الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل.. قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح؛ وعلى هذا أجمع السلف. وقد خالف في تعريف الإيمان المرجئة والجهمية، ولهم أقوال شنيعة؛ مقتضاها الحكم بإيمان فرعون وأبي جهل، وإبليس! وما ضلالهم في هذا الباب إلا ثمرة من ثمرات الإعراض عن الكتاب والسنة ومنهج السلف.
  1. مسألة التكفير

    يقول الإمام الطحاوي رحمه الله:
    [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله].
    قال الإمام ابن أبي العز رحمه الله: [أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: [ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين] يشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب.
    ].
  2. طريقة الطحاوي في تصنيف عقيدته

    أشرنا مراراً بأن صاحب المتن أبا جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى لم يتقيد في عقيدته الطيبة المباركة بمنهجية المتأخرين من حيث الترتيب والتبويب المنهجي، ولم يفرد لكل باب من أبواب العقيدة جملاً أو فقرات معينة، وإنما يكتب بما يفتح الله به عليه دون مراعاة للترتيب أو التبويب المنهجي، كعادة علماء السلف في كتابة مصنفاتهم، حيث يتخلل المبحث الواحد عدة مباحث، فيكتب في القدر، ثم ينتقل إلى الصفات، ثم إلى الرؤية، ثم إلى النبوة، ثم يرجع إلى الكلام كما هو ملاحظ، ومن ذلك أنه تعرض لموضوع الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله في الفقرة الثالثة والستين فقال: [ونؤمن بالملائكة والنبيين، والكتب المنزلة على المرسلين، ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين]، ثم ساق بعد ذلك مباحث أخرى.
    ثم في الفقرة الرابعة والستين قال: [ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين]، ثم في الفقرة السابعة والستين بعد أن تكلم عما يتعلق بالقرآن والجدال، نجده رحمه الله يقول: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله]، فهي أيضاً في موضوع الإيمان والتكفير، ثم نجده بعد ذلك يقول: "ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه"، ثم قال في الفقرة الواحدة والسبعين: "والإيمان: هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان" إلى آخره، ثم نجده بعد ذكر الخلاف الطويل، يرجع فيقول في الفقرة السابعة والسبعين: "ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم"، "ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً"، وهذه الفقرة الثامنة والسبعون، ثم في الفقرة التاسعة والسبعين يقول: "ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق"، فكأنه رجع إلى الفقرة رقم أربع وستين.
    والمقصود أن هناك تداخلاً بين ما ذكر من الفقرات جميعاً، والموضوع مهم جداً، ونريد أن نلم بجميع أطرافه، ولو أن المصنف رحمه الله جمع أطراف الموضوع وتحدث أولاً عن تعريف الإيمان وحقيقته، ثم تحدث بعد ذلك عن مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان، ثم ذكر الفرق المخالفة في الإيمان وصنفها، ثم تحدث عن الأسماء والأحكام التي تترتب على معرفة الإيمان؛ من حيث كون الشخص مؤمناً أو فاسقاً أو كافراً أو مرتداً؛ لو رتب بهذا الترتيب لكان ذلك أقرب إلى الفهم وأوضح للقارئ، ولكن نجد أنه بعد ما ذكر الإيمان بالنبيين والكتب بموضوع التسمية، ثنى بموضوع عدم تكفير أحد من أهل القبلة بذنب، وسوف نستدرك عليه إن شاء الله هذه الجملة، ولذلك رأيت أن نسير على نسق المصنف فنبدأ بمسألة التكفير كما بدأ بها، ونبين الفرق التي ضلت فيها، ثم إذا انتقلنا إلى الفقرة التي تليها تحدثنا عن المرجئة ؛ لأن الإمام الطحاوي رحمه الله حنفي، والمصنف حنفي، وكلاهما أيد مذهب الحنفية المرجئة أو مال إليه، فنرد هناك على المرجئة ونفصل كثيراً في ذلك.
  3. عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان

    منهج ومذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان -كما هو في أبواب العقيدة- فهم يعتمدون على نصوص الكتاب والسنة، ولا يردون شيئاً منها قط، فيجمعون بين النصوص ويؤمنون بها جميعاً، ويعملون بها جميعاً.
    1. ذكر المعاني التي تطلق على الإيمان

      إذا تأملنا معنى الإيمان وحقيقته عند أهل السنة والجماعة، فسنجد أن له إطلاقين في غالب النصوص:
      الإطلاق الأول: الإيمان بمعنى الدين، وكلمة الدين تشمل مراتب الإيمان كلها: الإسلام والإيمان والإحسان، كما في حديث جبريل عليه السلام -وقد سبق شرحه- الذي رواه الإمام مسلم في أول صحيحه عن عمر، ورواه البخاري أيضاً عن أبي هريرة في كتاب الإيمان مع اختلاف في بعض ألفاظه قال في آخره: {يا عمر ! أتدري من السائل؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم}، فكلمة دينكم تشمل المراتب الثلاث التي سأل عنها جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم {أخبرني عن الإسلام}، {أخبرني عن الإيمان}، {أخبرني عن الإحسان} فهذه المسائل الثلاث هي الدين الذي قال الله تبارك وتعالى فيه: ((إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ))[آل عمران:19]، والإيمان بهذا المعنى هو الذي جاء في قوله تعالى: ((وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ))[المائدة:5] أي: من يكفر بدين الإسلام فقد حبط عمله، فدين محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه هو ما جاء في الكتاب والسنة جميعاً، ويدخل في ذلك شعب الإيمان الظاهرة منها والباطنة، وبما سبق يتبين لنا أن الإيمان يأتي بمعنى الدين.
      والإطلاق الآخر للإيمان أنه مرتبة من مراتب الدين كما في حديث جبريل، والدليل على ذلك أنه غاير بين الإسلام والإيمان، والقاعدة تقول: (إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا)، فالإيمان كما في حديث جبريل عليه السلام مرتبة أعلى من الإسلام، فقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام بقوله: {أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت}، وهي أعمال متعلقة بالجوارح، وفسر الإيمان بقوله: {أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره} وهي أعمال اعتقادية متعلقة بالقلب.
      وهذا يدل على أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا؛ فيكون الإيمان بمعنى الأعمال الباطنة، والإسلام بمعنى الأعمال الظاهرة. فالأعمال الظاهرة هي التي تضمنها قول الطحاوي: [ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين]؛ لأنه يرى الإيمان والإسلام مترادفين، ولنا اعتراض على هذا الرأي، وذلك واضح من حديث أنس وحديث ابن عمر، أما حديث أنس فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم؛ له ما لنا وعليه ما علينا} فالأعمال الواردة في الحديث أعمال ظاهرة، وأما حديث ابن عمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة}، والأعمال الواردة في الحديث أعمال ظاهرة أيضاً، فيثبت للمرء حكم الإسلام إذا أتى بهذه الأعمال الظاهرة.
      ونستفيد من حديث جبريل السابق أن الإيمان أعلى درجة من الإسلام، والإحسان أعلى درجة من الإيمان والإسلام، وقد جاء ذلك صريحاً في كتاب الله، قال الله تعالى: ((قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا))[الحجرات:14] فالأعراب كانوا حديثي عهدٍ بإسلام، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: آمنا، وكأنهم يريدون أن يقولوا: نحن مثل السابقين الأولين، فلم يقرهم الله سبحانه وتعلى على دعوى الإيمان ولم ينف عنهم الإسلام، بل لم ينف عنهم قرب دخول الإيمان : ((قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ))[الحجرات:14] فإذا قلت: لم يدخل محمد البيت، فغاية ما يدل عليه هذا الشيء أنه لم يقع الفعل، فإذا قلت: لما يدخل محمد البيت، دل ذلك على قرب الدخول، فهو متوقع ولكنه إلى الآن لم يقع.
      فالشاهد أن الإسلام يطلق على وجهين: اسم مدح يطلق على المؤمن والمسلم في مقابلة الكافر، وأما بالنسبة لأهل القبلة فليس بمدح، أما الإيمان فهو اسم مدح؛ لأن معنى ذلك أن صاحبه مبتعد عن ارتكاب الكبائر.
    2. تعليق دخول الجنة على الإيمان وبيان تلازمه مع الأعمال الظاهرة

      هنا قاعدة عظيمة وهي: أن الله قصر دخول الجنة على من اتصف بصفة الإيمان، والأدلة على ذلك كثيرة منها قوله تعالى: ((وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ))[العصر:1-3] وقوله: ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ))[التين:6] وقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا))[الكهف:107]، وغيرها من الآيات، وفي الحديث الصحيح: {إنه لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة} فعلق دخول الجنة على وصف أخص من مجرد الإسلام وهو الإيمان؛ لأنه مرتبة أعلى.
      وقد يأتي الإيمان بمعنى الدين، ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في الصحيحين : {الإيمان بضع وستون، أو قال: بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان} فالإيمان في هذا الحديث وأمثاله يشمل الدين كله، لأن شهادة أن لا إله إلا الله التي ذكرت في حديث جبريل وفي حديث ابن عمر مذكورة في هذا الحديث أنها أعلى شعبة من شعب الإيمان: (أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله)، ولا يتوهم متوهم أن هناك تعارضاً بين القولين؛ لأنه ليس المقصود في حديث جبريل عليه السلام أن المسلم هو من شهد الشهادتين، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج البيت، وأتى بهذه الأعمال الظاهرة دون أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر...
      وكذلك ليس المقصود أن المؤمن هو من يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، دون أن يأتي بعمل ظاهر من صلاة وزكاة وصيام وغيرها؛ ففي حديث شعب الإيمان نجد أن شهادة أن لا إله إلا الله هي أعلاها، ومعنى ذلك أن هذه الشعبة تستلزم الإيمان الباطن والظاهر، فإذا قالها المرء بلسانه أخذ حكم المسلمين، وأما إذا حققها بقلبه، وذلك بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر واعتقد حقيقتها؛ فقد حقق الإيمان الباطن.
      فبمجرد أن يقول المرء: أشهد أن لا إله إلا الله يكون له ما للمسلمين حتى لو كان في أرض المعركة؛ كما في حديث أسامة، حيث قال له صلى الله عليه وسلم: {أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟!}.
      وشعب الإيمان أهلها متفاوتون فيها؛ لأنها متعلقة بإيمان القلب وإيمان الجوارح معاً، ومعنى ذلك أن أهل (لا إله إلا الله) متفاوتون فيها تفاوتاً عظيماً، ولهذا أكدت الأحاديث على قضية تصديق القلب واللسان، كما في الحديث الصحيح {من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه}، {من قال: لا إله إلا الله؛ يصدق قلبه لسانه، ويصدق لسانه قلبه}، : {أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. من قالها غير شاك...}؛ فهذه الأحاديث تبين أن التلفظ بالشهادتين لابد أن يلازمه اليقين والاعتقاد الجازم دون أي شك، وهذه أعمال قلبية علق دخول الجنة عليها.
      أما أحكام الإسلام فإنها تجرى على كل من أظهر الإسلام؛ إذ لا تفاوت بين الناس في الأحكام الظاهرة؛ فلو جاءنا كبير من كبار المنافقين لكنه مظهر للإسلام، وجاءنا رجل من أفاضل المؤمنين وخيارهم؛ فإننا نجري عليهما الأحكام الظاهرة ونعاملهما سواء، فكل منهما له حق الإسلام في الظاهر، وإن كان من علمنا إيمانه نحبه أكثر؛ لكن القصد من حيث إجراء الأحكام الظاهرة، أما ثوابهما عند الله تعالى وموضعهما من الجنة فبينهما فرق كبير، فلا يستوي من يقول: (لا إله إلا الله) بلسانه، مع من يقولها موقناً غير شاك، يصدق قلبه لسانه، ويصدق لسانه قلبه، فالأخير على درجة عالية عظيمة من الإيمان، بخلاف الأول.
      وصاحب البطاقة توضع بطاقته التي تحمل لا إله إلا الله في كفة، وتوضع التسعة والتسعون سجلاً من الذنوب والمعاصي في كفة؛ فترجح كفة لا إله إلا الله، فهذه الكفة لم ترجح لمجرد أن فيها كلمة قيلت، ولو كان الأمر كذلك لكان لكل من يقول: (لا إله إلا الله) أن يرتكب ما يشاء من الذنوب والموبقات، وتظل كفة حسناته راجحة على سيئاته، وليس الأمر كذلك.
      وصاحب البطاقة أمره عجيب، وحالته لم تكن عادية؛ فإنه من الصعب أن تشهد أن لا إله إلا الله بيقين وبصدق وبإخلاص، ومع ذلك ترتكب تلك الموبقات البالغة تسعة وتسعين سجلاً؛ فهذا الحديث يبين لنا فضل شهادة أن لا إله إلا الله، وأهمية التوحيد وأنه يكفر الذنوب، وقد بوب الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه في كتاب التوحيد باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب.
    3. تعريف علماء السلف للإيمان بأنه قول وعمل

      الأمر الذي أحب أن أنبه إليه: أنه سيكون كل كلامنا في الإيمان بمعنى الدين، فنقول: بم عرف أهل السنة والجماعة الإيمان؟
      المتأمل لكتب السلف مثل كتاب الإيمان للإمام أحمد، وكتاب اللالكائي، وكتاب السنة لـعبد الله بن الإمام أحمد، وكتاب الشريعة للآجري، وكتاب السنة لـابن أبي عاصم يجدهم يقولون: "اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل"، وهذا هو تعريف السلف للإيمان كما ذكر ذلك الإمام أحمد وأبو زرعة الرازي وأبو حاتم الرازي في عقائدهم ونصوا عليه، وقال الإمام البخاري رحمه الله: "رويت عن أكثر من ألف شيخ من أهل العلم، ولم أرو إلا عمن يقول: الإيمان قول وعمل"، فهؤلاء ألف شيخ لقيهم الإمام البخاري، وكلهم يعتقد أن الإيمان قول وعمل، فهناك إذن إجماع، والإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله نقل -كما في كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية- أكثر من مائتي عالم من علماء التابعين وأتباع التابعين في الكوفة وما حولها؛ اعتقادهم أن الإيمان قول وعمل، وكل من كتب في العقيدة يذكر ذلك.
      وذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله أن هذا مذهب الإمام الشافعي الذي ذكره في كتابه الأم في باب النية، وذكر هناك أن الإجماع منعقد عند السلف على أن الإيمان قول وعمل، وقول السلف أن الإيمان قول وعمل لا يعني أنهم أغفلوا عمل القلب، ولكن مقصود السلف من قولهم: (الإيمان قول وعمل) أن القول قولان: قول اللسان وقول القلب، والعمل عملان: عمل القلب وعمل الجوارح؛ فهذه أربع يستحيل أن تجد شعبة من شعب الإيمان إلا وهي داخلة فيها، فإن قال: لا إله إلا الله أو سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، فهذا من قول اللسان، وإن كان خائفاً، خاشعاً، متقياً، مصدقاً، راغباً، راهباً، متوكلاً، صابراً، موقناً؛ فهذا من عمل القلب، وإن كان مقراً ممتثلاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، معتقداً أنه حق؛ فهذا قول القلب.
      ولا يمكن أن يخرج عمل من أعمال الجوارح عما تقدم.
      والصلاة التي قال الله تبارك وتعالى فيها: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ))[البقرة:143] نجد الإيمان الذي هو الدين موجوداً فيها، فالصلاة قول وعمل، فهي أعمال ظاهرة، وقول باللسان، وقول بالقلب الذي هو النية والامتثال، وعمل بالقلب الذي هو الخشوع والطمأنينة.
      وفي تعريف الإيمان مسألة يلزم التنبيه إليها وهي: أنه ليس مقصود السلف الذين قالوا: "الإيمان قول وعمل ونية"، أن كلمة قول وعمل تعني مجرد قول اللسان وعمل الجوارح فحسب، ولكن مقصودهم التأكيد على أهمية النية، وبعضهم يقول أيضاً: "قول وعمل وتصديق" لأهمية التصديق، وبعضهم يقول: "قول وعمل وإخلاص" لأهمية الإخلاص، فهم لم يكونوا يلتزمون في تعاريفهم بالدقة المنطقية، إنما كانوا يعرفون الإيمان ويزيدون ما يرون أهميته، والأصل أن الإجماع عندهم منعقد على أن الإيمان هيئة مجتمعة من هذه الأربع؛ كما عبر شيخ الإسلام رحمه الله بذلك؛ فهو يعبر بالتعبير المتداول في عصره كما نعبر نحن بالتعبيرات المتداولة في عصرنا، فالإيمان هيئة مجتمعة من هذه الأربع.
  4. الإيمان عند المرجئة والرد عليهم

    قول القلب: إقراره واعتقاده صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأن ما جاء به حق، وقد ينشأ عنه عمل القلب، وقد لا ينشأ؛ أما من قال بقلبه ولم ينشأ عن ذلك عمل بقلبه ولا بلسانه، فهو كافر، وهذا موضع معركة طويلة مع المرجئة إلى اليوم؛ لأنهم يدعون أنه عاصٍ؛ يدخل الجنة لإيمانه وإقراره.
    وقد قالوا هذا القول لأن الإيمان عندهم هو التصديق فقط، فمن صدق كان مؤمناً عندهم وإن لم ينشأ عن تصديقه عمل.
    1. إلزام المرجئة الحكم بإيمان أبي جهل وفرعون

      المخالفون لـأهل السنة في عدم الاكتفاء بتصديق القلب هم الجهمية والأشعرية.
      أما جهم فلم يشترط التصديق وإنما اشترط المعرفة؛ فمن عرف الله بقلبه أنه حق فهو مؤمن كامل الإيمان؛ يدخل الجنة، وقد عارض الأشعرية قول الجهم كما فعل أبو المعالي في الإرشاد، واشترطوا التصديق، وجعلوا من لم يأت بالشهادتين عاصياً كما نص على ذلك الغزالي في الإحياء.
      وقد رد عليهم أهل السنة بأدلة أثبتوا بها أن الإقرار بالقلب لا يدخل صاحبه في الإيمان.
      وقول الجهمية والأشاعرة يلزم منه إيمان أبي جهل، فقد قال أبو جهل : كنا وبني قصي كفرسي رهان: سقوا وسقينا، وأطعموا وأطعمنا، وكلما عملوا شيئاً من بطولات الجاهلية ومآثرها عملنا، فلما قالوا: منا نبي؛ فمن أين نأتيهم بنبي؟
      بل إن كفار قريش كلهم كانوا مصدقين ومقرين بقلوبهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي مرسل، فكانوا يعتقدون صدق نبوته، ولكنهم رفضوا اتباعه والانقياد لما جاء به، قال تعالى: ((فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ))[الأنعام:33] أي: لا يعتقدون كذبك بقلوبهم، ولكنهم كذبوه حقيقة وواقعاً بدليل قوله تعالى: (( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ))[فاطر:4]، فهم قد امتنعوا عن قبول الحق والانصياع، قال تعالى: ((وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ))[الأنعام:33].
      والجحود له أسباب أتى ببعضها أبو جهل، وفيها: الحسد والغيرة والمنافسة والكبر وغير ذلك.
      ويخبر الله تعالى عن فرعون وقومه: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا))[النمل:14] وقال له موسى: ((لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ))[الإسراء:102] فليس هناك حجة أقوى من هذه الحجة، فلا حاجة أن يدعي فرعون أنه على الحق، وأن موسى على الضلال، أو أنه مصلح وموسى مفسد، فإن هذه دعاوى باطلة؛ فإنه في نفسه يعلم أن موسى على الحق المبين ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ))[النمل:14].
      وأما أبو طالب فأمره عجيب وغريب، فإنه لم يكن عنده مثقال ذرة من شك في أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق؛ دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتحمل الأذى من أجله، بل حوصر معه ومع أصحابه في الشعب؛ حتى أكلوا أوراق الشجر كما قال سعد رضي الله عنه: [[حتى كان أحدنا يضع كما تضع الشاة]]، فكان أبو طالب وهو معهم يتحمل كل ذلك؛ وهو القائل في شعره:
      ولقد علمت بأن دين محمد            من خير أديان البرية دينا
      لولا الملامة أو حذار مسبة            لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
      لكنه كان يخشى أن يقول عنه الناس: ترك ملة عبد المطلب؟! فمنعه التعاظم والتفاخر بالآباء والأجداد.
      وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على هداية عمه أبي طالب، فقال الله له: ((إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ))[القصص:56]، فـأبو طالب لا يعد مسلماً بأي وجه من الوجوه، وفي هذا دليل على أن قول القلب وإقراره، واعتقاده صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفي للحكم على صاحبه بالإيمان، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
      وفرعون وإن كان على يقين بنبوة موسى وصدقه إلا أنه جحد، وابن عربي من الصوفية ألف رسالة في إيمان فرعون والعياذ بالله.
      وفي حديث حذيفة : {آخر الزمان يدرس وشي الإسلام كما يدرس الثوب، حتى لا يدرى ما صلاة ولا صيام ولا نسك، ويبقى الرجل الكبير أو المرأة العجوز يقولون: لا إله إلا الله، يقول الراوي صلة بن أشيم التابعي: وما تغني عنهم (لا إله إلا الله)؟ قال حذيفة : تنجيهم من النار}، ((لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا))[البقرة:286].
    2. استدلال المرجئة بسقوط النطق بالشهادتين عن الأبكم

      والمرجئة ينازعون في كون الإقرار باللسان ركناً في الإيمان، فقالوا: لو كان الإقرار باللسان ركناً لما سقط عن الأبكم، لأن الركن لا يسقط، ويرد عليهم بأن القيام في الصلاة مع القدرة ركن، وهذا متفق عليه بين الشافعية والمالكية والأحناف، فالذي لا يستطيع القيام كالأقطع والكسيح؛ فنحن وأنتم متفقون على سقوط الركن عنه، ولو صلى إنسان قاعداً مع قدرته على القيام في الفرض لما صحت صلاته، فيلزم من قول المرجئة صحة صلاة الرجل قاعداً مع قدرته على القيام في الفريضة، واستدلالهم هذا من أسوأ الاستدلالات.
      إذا أتينا إلى واقعنا المعاصر فسنجد أن توماس كارلايل -وهو مؤرخ إنجليزي مشهور- ألف كتاباً سماه الأبطال، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الأبطال، وهناك أمريكي آخر ألف كتاب مائة عظيم من العظماء وجعل أول العظماء محمداً صلى الله عليه وسلم، وكثير من المستشرقين يفسرون ما يعرض لمحمد صلى الله عليه وسلم من حالات بأنه وحي، ويستدلون بمشابهة حالته بحالة الأنبياء الذين يقرءون عنهم في العهد القديم، فكل هؤلاء يعتقدون بقلوبهم صدق النبي ونبوته، فهل يعدون من المسلمين ؟! الجواب: لا.
      واليهود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مقرين بنبوته وصدق رسالته، جاء في سنن النسائي والمسند عن صفوان بن عسال قال: {قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي، قال له صاحبه: لا تقل: نبي، لو سمعك كان له أربعة أعين! فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألاه عن تسع آيات بينات، فقال لهم: لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تولوا يوم الزحف، وعليكم خاصة يهود ألا تعدوا في السبت، فقبلوا يديه ورجليه وقالوا: نشهد أنك نبي، قال: فما يمنعكم أن تتبعوني؟ قالوا: إن داود دعا بألا يزال من ذريته نبي، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود}.
      وادعاؤهما غير صحيح، فإن اليهود لم يقتلوا عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه.
      الشاهد من القصة أنهما أقرا وشهدا ولم يتبعا، ولهذا قال لهما صلى الله عليه وسلم: {وما يمنعكما أن تتبعاني؟} فقول القلب وقول اللسان إذا تجردا عن عمل الجوارح لا يكفيان لحصول الإيمان ولو اجتمعا، بل لابد من عمل القلب وعمل الجوارح حتى يسمى فاعل ذلك مؤمناً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فما بالك بالذي لم يحصل منه إلا قول القلب ولم ينطق باللسان؟!
      وقد كان إبليس مقراً بربه تبارك وتعالى؛ فإنه قد قال: ((رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي))[الحجر:39] وهو مقر بالجنة والنار، ومع ذلك فهو من أكفر خلق الله، ولم تنفعه المعرفة، وأحبار اليهود كانوا من هذا الجنس والعياذ بالله، فمجرد المعرفة أو التصديق أو الإقرار بالقلب دون انقياد القلب وعمل الجوارح لا ينفع صاحبه شيئاً.
      ومن أمثلة ذلك في واقعنا الذي نعيشه من يقول: أنا مؤمن بأن هذا الدين صحيح؛ لكنه لا يصلي ولا يصوم ولا يعمل أي عمل من أعمال الإيمان، ولا يجد نفسه ملزماً باتباع هذا النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذا يقول: الدين الإسلامي صحيح، ومحمد حق، والجنة والنار حق، فهل ينفعه هذا الإقرار والاعتراف؟! الجواب: لا ينفعه ذلك.
      ومثال آخر: إذا قام حاكم يحكم بالدساتير والقوانين الوضعية، والمذاهب الإلحادية الديمقراطية، والدستور الفرنسي، وجعل التشريع للشعب والحاكمية للأمة، وجاءه عالم من العلماء يكلمه عن أحكام الإسلام وتشريعاته، فيرد عليه بقوله: أنا أعرف أن أحكام الإسلام صالحة لكل زمان ومكان؛ لكنه لم يحكم الإسلام في دولته؛ فاعترافه وإقراره لا ينفعانه، ولا فائدة في إقرار بغير اتباع ولا انقياد؛ فهو كأي مستشرق يشهد بأن الإسلام حق، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم حق وهو غير متبع ولا منقاد.
      بهذا نكون قد انتهينا من قول اللسان وقول القلب، وعرفنا أن من لم يأت بهما أو بأحدهما كان كافراً باطناً وظاهراً، يقول شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب الإيمان : إن من لم يأت بالشهادتين كان كافراً ظاهراً وباطناً بإجماع المسلمين، ولا يأخذ حكم المسلمين لا في الدنيا ولا في الآخرة، يقول تعالى: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا))[النساء:65] فلا عبرة بالإقرار والتصديق والاعتراف، دون اتباع ولا تحكيم للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن جاء بقول القلب وقول اللسان وجب عليه أن يأتي بعمل حتى يكون مسلماً.
    3. شبهة المرجئة في قياس إخفاء الإيمان على إخفاء النفاق

      هناك شبهة تشكل على المرجئة وعلى غيرهم، وهي أنهم يقولون: ماذا تقولون في الإنسان الذي يأتي بأعمال الجوارح كلها؛ لكنه في الباطن منافق؛ فهو لم يصدق ولم يخلص دينه لله؛ وهو من المنافقين النفاق الأكبر، الذين قال الله تعالى فيهم: ((إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ))[النساء:145].
      وهنا أذكر مقولة للفضيل بن عياض يقول: [[كانوا يراءون -يعني المنافقين الأولين- بما يعملون، فأصبحنا في زمان يرائي أحدهم بما لم يعمل]] فنفاق المتأخرين أشد من نفاق المتقدمين نسأل الله العفو والعافية؛ فيأتي من لم يؤمن بالله ولم يصدق برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يقول: دافعنا عن الدين وفعلنا وفعلنا، وما أكثر هؤلاء! سواء من كان منهم على النفاق الأكبر الجلي، أو من كان دون ذلك، فكله نفاق عافانا الله منه؛ فيقول هؤلاء المرجئة : يتصور أن يأتي المرء بالأعمال الظاهرة كلها وهو في الباطن كافر غير مصدق؛ فما المانع أن توجد الأعمال القلبية الباطنة، ولا توجد الأعمال الظاهرة عند شخص فيكون مخبتاً منيباً خاشعاً متقياً مؤمناً، من أهل الدرجات العلى، ولكنه لا يصلي ولا يزكي ولا يحج؟!
      نقول لهم: هذا القياس فاسد قطعاً؛ لأنه لا يمكن أن يتصور من يعمل بخلاف ما يعتقد، ولا يتصور أن إنساناً يعتقد شيئاً اعتقاداً جازماً، ويريده إرادة تامة جازمة، ولا يفعل من مقتضى ذلك الأمر شيئاً؛ بل لابد أن يظهر هذا الاعتقاد على الجوارح، فلا يمكن للمسلم أن يعمل بخلاف ما يعتقده ((إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيْمَان))[النحل:106] كمؤمن آل فرعون : ((وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ))[غافر:28] فهذه حالة استثنائية.
      أما قولهم: كما أنه يمكن أن يأتي المرء بالعمل الظاهر المخالف لما في الباطن، فكذلك يمكن أن يأتي المرء بالعمل الباطن من غير الظاهر، نقول: لا يمكن ذلك أبداً، ثم نحن لا نعرف ما في قلوب الناس.
  5. حديث الشعب أنموذجاً لأعمال الإيمان

    إذا رجعنا إلى حديث الشُّعَب نجد هذا الأمر واضحاً، فمثل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بثلاثة أمثلة: (شهادة أن لا إله إلا الله، إماطة الأذى عن الطريق، الحياء)، فهذه ثلاث شعب جعلها صلى الله عليه وسلم أنموذجاً ومثالاً لغيرها، أما شهادة أن لا إله إلا الله، فلا يمكن أن تكون أعلى شعبة في الإيمان إلا بأن يقولها المرء بلسانه ويصدق قلبه لسانه، فالظاهر والباطن فيها مرتبطان لا ينفك أحدهما عن الآخر.
    وقوله صلى الله عليه وسلم: {وأدناها إماطة الأذى عن الطريق} مثال على أعمال الجوارح، فالمؤمن المصدق لابد أن يمتثل بجوارحه.
    ثم ضرب صلى الله عليه وسلم مثلاً ثالثاً بعمل قلبي وهو الحياء، فقال: {والحياء شعبة من الإيمان} ومع أن الحياء من أعمال القلوب إلا أنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون الإنسان مستحيياً ولا يظهر أثر ذلك على الجوارح، فالحياء مع كونه عملاً قلبياً لابد أن يظهر أثره على الجوارح، كما في قصة الثلاثة الذين دخلوا الحلقة: {وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه} فهو لما استحيا قعد وراء الحلقة. ففي ورود هذه الأمثلة الثلاثة (لا إله إلا الله -إماطة الأذى- الحياء) على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم حكمة وسر عظيم.
    وعوداً على بدء نقول: إن الإجماع قد انعقد عند أهل السنة والجماعة على أن الإيمان أو الدين قول وعمل، وذلك متألف من أربعة أقسام: قول القلب، وقول اللسان، وعمل القلب، وعمل الجوارح.