القرآن كلام الله حقيقة، لفظاً ومعنى، نزل به الروح الأمين، فعلمه سيد المرسلين، وهو كلام الله لا يساويه شيء من كلام المخلوقين، ولا نقول بخلقه ولا نخالف جماعة المسلمين.
  1. القرآن كلام رب العالمين

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقوله: "ونشهد أنه كلام رب العالمين" قد تقدم الكلام على هذا المعنى عند قوله: "وإن القرآن كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً".
    وقوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ هو جبرائيل عليه السلام، سمي روحاً لأنه حامل الوحي الذي به حياة القلوب إلى الرسل من البشر صلوات الله عليهم أجمعين، وهو أمينٌ حقُّ أمين، صلوات الله عليه، قال تعالى: ((نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ))[الشعراء:193-195] وقال تعالى: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ))[التكوير:19-21] وهذا وصف جبريل، بخلاف قوله تعالى: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ))[الحاقة:40-41] الآيات، فإن الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم.
    وقوله: "فعلمه سيد المرسلين"، تصريح بتعليم جبريل إياه؛ إبطالاً لتوهم القرامطة وغيرهم أنه تصوَّره في نفسه إلهاماً.
    وقوله: "ولا نقول بخلقه ولا نخالف جماعة المسلمين"، تنبيه على أن من قال بخلق القرآن فقد خالف جماعة المسلمين، فإن سلف الأمة كلهم متفقون على أن القرآن كلام الله بالحقيقة غير مخلوق، بل قوله: "ولا نخالف جماعة المسلمين" مُجرى على إطلاقه: أنا لا نخالف جماعة المسلمين في جميع ما اتفقوا عليه، فإن خلافهم زيغ وضلال وبدعة
    ] اهـ.
    الشرح:
    قال المصنف: [وقوله: (ونشهد أنه كلام رب العالمين) قد تقدم الكلام على هذا المعنى عند قوله: (وإن القرآن كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً).] هذا الموضع سبق أن شرحناه عند شرح أقوال الناس في القرآن وفي كلام الله سبحانه وتعالى، فالذي نعتقده وندين الله سبحانه وتعالى به أنه كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين فعلمه سيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا اعتقاد أهل السنة في كتاب الله وفي كلام الله سبحانه وتعالى.
    1. جبريل عليه السلام هو سفير الوحي

      قال: "وقوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ هو جبرائيل عليه السلام" وكلمة الروح تعني الحياة، فالإنسان جسد وروح، فالروح هي التي تكون بها حياته، فإذا فارقت روحه جسده فلا حياة، فجبريل "سمي روحاً؛ لأنه حامل الوحي الذي به حياة القلوب إلى الرسل من البشر صلوات الله عليهم أجمعين" وهذا قد سبقت الإشارة إليه أو إلى شيء من معناه عند الكلام عن الملائكة وعن أعمالهم، وذكر هناك الملائكة الثلاثة الرؤساء: جبريل وميكائيل وإسرافيل، ويجمعهم أنهم موكلون بالحياة، فجبريل موكل بالوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وهي أعلى وأفضل وأشرف أنواع الحياة.
      وميكائيل موكل بالقطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، وبه تكون البركة في الأرض، فينتعش الناس به ويفرحون وإن كانوا قبل ذلك من القانطين اليائسين، وهذا الحال يشبه حال الناس قبل نزول الوحي، حيث كان الناس في جهل وجاهلية وضلالة، فإذا أنزل الله سبحانه وتعالى هذا الوحي؛ غيّر حالهم كما تتغير الأرض الهامدة، التي لا تنبت كلأً ولا تفي بمتطلبات الحياة للناس والبهائم، فإذا أنزل الغيث ازدهرت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.
      والثالث إسرافيل موكل بالنفخ في الصور، فيبعث الله بنفخته الناس ويحيون بعد موتهم.
      قال: "وهو أمينٌ حقُّ أمين، صلوات الله عليه، قال تعالى: ((نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ))[الشعراء:193-195] وذلك في معرض الرد على إفك الأفاكين ودعاوى المبطلين المكذبين لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، القائلين بأنه قول كاهن أو شاعر أو يعلمه بشر: ((وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ))[الشعراء:210-212].
    2. بيان الفرق بين الرسول وبين الكاهن والشاعر

      وقد رد الله سبحانه وتعالى في هذه السورة نفسها على كلا الدعويين: دعوى أنه شاعر ودعوى أنه كاهن، فأما الكهان فأخبر عنهم بهذه الأوصاف: ((وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ))[الشعراء:210-211] فالكهان إنما يتلقون إفكهم عن الشياطين، والنبي يأتيه الملك بالوحي من عند الله، فهما طرفا نقيض؛ إذ الكاهن يأتيه الشيطان أو المارد من الجن بالخبر الذي استرقه من السماء، أو ما يوحي به الشيطان الأكبر إلى أوليائه ليوحوا به وليقذفوه إلى هؤلاء الكهان.
      فالوحي الإلهي غاية في الصدق، وخبر الكاهن في غاية الكذب والدجل والافتراء، فالأول من عند الله، والثاني من عند عدو الله، فكيف يتجرأ الكفار فينسبون النبي إلى الكهانة؟ أليس هذا محض الظلم والإفك والافتراء.
      وأما الدعوى الثانية فالرد عليها هين، قال تعالى: ((وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ))[الشعراء:224-226] فأبعد شيء أن يكون الرسول صلوات الله وسلامه عليه شاعراً أو تلقى هذا عن شاعر، فالشعراء يتبعهم الغاوون، وهذا الرسول صلوات الله وسلامه عليه إنما يتبعه الهداة المستقيمون، الذين باتباعهم له تزول غوايتهم وانحرافهم وضلالهم، ويتحولون من قطّاع طرق، وسفاكي دماء، ومن غافلين عن الله واليوم الآخر، ومن مجرمين وقساة غلاظ الأكباد؛ إلى أولئك البشر الذين لم تشهد هذه الدنيا ولم يطأ هذا التراب أفضل منهم، ولا أطهر من أخلاقهم وأبر منهم.
      والشعراء في كل أمة -إلا من استثناهم الله سبحانه وتعالى- معلوم أتباعهم، فإن التابع يدل على المتبوع، فإن عرفت من يحب أحداً ويتبعه ويواليه وينصره، فقد عرفت ذلك الرجل: ((وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ))[الشعراء:224-225].
      وشتان بين القرآن أو بين ما يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الشعر، تجد الشاعر اليوم يمدح وغداً يذم، وكلما تغزل بامرأة أقسم الأيمان أنه ليس في الدنيا أجمل منها، وعما قريب يذكر أخرى، فيعيد الأيمان والأقسام والتأكيدات والتشبيهات على أنها أجمل ما في الوجود، ثم يذكر الثالثة وهكذا، وكل قضية يأتي بها يكذب فيها بما يناقض ما قاله في قضية أخرى.
      وهم في كل واد يهيمون؛ فتجدهم في أودية الغزل والمديح والرثاء والشهوات والشبهات، لكن الرسول صلوات الله وسلامه عليه يأتي بالحق والفصل الذي ليس بالهزل، دعوته واحدة؛ وهي الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ودعوة الناس إلى أن يستقيموا وأن يعبدوا الله وأن يزكوا أنفسهم مما بها من الشرك والمعاصي، وأن يطيعوا ربهم، وأن يعرفوا الله سبحانه وتعالى، وأن يفكروا في مصيرهم ومآلهم بعد هذه الحياة، فهي دعوة واحدة، دعوة حق لا تضطرب ولا تتناقض، فكيف يشتبه عليهم الرسول بالشاعر؟
    3. الرد على من ينسب القرآن إلى قول البشر

      ثم قال: "وقال تعالى: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ))[التكوير:19-21] وهذا وصف جبريل بخلاف قوله تعالى: (( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ))[الحاقة:40-41] الآيات" وقد تقدم الكلام عن هذا الموضوع في أوائل الكتاب، والمقصود أن الله تبارك وتعالى أضاف القرآن إلى رسوله في موضعين، ونحن نقول: القرآن هو قول الله سبحانه وتعالى، فكيف نوفق بين هذين الموضعين وبين قوله سبحانه: ((وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي))[السجدة:13] وقال جل ثناؤه: ((مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ))[سبأ:23] فأضاف القرآن إلى نفسه سبحانه، وأيضاً فإنه تعالى وقد توعد من قال: إنه كلام البشر بالنار، قال تعالى: ((إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ))[المدثر:25] * ((سَأُصْلِيهِ سَقَرَ))[المدثر:26]، لكن كيف نوفق بين هذا وبين قوله تعالى: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ))[الحاقة:40] في الموضعين؟ وشبهة من هذه من الفرق؟
      والجواب: إن هذه شبهة الأشاعرة الذين يقولون: إن كلام الله هو الكلام النفسي، وأما الألفاظ والحروف التي بين الدفتين فهو عبارة عن كلام الله أو حكاية عن كلام الله، وكلام الله عندهم هو المعنى القائم بالنفس، فإذا قيل لهم: فمن المعبِّر؟ قالوا: جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا قيل لهم: ما الدليل على ذلك؟ أتوا بهذه الآية: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ))[الحاقة:40] قالوا: فالقول قوله حكى به أو عبر عن كلام الله الذي هو المعنى القائم بنفسه، فهذا إفكهم وباطلهم.
      ولهذا فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: إن هؤلاء قد وافقوا المشركين في نصف قولهم حين قالوا: ((إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ))[المدثر:25] فالمشركون يقولون: لفظه ومعناه من قول البشر، وقالوا: ((إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ))[النحل:103] قيل: إنه بحيرى الراهب أو غيره، فذلك البشر في نظر المشركين هو الذي وضع القرآن لفظه ومعانيه، ومحمد صلى الله عليه وسلم -وحاشاه من ذلك- تلقى هذا عنه وزعم أنه من عند رب العالمين، وهذا كفر صراح نتفق نحن وكل هذه الفرق على أن القائل بهذا القول كافر كفراً صريحاً مخرجاً من الملة.
      يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ملزماً لهم: فأنتم وافقتم أولئك الكفار (مشركي قريش وغيرهم) في نصف قولهم؛ لأنكم جعلتم اللفظ من كلام البشر والمعنى من عند الله، فأنتم وافقتموهم في نصف قولهم، والقول الصحيح أنه كلام الله لفظه ومعناه، لكن أنتم قلتم: اللفظ من قول البشر والمعنى قائم بالذات.
      ثم العجب أن يستطيع أحد أن يحكي كلام رب العالمين، فإذا قلتم: إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وأن هذا هو حكاية كلامه أو عبارة عن كلامه، فهل يستطيع أي مخلوق أن يعبر عن كلام الله حتى لو قلتم: إنه جبريل، أو محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يستطيع أي مخلوق أن يحكي صفة رب العالمين سبحانه وتعالى، فإن ذلك محال.
      ثم أنتم تقولون: إن القرآن معجز، وتقرون أنه لو اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثله؛ فلن يستطيعوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، ومع ذلك تقولون: إن محمداً صلى الله عليه وسلم عبر بالقرآن من عنده، وعليه فيمكن لأن عربي أن يأتي بمثله أو ما يقاربه حتى ولو كان تعبيره أقل بلاغة أو فصاحة.
      فالهوة بين صفة من صفات الله وبين أن يعبر خلقه عنها أو يحكوها هي أعظم من قولهم: كيف يكون الله سبحانه وتعالى قد تكلم، ثم سمع هذا الكلام مخلوق وهو الروح الأمين الذي تلقاه ونزل به على محمد صلى الله عليه وسلم، فإن هذا إن كان فيه بعد ففيما فروا إليه بعد أعظم، ويلزمهم أن يقروا بأنه كلام الله سبحانه وتعالى كما يقول أهل السنة والجماعة .
      بقي أن نقول: إن قوله تعالى: "إنه لقول رسول كريم": في سورة التكوير الرسول فيها هو جبريل عليه السلام، وأما التي في سورة الحاقة فإنها في وصف محمد صلى الله عليه وسلم، والسياق مختلف، ففي التكوير: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ))[التكوير:19-21] وهذا وصف لجبريل عليه السلام، فهو الرسول المبلغ عن الله سبحانه وتعالى الذي ألقاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فجبريل تلقاه من رب العالمين وبلَّغه، كما في آية الشعراء: ((نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ))[الشعراء:193-195] فالوصف هنا للمبلِّغ، وهو جبريل عليه السلام.
      وأما في آية الحاقة؛ فالرسول الكريم هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي بُلِّغَ هذا القرآن من عند الله سبحانه وتعالى، ولهذا نفى عنه أن يفتري أو يزيد: ((وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ))[الحاقة:44-46] إذاً: هو لا يأتي بشيء من عنده، بل هو مبلغ صلوات الله وسلامه عليه، وعليه أن يبلغه وينقله كاملاً، وإن لم يفعل فليس بمبلغ: ((وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ))[المائدة:67] والله سبحانه وتعالى عصمه من الخيانة في هذا البلاغ، وهكذا كل نبي أرسله الله سبحانه وتعالى فهو معصوم عن الخيانة وعن الكتمان فيما يأمره الله تبارك وتعالى بإبلاغه.
      إذاً: هاتان الآيتان إحداهما في صفة المبلِّغ والأخرى في صفة المبلَّغ، أما المتكلم القائل لهذا القرآن فهو الله سبحانه وتعالى.
  2. القرآن كلام الله وحياً وليس فيضاً من العقل الفعال

    ثم يقول المصنف: [وقوله: "فعلَّمه سيدَ المرسلين" إذاً: الروح الأمين جبريل عليه السلام علم القرآن سيدَ المرسلين محمداً صلى الله عليه وسلم، وفي هذا كما قال: تصريح بتعليم جبريل إياه إبطالاً لتوهم القرامطة وغيرهم أنه تصوره في نفسه إلهاماً]، وقد تحدثنا عن مذاهب الناس في كلام الله، وهنا ذكر المصنف قولاً واحداً منها وهو قول القرامطة لأنه أشنع ما قيل، فقول الذين قالوا بأنه حكاية أو بأنه عبارة هم أخف وأهون شراً من القائلين بأنه فيض وإلهام، وهذا القول هو قول القرامطة والمتفلسفة والباطنية عموماً، وهو قول المستشرقين وأذنابهم حديثاً، فالوحي عندهم هو مجرد شعور بالإلهام أو كما كان الأولون يعبرون بأنه فيض فاض، وقد سبق أن ذكرنا نظرية الإيجاد والخلق عند فلاسفة اليونان وعند الصابئين والتي أخذتها الباطنية والقرامطة والفلاسفة.
    ومن ذلك أيضاً نظرية العقول العشرة، وأن العقل الفعال يفيض على من دونه، وتأويلهم للوح المحفوظ ولعالم الملكوت وعالم الجبروت، وهذا الكلام سبقت الإشارة إليه، لكن لا بأس أن نعيد شيئاً منه هنا للإيضاح.
    وبالمناسبة فإن كتاب بغية المرتاد لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كان قد طبع مع مجموع الفتاوى الكبرى في أقدم طبعاتها، وهي الطبعة المطبوع في أولها التسعينية وفي آخرها العقيدة الأصفهانية وبغية المرتاد، ثم حقق الأخير وطبع مستقلاً واسمه: بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد من القائلين بالحلول والاتحاد، وهي رسالة عظيمة حققها الدكتور موسى بن سليمان الدويش من الجامعة الإسلامية في المدينة، وفي هذا الكتاب يرد شيخ الإسلام رحمه الله على القرامطة والباطنية مزاعمهم في الوحي وغيره، كما رد على ابن عربي وابن سبعين والقونوي، ورد على أرسطو وأفلاطون وغيرهم.
    فمثلاً في صفحة (100) ذكر نظرية الفيض فقال: "نظرية الفيض عبارة عن تصوير صدور الموجودات عن الله أو صدور الكثرة عن الواحد" فهم لا يقولون: إن الله سبحانه وتعالى خلق المخلوقات وخلق جبريل ومحمداً صلى الله عليه وسلم وتكلم بما شاء كيفما شاء، إنما يقولون: إن العقل الأول هو الذي يفيض المعرفة على الأشياء، فأول ما بدأت النظرية عند أفلوطين وشيعته، وصورها عندهم شيخ الإسلام أنهم يقولون: "إن إحداث الأشياء ما هو إلا انتشار ما في العلة الأولى من القدرة على التعقل والتأثير، مع بقاء ذاتها على ما كانت عليه من السكون والكمال المتعالي عن كل نوع من التغيير والحركة" ونفاة الصفات إنما أخذوا مذهبهم عن هؤلاء كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في العقيدة الحموية حيث يقولون: إن الله تعالى منزه عن الحوادث، وعن الحركة، وعن التغير، وعن الانتقال وغير ذلك، ولذلك ينفون عنه الكلام والنزول والاستواء وغيرها من الصفات بمثل هذه التعليلات التي قال بها أولئك الأقدمون من الوثنيين.
    إذاً فهم يقولون: العلة الأولى ينتشر ما فيها من القدرة على العقل والتأثير فيضاً مع بقاء ذاتها؛ وقد كان لدى أفلاطون وأرسطو تصور عجيب، وهو أن الكامل لو فكر في الناقص لعدَّ ذلك نقصاً، فلهذا يحاولون أن يجعلوا العلة الأولى التي يعبرون بها عن الله سبحانه وتعالى في كلامهم كمالاً مطلقاً، ومن كمالها المطلق عدم التفكير فيما دونها ولا مخاطبته ولا كلامه، ولذلك فالذين نفوا غضب الله ورضا الله ورحمة الله، وأولوها من المعتزلة والأشعرية - إنما نفوها بناء على ذلك؛ يقولون: حتى لا يقال إن ما وجد من العلة الأولى يؤثر في العلة الأولى التي هي كمال مطلق، بمعنى أن من يعصي أو يفسد أو يظلم فإنه قد أغضب الله، فكأن المخلوق إذا أغضب الله قد أثر في الخالق، فقالوا: إذاً الأفضل أن ننفي عنه الغضب والمحبة والرضا ونحوها من الصفات، فوقع نفيها بهذه الشبهات التي أصلها من كلام الكفرة الذين لم يعرفوا رسولاً ولا كتاباً ولا وحياً، فجاء هؤلاء فنقلوا هذا الاعتقاد إلى دين المسلمين.
    ثم ذكر شيخ الإسلام نظرية ابن سينا وغيره من الفلاسفة، وقد أفاض رحمه الله تعالى في بيان تأثر أبي حامد الغزالي بهذه النظرية، إلى أن قال في (ص 326): "والأصل الثاني من الأصلين الفاسدين: كون روح العبد تطالع اللوح المحفوظ" وهذا ما كان ولا يزال يقوله غلاة الصوفية من أهل الحلول والاتحاد، فإنهم يرون أنهم يطالعون اللوح المحفوظ.
    يقول ابن تيمية رحمه الله: "فإن هذا هو قول هؤلاء من المتفلسفة القرامطة أن اللوح المحفوظ وهو العقل الفعال أو النفس الكلية، وذلك ملك من الملائكة، وأن حوادث الوجود منتقشة فيه، فإذا اتصلت به النفس الناطقة فاضت عليها" وهذا الكلام هو الذي قرره أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى في الفترة التي كان فيها على مذهب التصوف.
    وحاصل قولهم: أن اللوح المحفوظ تعبير عن العقل الفعال أو عن النفس الكلية، وهذه النفس الكلية تتصور في شكل مخلوق، فإذا اتصلت به نفس من النفوس أفاض عليها من النور والحكمة والمعرفة، وعليه فالرسالة مكتسبة والوحي مكتسب كما صرح به بعضهم، وقد كان ابن سبعين ممن يعتقد ذلك، وقد جلس في غار حراء زمناً طويلاً معتكفاً، متوقعاً أن الوحي سينزل عليه، ولما نوقش في ذلك وقيل له: إن الوحي قد انقطع، قال: لقد تحجر ابن آمنة واسعاً، يعني حين قال: (لا نبي بعدي).
    فكانوا يتوهمون أنه بالمجاهدة وبالرياضات يمكن أن ينزل عليهم الوحي، والوحي عندهم هو ما ذكرناه؛ لأنهم قرءوا ذلك في كتب الباطنية القرامطة وأمثالهم، وهذا الكلام موجود في مجموعة رسائل إخوان الصفا، وهذا هو تقديرهم للعقول العشرة أو الأفلاك العشرة، وهذا البحث قد مر معنا في عدة مواضع كمبحث الكلام ومبحث النبوة، وعند قول المصنف قريباً: "وأما كتبه عندهم، فإنهم لا يصفونه بالكلام، فلا يكلم ولا يتكلم، ولا قال ولا يقول، والقرآن عندهم فيض فاض من العقل الفعال على قلب بشري زاكي النفس طاهر، متميز عن النوع الإنساني بثلاث خصائص: قوة الإدراك وسرعته لينال من العلم أعظم ما يناله غيره، وقوة النفس ليؤثر بها في هيولى العالم، يقلب صورة إلى صورة، وقوة التخيل يتخيل بها القوى العقلية في أشكال محسوسة وهي الملائكة عندهم، وليست ذاتاً منفصلة تصعد وتنزل وتذهب وتجيء وترى وتخاطب الرسول، وإنما ذلك عندهم أمور ذهنية لا وجود لها في الأعيان" والمقصود أننا في موضوع النبوة والقرآن والإيمان بالكتب تعرضنا لهؤلاء ولشأنهم ولمذهبهم الباطل.
    والباطنية أول ما ظهرت في الربع الأخير من القرن الثالث، في جهة سواد الكوفة، ثم بدأت هذه الدعوة الخبيثة تنتشر، وبالنظر في انتشارها يمكن تقدير ما أصاب الأمة في آخر القرن الثالث وأول الرابع من الضعف والهوان وفساد العقيدة لوجود هؤلاء، فقد انتشروا في بلاد فارس والعراق وجزيرة العرب وبلاد الشام ومصر واليمن، كل هذه البلاد عمتها دعوة الباطنية، بل أصبحت حكوماتها باطنية ولم تبق إلا الخلافة في بغداد ودمشق وبعض المدن.
    وهؤلاء الإباحيون كانوا قد أبطلوا الصلاة والصيام وغيرها من الشرائع العملية، وأبطلوا أيضاً العقائد ومنها القول باليوم الآخر، والقول بأن القرآن حق، والقول بأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حق، وغير ذلك، وما هذا الانتشار إلا دليل على ما وصلت إليه الأمة من الضعف والانهيار، حتى قيض الله سبحانه وتعالى لها الأتراك السلاجقة الذين قضوا على دويلات الباطنية.
    والمقصود أن هؤلاء القرامطة والباطنية يعتقدون أن القرآن فيض فاض، ولا يعتقدون أنه كلام الله نزل به جبريل وعلمه محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا من الأمور التي جعلت أكثر فرق المسلمين تكفرهم كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله.
    وأشار -أيضاً- في ص (235) إلى أنهم عمدوا إلى الألفاظ الشرعية فجعلوها أسماء لمسميات أخرى، فمثلاً جعلوا العرش فلكاً من الأفلاك العشرة، فالسماوات السبع هي سبعة أفلاك، ثم الكرسي هو الفلك الثامن، والعرش الفلك التاسع، فأولوا السماوات السبع والكرسي والعرش بهذه الأمور، وأولوا اللوح المحفوظ بأنه العقل الفعال أو النفس الكلية؛ وعند بعضهم أن جبريل هو العقل الفعال أو النفس الكلية التي فاض منها الوحي، وأولوا النبوة، وأولوا عالم الملكوت والجبروت ففرقوا بينهما، قالوا: هذا عالم وهذا عالم، فهم يأتون بالألفاظ الشرعية فيؤولونها، أي أنهم يأتون إلى كلمة فلسفية أو اصطلاح فلسفي قديم عند قدماء اليونان، ثم يأخذون لفظة شرعية فيعبرون بها عن ذلك المعنى الفلسفي، وهذا من غاية التمويه والفساد إذ أنه يعكس معتقدات الناس، فكان الله عندما يخبرنا عن جبريل يقصد به العقل الكلي، وعند إخباره عن العرش فقصده الفلك التاسع، وهكذا.
    يقول الغزالي رحمه الله تعالى: "ومنهم من لم يتدرج في الترقي -أي من المحجوبين عن الله- على التفصيل الذي ذكرناه، ولم يطل عليهم الطريق، فسبقوا من أول مرة إلى معرفة القدس وتنزيه الربوبية عن كل ما يجب تنزيهه، فغلب عليهم أولاً ما غلب على آخر الآخرين، إذ هجم عليهم التجلي دفعة واحدة، فأحرقت سبحات وجهه جميع ما يمكن أن يدركه بصر حسي وبصيرة عقلية من غير تدريج، ويشبه أن يكون الأول طريق الخليل" يعني بالأول التدرج، وبالخليل إبراهيم عليه السلام، قال: "والثاني طريق الحبيب صلوات الله عليهما" فإنه رأى ذلك دفعة واحدة. يقول: "فهذه إشارة إلى المحجوبين بالنور والظلمة، ولا يبعد أن يبلغ عددهم -إذا فصلت المقامات، وتتبع حجب السالكين- سبعين ألفاً، ولكن إذا فتشت لا تجد واحداً منهم خارجاً عن الأقسام التي حصرناها، فإنهم: إما محجوبون بصفاتهم البشرية أو بالحس أو بالخيال أو بمقايسة العقل أو بالنور المحض كما سبق" فجعل الغزالي من أنواع المحجوبين من حجب بالنور المحض، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {نور أنى أراه}، فالنبي صلى الله عليه وسلم حجب بالنور المحض، فهو عنده من جملة المحجوبين.
    يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "فهذا الكلام مع ما فيه من تصويب نفاة الصفات من المتفلسفة والقرامطة ونحوهم، وتخطئة الصفاتية الذين هم سلف الأمة وأئمتها وأهل الحديث والتصوف والفقه، وحذاق أهل الكلام من الكلابية والأشعرية والكرامية والهشامية وغيرهم، ويتضمن أيضاً تفضيل الذين يعتقدون في أحد النفوس والعقول أنه رب العالمين، وغايتهم أن يجعلوا ذلك هي الملائكة. ويتضمن تفضيل من يعتقد في ملك من الملائكة أنه رب العالمين على من يقر برب العالمين" لأنه إذا كان العقل الفعال أو النفس الكلية هو جبريل، فمعنى ذلك أن هذا الملك هو رب العالمين الذي صدرت ونشأت عنه المخلوقات، وفي الفكر اليوناني قاعدة ورثها عنهم الرومان ثم هي الآن في الفكر الأوروبي، وهي أن كلمة الإله تطلق على كل من نبغ وتفوق في أي شيء، ولذلك سموا نيوتن إله العلم؛ وسموا دارون إله العلم، وسموا هيجل إله الفلسفة، حتى إن بعض الممثلين سموا إله الفن.. إلخ، ومثله ما يحصل عندنا من إطلاقهم على المغني: (معبود الجماهير) لكنها عندهم حقيقة، أما نحن فنستخدمها بصورة مجازية بحتة، وهي عندهم أقرب إلى أن تكون حقيقة، فمن نبغ وتفوق فهو إله؛ لأن من عقائدهم الوثنية اليونانية القديمة أن كل شيء له إله، فالمطر له إله، والرياح لها إله، والجمال له إله، والخير له إله... إلخ، فمقتضى كلام الغزالي: أنه تصديق بحقيقة العقل الفعال والنفس الكلية، وأن اتصال مخلوق من البشر مع النفس الكلية يقتضي الفيض، ومن لوازمه اعتقاد أن من يعتقد أن الخالق هو أحد الملائكة أنه على حق، إن لم يكن أفضل، واعتقاد أنه إن لم يكن هو صاحب النظرية الصحيحة، فعلى الأقل أنه على صواب، عياذاً بالله من ذلك.
    يقول شيخ الإسلام: "ويتضمن تفضيل من يعتقد في ملك من الملائكة أنه رب العالمين على من يقر برب العالمين من الصفاتية المسلمين واليهود والنصارى. وإذا كان معلوماً بالاضطرار من دين الرسل كلهم أن الفلاسفة الصابئة الذي يعبدون الملائكة -مع قولهم أنهم مخلوقون- هم أسوأ حالاً من أهل الكتاب -اليهود والنصارى- مع ما وصف الله به هؤلاء من المقالات الغالية في التعطيل فكيف بهؤلاء؟
    ولبيان كلامه نذكر ذلك بالتدرج: فالمؤمنون الموحدون أتباع الخليل محمد صلى الله عليه وسلم، يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله كما أخبر رب العالمين، وأما أهل الكتاب فكفار؛ لكنهم يقرون بأن الله هو الخالق وأن له رسولاً حقيقياً مخلوقاً اسمه جبريل عليه السلام، وأنه ينزل بالوحي على بشر حقيقي هو موسى أو عيسى أو غيرهما من الرسل، فيتفقون معنا في مثل هذه المعاني، ويخالفوننا فيما يتعلق بصفات الله، كما قال تعالى: ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ))[المائدة:64] وأيضاً: ((لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ))[آل عمران:181].
    إذاً: اليهود خالفونا في بعض الصفات، لكننا متفقون معهم في قدر كثير نعلم به أنهم أقرب إلينا ممن بعدهم من عباد الملائكة، فمن يعبد ملكاً وإن كان يعتقد أنه مخلوق لله فهو أبعد عن الهدى وأكفر من اليهود والنصارى، وهؤلاء هم الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ))[الإسراء:57].
    ثم إن هناك من هو أبعد منهم جميعاً، وهو من قال: إن هذه الكواكب مستقلة بالخلق والتأثير والإيجاد، وأطلق عليها أسماء الملائكة، وهؤلاء هم الصابئة وأشباههم من الوثنيين الذين بعث فيهم إبراهيم عليه السلام، فكيف يتفق لـأبي حامد الغزالي أن يجعل الأربعة الأنواع من أنواع الحجب فيقول: هذا محجوب بالحس والخيال، وهذا محجوب بالصفة البشرية، وهذا محجوب بالقياس، وهذا -يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وهو الخليل- محجوب بالنور، وكيف يصدق قول من قال: إن جبريل هو العقل الفعال أو النفس الكلية، وأن اللوح المحفوظ هو ما ينتقش من العلوم في قلوب أو في نفوس الأولياء، فإنه لو فضل اليهود لأنكر عليه، ولو فضل عبَّاد الملائكة لأنكر عليه، فكيف وهو يفضل من يعبدون هذه الكواكب ويعتقدون أنها هي الله وأنها هي الملائكة! يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "ومع هذا فالمشركون الذين يعبدون الملائكة أو غيرها أسوأ حالاً من هؤلاء باتفاق المسلمين مع إقرارهم برب العالمين، فكيف بتفضيل من يقول: إن ملكاً هو رب العالمين على طوائف المسلمين واليهود والنصارى الذي يثبتون الصفات.. إلى آخر ما ذكر".
    يقول: "ومنشأ هذا الضلال الذي وقع في قصة إبراهيم ما تقدم ذكره من ظنهم أنه قال: إن الكوكب أو القمر أو الشمس رب العالمين، وليس الأمر كذلك، بل إبراهيم عليه السلام خاطب قومه المشركين الذين كانوا مع إقرارهم برب العالمين يعبد أحدهم ما يستحسنه ويهواه ويراه نافعاً له، فهذا يعبد المشتري وهذا يعبد الزهرة، وهذا يعبد غيرهما كما كانت الكواكب تعبد، وكان أعظم ما يعبد من ذلك الشمس والقمر لظهور تأثيرهما في هذا العالم".
    ثم يقول: "وقد ذكر المصنفون لأخبارهم أن أحد مسجدي دمشق، وحران هيكل المشتري، والآخر هيكل الزهرة، وكان إبراهيم عليه السلام قد ولد بـحران كما هو معروف عند أهل الكتاب وجمهور المسلمين، وكان أبوه في ملك النمرود، وكان قد استولى على العراق وغيرها، وكانوا صابئة فلاسفة يعبدون الكواكب. وقد صنف من صنف في مخاطبة الكواكب والسحر على مذهبهم مثل كتاب السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم " لمؤلفه الرازي إمام الأشعرية في عصره، فيكون قد ألف هذا الكتاب مؤيداً لمذهب الصابئة . والمقصود من كل هذا أن المصنف رحمه الله يؤكد على أننا نعتقد ونؤمن بأن جبريل نزل بالقرآن وعلمه محمداً صلى الله عليه وسلم إبطالاً لما يعتقده أولئك الكفرة، فمن اعتقد قولهم فقد كفر وإن أخطأ من أخطأ وتابعهم في ذلك من علماء المسلمين.
  3. القول بخلق القرآن مخالفة لجماعة المسلمين

    1. معنى جماعة المسلمين

      قال: "وقوله: (ولا نقول بخلقه) -أي: القرآن- (ولا نخالف جماعة المسلمين) تنبيه على أن من قال بخلق القرآن فقد خالف جماعة المسلمين"، والجماعة هنا ليست بمعنى الاجتماع على الإمام العادل وعدم الخروج عليه، بل بمعنى الحق والسنة، فمن قال: إن القرآن مخلوق، فقد خالف الحق والسنة، وكأن المصنف رحمه الله قد استدرك على هذا فقال: "فإن سلف الأمة كلهم متفقون على أن القرآن كلام الله بالحقيقة غير مخلوق"، واللالكائي رحمه الله تعالى في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ذكر طبقات تلو طبقات من الصحابة والتابعين ثم أتباعهم ممن يصرحون أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وذكر غيره نحو ذلك أو قريباً منه، فهذا اتفاق عند السلف، فمن خالفهم فقد خرج عن أن يكون من جماعة المسلمين، أي من قال: إن القرآن مخلوق فليس من أهل السنة والجماعة ؛ لأنه قد خالفهم في أصل عظيم ومفترق طريق بين الحق والباطل، لكن المصنف رحمه الله عاد فاستدرك على نفسه وقال: "بل قوله: (ولا نخالف جماعة المسلمين) مُجرى على إطلاقه: أنّا لا نخالف جماعة المسلمين في جميع ما اتفقوا عليه" أي: فليست قضية القرآن وحدها، بل ولا نخالف جماعة المسلمين في أي شيء؛ "فإن خلافهم زيغ وضلال وبدعة"، كما قال تعالى: ((وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا))[النساء:115] وهذه الآية من أصرح وأقوى الأدلة على أن مخالفة الإجماع لا تجوز، وإذا كانت المخالفة في العقيدة؛ فالمخالف ضال زائغ مبتدع، وقد يكون كافراً بحسب ما خالف فيه.
      إذاً: لا نخالف جماعة المسلمين، بل نحن متبعون ولسنا مبتدعين في كل باب من أبواب العقيدة وفي كل مسألة من مسائلها.
    2. ترتيب الفرق قرباً وبعداً من السنة

      قال: [فإن خلافهم زيغ وضلال وبدعة] فكل من خالف أهل السنة والجماعة وخالف ما كان عليه السلف الصالح فقد وقع في الزيغ والضلال والابتداع، وقد يكون هذا الزيغ والضلال كفراً، وقد تكون البدعة كفرية والعياذ بالله، وقد يكون أقل من ذلك، فبحسب المخالفة يكون الحكم على المخالف.
      ومن خالفهم في باب من أبواب العقيدة، فليس كمن خالفهم في بابين، ومن خالف في بابين فليس كمن خالف في ثلاثة أو أكثر وهكذا، فالمخالفة أنواع، ولهذا لما تعرضنا فيما سبق إلى أركان الإيمان الستة في موضوع الإيمان بالكتب، ذكرنا أن أعظم الناس ضلالاً وكفراً وبعداً عن الجماعة الفلاسفة كـابن سينا والفارابي والكندي ومن شابههم، ومن كان في طبقتهم من الحلولية والاتحادية كـابن عربي وابن سبعين والقونوي والتلمساني وأشباههم، فهؤلاء أبعد الناس عن الإيمان والسنة، وأشدهم كفراً وضلالاً.
      وأقرب الناس إلى أهل السنة والجماعة من الطوائف والفرق المخالفة لهم: الأشعرية والكلابية والماتريدية، وهذه الفرق في جملتها ليست من أهل السنة والجماعة، لكنها أقرب الفرق إلى أهل السنة، مع أن ما هم فيه هو ضلال وزيغ وابتداع، وعندهم انحراف كلي أو جزئي في بعض أبواب العقيدة، ثم بعد ذلك يأتي المعتزلة ومن وافق منهجهم، وإذا قلنا: المعتزلة ؛ فإن الشيعة الزيدية والإثني عشرية يدخلون تحتهم، كما تدخل ضمن ذلك الإباضية وهم من الخوارج وهم معتزلة، ثم بعد ذلك تأتي الجهمية ومعهم الروافض .
      ونحن إنما رتبناهم كذلك لأن الجهمية ينكرون الأسماء والصفات، والمعتزلة ينكرون الصفات ويثبتون الأسماء، والأشاعرة يثبتون الأسماء ويثبتون بعض الصفات، وبعض العلماء كـابن المبارك والفضيل بن عياض وسفيان بن عيينة وكثير من أئمة السلف أخرجوا الجهمية عن أهل القبلة.
      ثم يأتي بعد من ذكرنا أكثر غلاة الصوفية وغلاة الرافضة والباطنية والفلاسفة ومن وافقهم، وإن شئت أن تجعل الفلاسفة قسماً آخر مستقلاً فهم أكفر الناس جميعاً، وإن جعلتهم مع هؤلاء فلا حرج، فهذه هي طبقات هذه الفرق من حيث بعدها عن الجماعة والسنة.
      وإذا استخدمنا الأسماء نجد أن ابن سينا والرازي والمقصود هنا أبو زكريا الطيب لا فخر الدين الرازي المعروف بـابن الخطيب فإن بينهما ثلاثة قرون -والكندي وأشباههم من فلاسفة الصوفية الحلولية والاتحادية كـابن عربي، وابن سبعين وصدر الدين القونوي، وعفيف الدين التلمساني - الفاجر الذي سمى نفسه العفيف التلمساني-، والحلاج، ومع هؤلاء في الكفر والإلحاد الباطنيون من دعاة القرامطة أتباع حمدان قرمط، ودعاة الدرزية الذين دعوا إلى عبادة أو تأليه الحاكم العبيدي وأمثالهم.
      وأصحاب هذه الطبقة أكفر من اليهود والنصارى؛ ولهذا لا تحل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم، ولا يؤخذ منهم جزية، ولا يقبل منهم إلا التوبة أو السيف، وإذا تابوا فلابد من التأكد من توبتهم، وبعض العلماء قال: لا يستتابون لأنه لا يمكن معرفة توبتهم، بل يقتلون رأساً، وأسوأ ما فيهم أنهم ينتسبون إلى دين الإسلام، وإلا فالذي يدين بـالنصرانية نقره على دينه بأحكام أهل الذمة المعروفة، أما هؤلاء فلا نقبل أن ينتسبوا إلى الإسلام وهم يطعنون فيه، ويفسدون على المسلمين دينهم، ويضيعون حقيقته، وقد ارتكبوا في حق المسلمين في جميع العصور جرائم لم يرتكب مثلها أعداء الإسلام.
      فالذين انتهكوا حرمة البيت الحرام وقتلوا الحجاج وأخذوا الحجر الأسود هم القرامطة، ولم يجرؤ على ذلك النصارى ولا اليهود ولن يجرءوا، ولكن القرامطة يفعلون ذلك ويجرءون عليه.
      هذا مع العلم أن الدروز يعتقدون أن الحاكم العبيدي سينزل في آخر الزمان فهم ينتظرونه، أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فينتظرون المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، الذي يأتي فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وأما اليهود فينتظرون المسيح الدجال الأعور الكذاب، الذي يرفع شأنهم ويعيد ملكهم في العالم كما يزعمون، أما الدروز فقالوا: إن الذي يرجع هو الحاكم العبيدي، وإنه سيقيم دولة وقوة يسيطرون بها على العالم، وأعظم أفعاله إذا نزل أن الدروز يذهبون معه إلى مكة ويهدمون الكعبة حجراً حجراً، ويقتلون المسلمين واحداً واحداً.
      وأما الرافضة فينتظرون القائم المنتظر صاحب الزمان -بزعمهم- فإذا ما جاء فإنهم لا يكتفون بقتل المسلمين الأحياء كما يفعل الدروز، بل يعتقدون أنه يبعث أبا بكر وعمر وكل من ولي أمور المسلمين ويقتلونهم جميعاً انتقاماً لأهل البيت، ثم يقتل بقية الموجودين.
      وهذه كلها أحقاد وبواطل، وكلها ضلال إلا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما عليه أهل السنة والجماعة الذين يجاهدون ويقاتلون لإحياء هذه السنة ولإعلاء كلمة الله حتى ينزل المسيح ابن مريم عليه السلام، أما أولئك فعقائدهم كلها أحقاد وتشفٍ، فنقول: إن هذه الفرق والطوائف الضالة خالفت الجماعة، وهذه أوجه مخالفتها متفاوتة قرباً وبعداً.
  4. حكم تكفير أهل القبلة بالذنوب

    قال المصنف رحمه الله: [قوله: ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله]. أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين) يشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب.
    واعلم -رحمك الله وإيانا- أن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه -في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم- على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية.
    فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين".
    من هذه الفقرة سندخل في باب عظيم مهم، وهو ما يتعلق بالأسماء والأحكام، وهو باب كثر فيه اللغط والكلام قديماً وحديثاً، وقد أطال فيه الشيخ رحمه الله تعالى، وسنفصل إن شاء الله في حكم الإيمان وحقيقته، وفي حكم أهل الكبائر، والحكم على المعينين، والتفاوت بين أهل الإيمان، وكونهم أولياء الرحمن.. إلى آخر ذلك.
    وهذا الباب هو من أكثر المسائل في هذا العصر التباساً على الناس، أعني ما يتعلق بالإيمان والكفر، والتكفير والوعيد والتبديع والتضليل والتفسيق، وأحكام كل منها ومعاملة أصحابها، حتى إنك إذا نظرت إلى واقع الأمة الإسلامية وجدت أن من الناس من يكفر خيار الأمة وعلماءها، ومنهم من لا يكفر أشد الناس كفراً وأبعدهم عن دين الله، وأكثر الناس يخوضون فيها بغير علم ولا تفصيل ولا أدلة شرعية، ومن يفصل فقد يخطئ، بل كثير منهم يخطئون، لكن الله قد عصم أهل السنة وعصم الأمة أن تجتمع على ضلالة، فالحق موجود في أهل السنة ونحن إن شاء الله سوف نأخذ هذا الموضوع بالتفصيل، بما نرى أنه يشبع المقام حتى تتضح القضية بحول الله ومنه وفضله وتوفيقه.
    ومن أعظم المراجع في هذا الموضوع: كتاب الإيمان لـشيخ الإسلام، ومن أشهرها وأقدمها وأهمها كتاب الإيمان للإمام أحمد رحمه الله ورضي عنه وأرضاه، وهو موجود ضمن جامع الخلال المخطوط، والجزء الأول منه قد طبع، ولدينا منه مخطوط.
    ثم إن هنا أصلاً كلياً عظيماً وهو تعليق الأحكام بشعيرة ظاهرة مكررة وهي الصلاة، فالناس قسمان: أهل قبلة وأهل كفر؛ ولذا قال: "ولا نكفر أحداً من أهل القبلة"، فمن لم يتجه إلى القبلة فهو من أهل الكفر، وفي هذا دليل على صحة إجماع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أن تارك الصلاة ليس مسلماً، ومن هذا المعلم الواضح ننطلق إن شاء الله، وأول ما نبدأ به أن نبين معنى الإيمان وحقيقته، والفرق المخالفة فيه، والأصل الذي بنيت عليه مخالفة الفرق في الإيمان، ثم نبين ما يترتب على ذلك من أحكام كما في مسائل الوعيد ومرتكب الكبيرة، ونفصل ذلك فيما يأتي بإذن الله سبحانه وتعالى..