استفاده من خالقه وربه ومدبره، فهو أحق به منه، وأن كل نقص وعيب في نفسه، وهو ما تضمن سلب هذا الكمال، إذا وجب نفيه عن شيء من أنواع المخلوقات والممكنات والمحدثات، فإنه يجب نفيه عن الرب تعالى بطريق الأولى .
    ومن أعجب العجب: أن من غلاة نفاة الصفات الذين يستدلون بهذه الآية الكريمة على نفي الصفات أو الأسماء. ويقولون: واجب الوجود لا يكون كذا، ولا يكون كذا، ثم يقولون: أصل الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة، ويجعلون هذا غاية الحكمة ونهاية الكمال الإنساني، ويوافقهم على ذلك بعض من يطلق هذه العبارة، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: { تخلقوا بأخلاق الله }، فإذا كانوا ينفون الصفات، فبأي شيء يتخلق العبد على زعمهم؟!
    وكما أنه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته تعالى، لا يشبهه شيء من مخلوقاته، لكن المخالف في هذا النصارى والحلولية والاتحادية لعنهم الله. ونفي مشابهة شيء من مخلوقاته له، مستلزم لنفي مشابهته لشيء من مخلوقاته. فلذلك اكتفى الشيخ رحمه الله بقوله: ولا يشبه الأنام. والأنام: الناس وقيل: الخلق كلهم، وقيل: كل ذي روح، وقيل: الثقلان .
    وظاهر قوله تعالى: ((وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ))[الرحمن:10] يشهد للأول أكثر من الباقي. والله أعلم ] ا.هـ .

    الشرح:
    مما يوضح ويجلي حقيقة إثبات صفات الله تعالى أن العلم الإلهي -وهو العلم بالله سبحانه وتعالى- لا يستدل فيه بقياس تمثيلي، ولا بقياس شمولي، والقياس التمثيلي توضيحه ببساطة: هو إلحاق أصل بفرع، أو: مساواة الشيء بنظيره، إذا كان لهذا النظير حكم معين، وله ما يناظره ويشابهه نلحق هذا بهذا، وهذا هو المعروف في أصول الفقه، وهو قياس الفقهاء، قال العلماء: كيف يصلي إنسان في الطائرة ؟ قالوا: كما يصلى على السفينة، فتقاس الطائرة على السفينة مثلاً، ونحو ذلك من أنواع القياس المعروفة .
    الأرز مثلاً يقاس على الأصناف الستة في الربا أو في زكاة الفطر؛ لأن هذا مطعوم وهذا مطعوم، وهذا حب وهذا حب مقتاتان. فنلحق هذا بهذا بجامع مشترك وهو -مثلاً- القوت أو الحبوب أو نحو ذلك، والنتيجة: أن يأخذ الرز حكم البر -مثلاً- أو حكم الحبوب .
    فقياس التمثيل: أن يستوي فيه الأصل والفرع، الأصل: هو ما تبين حكمه لدى المخاطب أو السامع، والفرع: هو ما ألحق بذلك الأصل .

    قياس الشمول: هذا يستخدم عند المناطقة في علم الكلام، وليس في علم الفقه والأصول، وهو مساواة الشيء بالمستوي معه المماثل في الحقيقة بجامع اندراجهما معاً تحت أصل كلي شامل لهما .
    فقياس التمثيل: أن نلحق شيئاً بما يشبهه، لكن في قياس الشمول نلحق الشيء بما هو مثله تماماً، والجامع هو اسم مشترك أو كلي -كما يسمونه- يشمل هذا وهذا، فمثلاً: نقول زيد مثل علي، فهذا قياس شمول؛ لأن زيداً إنسانٌ وعلياً إنسانٌ، وكل إنسانٍ حيوانٌ ناطق .
    والشيء الكلي: هو ما كان له إفراد مستوون في الحقيقة، مثل الإنسان، هذا يسمونه كلى؛ لأن له أفراداً متساوون في الحقيقة، فما أثبت لأحدهم يثبت للآخرين بجامع أن الكلي يشملهم، ولهذا يسمى قياس الشمول الكلي .
    فـالمناطقة "فلاسفة اليونان" -الذين استخدموا قواعد المنطق- يعتمدون في إثبات الصفات أو نفيها على قياس الشمول، فيقولون مثلاً: إذا قلنا: إن له يداً، فمعنى ذلك أن له جسماً، وإذا قلنا: إنه مستو على العرش أو يسأل عنه "بأين"، فمعنى هذا أنه جسم، وكل جسم هو جواهر وأعراض، إذاً فله جواهر وأعراض، فجعلوا حقيقة الله -سبحانه- فرداً من كلي معين يتخيلونه هم.
    وهذا القدر هو أصل ضلالهم، فلا نستخدم في العلم الإلهي لا قياس التمثيل ولا قياس الشمول؛ لأنه تعالى ليس كمثله شيء، فالمثلية منفية عن الله -سبحانه وتعالى- فما هو الأصل الذي نقيس الله تعالى عليه ونلحقه به بجامع علةٍ بينهما؟! وما هو الكلي؟ وما هو الكلي الذي تستوي أفراده في الحقيقة بحيث نجعل الله -تبارك وتعالى عن ذلك- جزءاً أو واحداً من أفراده المتساويين في حقيقته المشتركة؟! نحن لا نعلم حقيقة الله -سبحانه وتعالى- حتى نجعل له حقيقة مشتركة، وذات تشترك مع غيرها من الذوات في كلي له حقيقة واحدة، بحيث نلحق هذا بهذا في الأحكام.
    والعلم بإلحاق المجهول بالمعلوم لا يخرج عن هذين الطريقتين عندهم، إما القياس بمصطلح الأصول الفقهي، وإما القياس بالمصطلح الكلامي المنطقي، فما دام أننا قد قررنا أنه لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الإفهام، ولا يحيطون به علماً -كما أخبر سبحانه وتعالى- فلا يجوز أن يستدل في باب العلم الإلهي، لا بقياس الشمول ولا التمثيل .
    وإنما يستخدم قياس الأولى -وهو الذي لم يتنبه ولم يفطن له هؤلاء المعطلون للصفات- وهو: أن كل كمال للمحدث أو للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالله أولى به، فمثلاً: العلم كمال للمخلوقين، فكل عامي من عوام المسلمين يدرك بفطرته أن الله عليم، فهذا قياس فطري جلي؛ لأن العلم صفة كمال لا نقص فيها، فالله -تبارك وتعالى- أولى وأحق بها من المخلوق.
    وقلنا: لا نقص فيه بوجه من الوجوه؛ لأن الإنسان يتزوج، وهي صفة كمال في حق الإنسان، فالذي لا يتزوج حصور، لكنها بالنسبة لله -عز وجل- نقص؛ لأنه ليس له صاحبة ولا ولد -سبحانه وتعالى- .

    وهذا من الأدلة الفطرية العقلية التي تتفق مع الأدلة النصية النقلية على إثبات صفات الله -سبحانه وتعالى- أما قياس الشمول والتمثيل، فإنما أورثت علماء الكلام الحيرة والشك والتناقض؛ لأنهم يقيسون على ما لا يعلمون حقيقته، ويجعلون هذه الذات -التي لا يدركونها ولا يمكن أن يدركوا حقيقتها- أفراداً من كلي تستوي في الحقيقة ثم يقيسون ويتكلمون في الاسم والتركيب والأعراض والجواهر وكذا وكذا، وكأنهم قد علموا حقيقته سبحانه، وعرفوا ذاته، وجعلوها كسائر الذوات.
    فالله -سبحانه وتعالى- أعلم بنفسه وبصفاته سبحانه وتعالى((قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّه))[البقرة:140]، فلذلك لا نثبت لله إلا ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا نخوض فيها بهذين القياسيين الباطلين في موضوع العلم الإلهي، وإن كان في مجال الأصول أو المنطق قد يصحان وقد يبطلان .

    وإنما القياس الذي يسمى قياساً اصطلاحاً، وإلا فهو معرفة فطرية بدهية -إن صح التعبير عنه- هو قياس الأولى، فكل كمال للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالله أولى به؛ لأن مصدر هذا الكمال للمخلوق هو الله -سبحانه وتعالى- .

    يقول الله -سبحانه وتعالى-: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)) [الزمر:9] فالعلم صفة كمال، فإذا جاء أحد من المعتزلة أو المعطلة نلزمه بقياس الأولى، نقول: إذا كان العلم صفة كمال للمخلوقين ومدح وثناء فهو في حق الله أوجب وألزم؛ لأن هذا الكمال الموجود في الإنسان إنما أعطاه الله، فالذي أعطاه هذا الكمال - في نظرك - يكون هو ناقصاً خالياً منه .
    فغاية ما تقولون: ليس بجاهل، ولو قيل لكم: كيف علم الشيخ؟ وقلتم: إنه ليس بجاهل، كان هذا حطٌ من قيمته، فهذا غاية ما يصفون به الله عز وجل: أنه ليس بجاهل، ولا يقولون: هو عليم ولا عالم .
    ومن أعجب العجب أن غلاة نفاة الصفات الذين ينفون جميع الصفات عن الله، يقولون -في كتبهم القديمة-: غاية الفلسفة هي التشبه بالله على قدر الطاقة، والتخلق بأخلاق الله، وجاء المتفلسفون من المسلمين ومن اقتفى نهج هؤلاء من الصوفية، وأخذوا ينقلون هذا الحديث الذي هو "تخلقوا بأخلاق الله"، كما في إحياء علوم الدين وأمثاله، فكيف قلتم: ما له صفة، وإنما هو وجود مطلق فقط، ولا يوصف بشيء، فنتشبه بأي شيء إذن؟! وهذا من أعجب العجب، تناقض هؤلاء النفاة في مثل هذه الأقوال التي يقولونها .
    ويقولون: إن الله موجود مطلق ليس له أي صفة، فغاية الكمال وهذا خاص بـالفلاسفة الذين يسمون في الإسلام صوفية-أن تمحى صفات المخلوق ويفنى حتى تتحد ذاته بذات الحق الخالق سبحانه وتعالى، فلا يبقي للإنسان صفة .
    فكيف يمكن أن يدافعوا عن أنفسهم بهذا الكلام، وهو يخرجهم من الملة والدين لاعتقاد زوال البشرية بالاتحاد بذات الخالق الإله -سبحانه وتعالى-، وهذا الكلام في غاية الكفر، والله -سبحانه وتعالى- قد كفر النصارى في ما هو أقل من ذلك فكيف بهؤلاء؟
    وقد سبق الحديث بالتفصيل عن الحلولية والاتحادية، وأمثال هؤلاء القوم الذين يشبهون المخلوق بالخالق فالتشبيه نوعان:
    1-تشبيه الله بخلقه .
    2-وتشبيه المخلوق بالخالق سبحانه وتعالى.
    وأكثر ما وقع فيه الناس وبسببه عبدت الأصنام أنهم شبهوا المخلوق بالخالق، فعبدوا الأحجار وشبهوها بالله، وظنوا أنها تنفع أو تضر أو تشفع عند الله إلى آخر ما ظنوا فيها من صفات الألوهية، مع أنها أحجار لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنهم شيئاً، فشبهوها بالله -سبحانه وتعالى- وكذلك عندما أطاعوا الملوك أو الأحبار أو الرهبان، وعبدوا الكهان والأحبار والرهبان وشبهوهم بالله -سبحانه وتعالى-، وزادوا بأن شبهوا المخلوق بالخالق في نفس صفات الألوهية مثل ما قال النصارى عن عيسى أنه هو إله بذاته، وأنه يحي الموتى ولا يعتريه الفناء السابق ولا اللاحق، وكذلك الحلولية والاتحادية الذين يشبهون المخلوقات أو الأقطاب أو الأغواث بالله -سبحانه وتعالى- ويطبقون عليهم صفات الألوهية، حتى أن بعضهم يقول: تركت قولي للشيء كن فيكون، تأدباً مع الله تعالى -والعياذ بالله- .
    فنفي مشابهة شيء من المخلوقات لله مستلزم لنفي مشابهته لشي من مخلوقاته، فكل منهما يستلزم الآخر، فلا يشبه الأنام سبحانه وتعالى ولا يشبهه الأنام سبحانه وتعالى، والأنام هم الناس أو المخلوقات، كما ذكر في الخلاف في تفسير هذه الآية .