المادة كاملة    
الانشغال بكلام الفلاسفة وأهل الكلام سبب الضلال والانحراف؛ لأنهم يتكلمون بغير علم، ويخوضون في الله ودينه بغير سلطان، ولذلك حذر السلف رضوان الله عليهم من الانشغال بكلامهم والخوض فيما خاضوا فيه، وعدوه من الجدال في الله بغير علم، ومن المراء المذموم الذي يجب الحذر منه.
  1. النهي عن الخوض في الله والمراء في دينه

     المرفق    
    قال الطحاوي رحمه الله:
    [ولا نخوض في الله ولا نماري في دين الله].
    قال المصنف رحمه الله:
    [يشير الشيخ رحمه الله إلى الكف عن كلام المتكلمين الباطل، وذم علمهم؛ فإنهم يتكلمون في الإله بغير علم وغير سلطان أتاهم: ((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى))[النجم:23].
    وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه قال: "لا ينبغي لأحد أن ينطق في ذات الله بشيء، بل يصفه بما وصف به نفسه" وقال بعضهم: "الحق سبحانه يقول: من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي ألزمته الأدب، ومن كشفت له حقيقة ذاتي ألزمته العطب؛ فاختر الأدب أو العطب" ويشهد لهذا: أنه سبحانه لما كشف للجبل عن ذاته، ساخ الجبل وتدكدك ولم يثبت على عظمة الذات. وقال الشبلي: (الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب).
    وقوله: "ولا نماري في دين الله" معناه: لا نخاصم أهل الحق بإلقاء شبهات أهل الأهواء عليهم؛ التماساً لامترائهم وميلهم؛ لأنه في معنى الدعاء إلى الباطل، وتلبيس الحق، وإفساد دين الإسلام
    ] اهـ.
    1. موقف السلف من علم الكلام

      يقول الإمام الطحاوي رحمه الله في المتن: [ولا نخوض في الله، ولا نماري في دين الله] وهذه قاعدة عظيمة، وهي مأخوذة من كلام السلف الصالح في هذا الباب، وهم أخذوا هذا المعنى من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الكف عن الخوض في ذات الله سبحانه وتعالى، وترك المماراة في دينه، ولهذا قال المصنف رحمه الله: [يشير الشيخ رحمه الله إلى الكف عن كلام المتكلمين الباطل وذم علمهم]؛ لأن كلام المتكلمين ليس إلا خوضاً ومماراة في دين الله، وقد نهينا عن ذلك.
      يقول الإمام مالك رحمه الله: [[ أو كلما جاءنا رجل هو أجدل بحجته من الآخر، تركنا قول محمد صلى الله عليه وسلم، وتركنا ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لقوله؟!]] ومعنى كلامه رحمه الله: لو أن المسألة بالجدل والمراء والمنازعة، لكان كلما جاءنا رجل أجدل من الآخر، تركنا ما أنزل الله تعالى، وما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لكلامه، ثم يأتي من هو أجدل منه، فنترك أيضاً كلام من قبله لكلامه، وهكذا.
      إذاً: فالواجب علينا اتباع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم والتمسك به؛ فإنه صلى الله عليه وسلم تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وأما علم الكلام فقد سبق البيان في ذمه، وما قاله السلف الصالح رحمهم الله فيه في أول هذا الشرح، وبما أن له تعلقاً بموضوع الجدل والنظر فنورد منه قوله رحمه الله: [بل البحث التام، والنظر القوي، والاجتهاد الكامل فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ليعلم ويعتقد، ويعمل به ظاهراً وباطناً، فيكون قد تلي حق تلاوته، وألا يهمل منه شيء].
      ثم يقول بعد ذلك: [وهذه كانت طريقة السابقين الأولين، وهي طريقة التابعين لهم بإحسان إلى يوم القيامة، وأولهم السلف القديم من التابعين الأولين ثم من بعدهم، ومن هؤلاء أئمة الدين المشهود لهم عند الأمة الوسط بالإمامة]، ثم ذكر رحمه الله بعد ذلك أقوال علماء المسلمين في الكلام وأهله.
      قال: "فعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قال لـبشر المريسي: "العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم" أي: من لا يطلب إلا علم الكلام فهو جاهل، ولهذا جاء عن بشر، والجهم، والنظام، والعلاف، وعن أمثالهم فتاوى غريبة مضحكة، وجهل لا يكاد يقال في أحكام الدين الأولية؛ لأنهم لم يتعلموا في الحقيقة شيئاً؛ فكل ما تعلموه وما أصلوه، وما قرروه وقعدوه إنما هو من علم الكلام؛ ولذلك لم ينفعهم شيئاً ولم ينفع الأمة من بعدهم.
      ثم قال المصنف مورداً كلام آخر لـأبي يوسف : "وعنه أيضاً أنه قال: "من طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب" وهذه حقيقة، وهي من الحكم المأخوذة بالتجارب والاستقراء: (من طلب العلم بالكلام تزندق)؛ لأنه اتخذ طريقاً لا يورث اليقين، بل يورث الشك، ومعلوم أن اليقين لا يأتي إلا من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلم الكيمياء هو العلم الذي كان يظن الأولون أن في استطاعتهم عن طريقة تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة -كتحويل الرصاص إلى ذهب- فلا يقع لهم ذلك ومن ثم يفلسون، ولو أنهم اشتغلوا بأي علم آخر لربما فتح الله عليهم ونفعهم به.
      قوله: [ومن طلب غريب الحديث كذب]. بعض الناس وبعض المتفقهين في الحديث يأتي بغرائب الأسانيد أو غرائب الأحاديث ؛ فهذا يقع في الكذب؛ لأن غرضه الإغراب، وليس هدفه نقل الحقيقة، وبعض الناس يقول: إني أدركت فلاناً، أو أدركت من روى عن فلان من المحدثين المشهورين، وهو لم يدركه، لكن يلجأ إلى ذلك طلباً للشهرة والسمعة والإغراب، وهذه المقولة نقلت عن الشعبي وعن أبي يوسف، وهي مشهورة عن أبي يوسف رحمه الله.
      وبعد أن ذكر -المصنف- كلام الأئمة الحنفية عقب بذكر كلام الشافعي رحمه الله؛ لأن أكثر من ضل في هذا العلم هم من أتباع هذين الإمامين؛ لأن الماتريدية ينتسبون إلى الإمام أبي حنيفة، والأشعرية ينتسبون إلى الإمام الشافعي، وإن كانوا قد انتشروا أيضاً في المالكية؛ لكنهم في الأصل شافعية؛ فأتى بعد ذلك بكلام الشافعي رحمه الله وهو قوله: "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال" والجريد هي العصي الغليظة المعروفة، والنعال هي: الأحذية. "ويطاف بهم في العشائر والقبائل" وهذا من أعظم التعزير والتشهير "ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام" هم إنما يخوضون في ذلك بآرائهم وظنونهم.. إلى آخر ما ذكره رحمه الله.
  2. الخوض في علم الكلام والاشتغال بكلام الفلاسفة سبب الضلال

     المرفق    
    لقد سبق أن تعرضنا لمسألة علم الكلام بالتفصيل، ونذكر هنا الفقرة الأربعين، والتي يقول فيها الإمام الطحاوي رحمه الله: [فمن رام علم ما حُظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان] وهذا هو الخوض في الله، والمراء في دينه.
    ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى قد حجب عن الخلق معرفة كنه ذاته تبارك وتعالى، وعرفهم نفسه بأسمائه وصفاته، فمن طلب فوق ذلك؛ فإنه يقع في الضلال.
    يقول المصنف رحمه الله في أول الكلام: [هذا تقرير للكلام الأول -الذي قبله- وزيادة تحذير أن يتكلم في أصول الدين -بل وفي غيرها- بغير علم، وقال تعالى: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا))[الإسراء:36] ] فلا يجوز ولا يحق لأحد أن يفتي في مسألة من مسائل الطهارة، أو المواريث، أو أحكام الصلاة، أو غيرها بغير علم، فكيف إذا كان قوله هذا بغير علم فيما يتعلق بصفات الله سبحانه وتعالى، وبالتوحيد والاعتقاد؛ فذلك جرمه أعظم، وضلاله أكبر، نسأل الله العفو والعافية.
    ثم ذكر بعض الآيات والأحاديث ومنها: "وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { ما ضل قوم بعد هدىً كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم تلا: ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا))[الزخرف:58]} " فالجدل: سنة كونية، وما انتشر في قوم وكانوا على هدى إلا تركوا الهدى، وهذا قد وقع في بني إسرائيل، ثم حدث في هذه الأمة، فبعد أن كانت القرون الثلاثة الأولى على الاستقامة، انتشر بعد ذلك الجدل، فكان سبباً في ترك الهدى، كما قال الإمام العلامة يزيد بن هارون -رحمه الله- لما ظهر في عصره أهل الكلام وأخذوا يخوضون فيه قال: "نحن أخذنا علمنا عن التابعين، عن الصحابة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم عمن أخذوا؟" أي: اسألوهم عمن أخذوا؟ فهذا منهجنا واضح، وسندنا فيه عن التابعين عن الصحابة، عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم يقولون: سندنا عن العقل عن كلام الحكماء، كـأفلاطون، ومقالات أرسطو، فماذا بعد الحق إلا الضلال!
    ثم قال: [ولا شك أن من لم يسلم للرسول صلى الله عليه وسلم، نقص توحيده، فإنه يقول برأيه وهواه ...] إلخ. وبعد أن ذكر كلاماً طويلاً ذكر سبب الإعراض عن تدبر كلام الله ورسوله قال: "وسبب الإضلال: الإعراض عن تدبر كلام الله وكلام رسوله، والاشتغال بكلام اليونان والآراء المختلفة".
    1. اعتراف أئمة علم الكلام بحيرتهم وأن طريقة القرآن أفضل الطرق

      ثم ذكر بعد ذلك شواهد لا بأس أن تستحضر للاستشهاد بها على ضلال علماء أهل الكلام، منها: أولاً: ما ورد عن الرازي حيث قال في كتابه الذي صنفه في : أقسام اللذات:
      نهاية إقدام العقول عقال            وغاية سعي العالمين ضلال
      وأرواحنا في وحشة من جسومنا            وحاصل دنيانا أذىً ووبال
      ويظهر من هذا البيت القلق! فأين الطمأنينة التي كانت عند السلف رضوان الله عليهم؟
      ثم يقول:
      ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا            سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
      هل هذه فائدة؟! -عياذاً بالله- بل هي خسارة كبرى، والخاسرون هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
      ثم يقول:
      فكم قد رأينا من رجال ودولة            فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
      وكم من جبال قد علت شرفاتها            رجال فزالوا والجبال جبال
      ثم يقول المصنف: "لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً" هذه وصية مشهورة ذكرها ابن السبكي في طبقات الشافعية على تعصبه للرازي، وللأشعرية ونقله غيره، ولكن لم يعمل بها من سمعها من أتباعه؛ ثم قال: [ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5]... ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ))[فاطر:10]، واقرأ في النفي: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))[الشورى:11] .. ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ))[طه:110] ثم قال: (ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي)] ثم ذكر كلام الشهرستاني الذي قال في أول مقدمة كتابه الملل والنحل : [
      لعمري لقد طفت المعاهد كلهـا            وسيرت طرفي بين تلك المعالم
      فلم أر إلا واضعاً كف حائرٍ            على ذقن أو قارعاً سن نادم ]
      يقول الشهرستاني في مقدمة كتابه: إنه ذهب وطاف في الآفاق، ورأى المشتغلين بالكلام ما بين حائر ونادم. قال: فلذلك وضعت كتابي: الملل والنحل ؛ حتى تذهب الحيرة ويذهب الندم.
      فماذا كانت النتيجة:
      يحللون بزعم منهم عقداً            وبالذي وضعوه زادت العقد
      لما كتب الملل والنحل زادت المصائب، فقد نقل فيه كلام الصابئين بالتفصيل، وكلام اليهود، وكلام النصارى، والباطنيين، وعلماء اليونان، وطوائف كثيرة حشدها، فكلما قرأ فيه قارئ ازداد شكاً وضلالاً، فأصبح هو أيضاً من النادمين، ومن القارعين أسنانهم بالخسارة. نسأل الله العفو والعافية.
      وكذلك كلام الإمام الجويني المشهور عند وفاته، وشمس الدين الخسروشاهي، وكذلك ابن أبي الحديد المشهور وهو من الأدباء وقد قام بشرح كتاب نهج البلاغة، يقول هنا:
      فيك يا أغلوطة الفِكَرِ             حار أمري وانقضى عمري
      سافرت فيك العقول فما            ربحت رأت إلا أذى السفر
      فلحى الله الألى زعموا            أنك المعروف بالنظر
      كذبوا إن الَّذي ذكروا            خارج عن قوة البشر
    2. النهي عن التفكر في ذات الله

      يقول المصنف رحمه الله: [فإنهم يتكلمون في الإله بغير علم، وغير سلطان أتاهم: ((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى))[النجم:23] ] ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: {تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله -وفي رواية- فتهلكوا} فعندنا شيئان: الأول: آلاء الله وخلقه نتفكر فيهما. وهذا مجال عظيم للتفكر، وهو من صفات المتقين، وتجد أن كثيراً من الصوفية وغيرهم ممن يعبدون الله على ضلال؛ يظنون أن الله تعالى لم يتعبدنا بالتفكر كما تعبدنا بالذكر، والواقع أن التعبد كائن بالذكر والتفكر، ولذلك يصف الله سبحانه وتعالى أولي الألباب بقوله: ((الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))[آل عمران:191] وهذه الآيات هي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأها إذا قام من الليل، وفيها عبر عظيمة، فقد قرن الله تعالى فيها الفكر مع الذكر؛ فقال: ((وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ))[آل عمران:191].. ((وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ))[الذاريات:21].
      وكذلك التفكر في آلائه سبحانه، وهي نعمه وإفضاله وجوده سبحانه وتعالى المستمر على الناس، قال الله تعالى: ((وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ))[إبراهيم:34].
      فلو تفكر الإنسان في نعمة الطعام والشراب، ونعمة الحواس، ونعمة العقل وكثير من النعم التي أسبغها الله سبحانه وتعالى على عباده ظاهرة وباطنة، وأعظم وأفضل نعمة على المسلمين هي نعمة الهداية، وأن الله حصنهم من عدوهم المبين الشيطان، وكذلك حذرهم من المعاصي التي تذهب بطاعاتهم، وتضعف إيمانهم، وتكون سيئات عليهم؛ فهذه النعم يجب علينا أن نتفكر فيها.
      والشيء الذي لا ينبغي أن نتفكر فيه هو ذات الله تعالى، فنحن لا نستطيع أن نعرف كنه ذاته، ونحن محجوبون عن أن ندرك حقيقته، وإنما علينا أن نسلم بما أخبرنا سبحانه وتعالى، وقد عَّرفنا بنفسه بما فيه الكفاية، وهذا خير العلوم والمعارف وأشرفها؛ فالله تعالى لم يضن علينا بما هو دون ذلك من العلوم، فكيف بأشرف العلوم وأعظمها الذي هو معرفته تبارك وتعالى؟!
  3. منهج أهل السنة والجماعة في إثبات أسماء الله وصفاته

     المرفق    
    ثم قال رحمه الله: [وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: [[لا ينبغي لأحد أن ينطق في ذات الله بشيء، بل يصفه بما وصف به نفسه]]. ] فهذا كلام الإمام رحمه الله، ولكن يخالفه كلام من اتبعه وانتسب إليه، وقوله: [[لا ينبغي لأحدٍ أن ينطق في ذات الله بشيء]] يعني: أنه لا يجوز ولا يحق له أن ينطق في ذات الله بشيء من عند نفسه، ولذا: [[بل يصفه بما وصف به نفسه]] أي: إما في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إنه ليس المقصود بهذه العبارة وأمثالها مما جاء عن السلف أننا لا نطلق على الله سبحانه وتعالى أي وصف أو إخبار عن الله إلا بما ورد، وإنما الشرط: ألا يكون مخالفاً لما ورد، فهناك الإخبارات الصحيحة عن الله سبحانه وتعالى التي يمكن أن نأخذها من حقائق الواقع، وهي مشتقة مما جاء به الشرع، وإن لم ينطق الشرع بألفاظه؛ فالمحظور القول على الله بغير علم، أو بما لا حقيقة له.
    أما الصفات فالقاعدة التي وضعت فيها في باب الإخبار والإطلاق لا التسمية: أن كل وصف كمال لا نقص فيه ولا عيب بأي وجه من الوجوه بالنسبة للمخلوق؛ فالله تعالى أولى به قال تعالى: ((وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى ))[الروم:27].
    إذاً: النهي هنا هو عن المخالفة أو الابتداع، أما الإطلاق والإخبار الصحيح عن صفة كمال لله سبحانه وتعالى ليس فيها نقص؛ فإن ذلك صحيح.
    ثم قال: [وقال بعضهم: (الحق سبحانه يقول)] لفظ الحق من استخدام الصوفية، ولا شك أن الله هو الحق، كما قال: ((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ))[الحج:62] لكن أخص أسمائه إذا أطلق وليس له فيه سمي، ولا ينصرف في شيء غيره على الإطلاق؛ هو الله ثم الرحمن: ((هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا))[مريم:65].
    أما بقية الأسماء فإنه يكون فيها اشتراك لفظي، كما جاء في القرآن نفسه مثلاً: ((وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))[إبراهيم:4] فالله تعالى سمى نفسه العزيز، وقال: ((قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ))[يوسف:51].
    فالتصدير بكلمة الحق من شأن -الصوفية -؛ لأنهم يرون أن ما عداه هو الباطل، بمعنى أنه غير موجود ولا حقيقة لوجوده، فهم ينطلقون مما جاء في الحديث الصحيح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: {أصدق كلمة قالها الشاعر قول لبيد:
    ألا كل شيء ما خلا الله باطل
    }
    ومعناها عند الصوفية: أنه غير موجود، أي: أن وجوده باطل. سبحان الله!! وليس هذا هو معنى البيت ولا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن وجود غير الله باطل أبداً، فالعزى موجود، وفرعون موجود، ونحن لا ننكر وجودها، ولكن ننكر ما يعتقد فيها من عقائد منحرفة وباطله.
    وقد يكون معنى (باطل) في البيت: هالك كما أخبر الله بقوله: ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ))[القصص:88].
    1. لزوم الأدب مع الله من مقتضى العمل بأسمائه سبحانه

      قال: [من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي، ألزمته الأدب].
      يعني: أن العبد إذا التزم معرفة الأسماء والصفات كما أخبر الله ووصف بها نفسه، فهو في منزلة المتأدب مع الله سبحانه وتعالى، وكذلك من ألزمه الله القيام بها. يعني: شهودها والعمل بمقتضاها، فقد ألزمه الأدب معه سبحانه، ثم قال: "ومن كشفت له حقيقة ذاتي، ألزمته العطب" وقولهم: (إن الله يقول). لا يقصدون أنه قاله سبحانه وتعالى نصاً، ولكن يعبرون به عن حقيقة كأن الله تعالى قالها، حملاً للكلام على أحسن محامله.
      فقوله: [من كشفت له حقيقة ذاتي ألزمته العطب]. فحواه: فلا تطلبوا ذاتي؛ لأنه إذا كشفت ذاتي لأحد فقد عطب، والمصنف رحمه الله تلطف وأتى بشاهد حتى لا يعترض عليه في هذه العبارة فقال: [ويشهد لهذا: أنه سبحانه لما كشف للجبل عن ذاته، ساخ الجبل وتدكدك ولم يثبت على عظمة الذات] يعني: لو أن الله سبحانه وتعالى تجلى لموسى عليه السلام كما طلب حيث قال: (( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ))[الأعراف:143] لاندك وفني؛ لكنه سبحانه تجلى للجبل عن ذاته فتدكدك الجبل وفني، وخر موسى صعقاً مع أن التجلي لم يكن له، فكيف لو كان له؟ إذاً: لهلك ومات!
      والواقع أن الله سبحانه وتعالى لم يكشف لأحد عن ذاته على الإطلاق، وكما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {إن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت}، وهذا في الدنيا، فلذلك لا يمكن لأحد من البشر على الإطلاق أن يتجلى له الله سبحانه وتعالى، ويكشف له عن حقيقة ذاته، وهم إنما ذكروا ذلك في مقام التأدب مع الله، مع أن الأصل أنه إذا قيل: قال الله، أن يكون حديثاً قدسياً، لكنهم يتساهلون في ذلك.
  4. الكلام على الحب والعشق الإلهي والتأثر عند الصوفية

     المرفق    
    يقول المصنف: [وقال الشبلي: الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب] والشبلي من أئمة الصوفية المشاهير، ترجمته في سير أعلام النبلاء (15/367) وفي المنتظم لـابن الجوزي (6/347) وفي الحلية (10/366)، وقد نقل عنه في الحلية نقولاً كثيرة، تدل على تعمقه وتمكنه في التصوف، ولاسيما في جانب المحبة والعشق الإلهي -كما يزعمون- فكانت كل حياته في هذا الجانب، حتى وصل به الحال إلى الجنون؟ وهم يسمونه جنون المحبة.
    وذكر أبو نعيم بسنده: أنه اجتمع إليه مرة جمع غفير من الناس؛ فقال لهم: ماذا تريدون مني؟ أنا مجنون، دخلت (المارستان) كذا وكذا مرة، وسقيت كذا وكذا دواء، ولم أشف من جنوني، ماذا تريدون مني؟! ولماذا تتجمعون حولي؟!
    وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في الفرقان: أن هذا الرجل قد يكون معذوراً، والذهبي رحمه الله ذكر شيئاً من ذلك فقال: غاية ما في الأمر أن يكون معذوراً في قوله؛ وقال في ترجمته: "كان فقيها عارفاً بمذهب مالك، وكتب الحديث عن طائفة، وقال الشعر، وله ألفاظ وحكم وحال وتمكن، لكنه كان يحصل له جفاف دماغ وسُكْر" أي: سكر المحبة وليس من شرب الخمر، قال: "فيقول أشياء يعتذر عنه فيها"، وهذا نموذج من كلامه يقول: (ما قلت: الله، إلا استغفرت الله من قولي: الله).
    والاستغفار عند الصوفية مراتب؛ فنحن العامة -عندهم- استغفارنا أننا إذا أذنبنا نقول: نستغفر الله ونتوب إلى الله، وهذه هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث. {أنه كان يستغفر الله ويتوب إليه في المجلس الواحد سبعين مرة -وفي رواية أخرى- مائة مرة} فهكذا كان رسول الله، وهكذا كان الأنبياء من قبله، فهذا داود عليه السلام وإبراهيم عليه السلام وغيرهم كانوا ممن استغفر ربه سبحانه وتعالى، والصوفية يقولون: هذا استغفار العامة، أما الخاصة المقربون في نظرهم فيستغفرون من الاستغفار! ويستغفرون من الذكر!
    يقول: (إذا ذكرت الله فإني أستغفر الله من قولي: الله) وهذا على خلاف ما فهمه السلف: من أن الله شرع عقب كل عبادة أن نستغفره؛ لأننا لم نعبده حق عبادته، كالاستغفار عقب الصلاة، وكذلك بعد الصيام وبعد الحج، فهم أي: الصوفية لا يقولونه بناءً على هذا، لكن يقولون: لأن نفس الاستغفار ونفس الذكر عندهم شرك، وعللوا ذلك بقولهم: أنت عندما تذكر الله أو تستغفره تثبت لنفسك وجوداً، يعني: أنت في هذه الحال ما تزال -حسب زعمهم- مشركاً، لأنك أثبت ذاتين: ذاتاً تستغفر، وذاتاً تغفر، فأنت لا تزال في درجة دنيا.
    وغاية الحق عندهم أن ترى الذاتين ذاتاً واحدة، تعالى الله عما يصفون، وهذا معتقد البوذية والبراهمة، نعوذ بالله من الضلال.
    يقول الذهبي رحمه الله أيضاً (ص 369): "وكان رحمه الله لهجاً بالشعر والغزل والمحبة وله ذوق في ذلك، وله مجاهدات عجيبة انحرف منها مزاجه".
    ويذكر أبو نعيم قصة فيقول: إن الشبلي جاء وهو سكران فدخل على الجنيد وكان الجنيد جالساً وزوجته كاشفة حاسرة، فأرادت أن تستتر؛ فقال لها: لا عليك، ليس هناك أحد. يعني أنه لا يحس بشيء، ثم كلمه أو خاطبه فما تم عبارته حتى وقع الجنيد والشبلي، هكذا هم يتواجدون ويتساقطون!
    ومن باب التنبيه نقول: إن من الناس من يغمى عليه، أو يغشى عليه، أو يسقط إذا سمع كلام الله أو موعظة بليغة أو حديثاً، لكن أيهما أكمل: من يرد عليه مثل هذه المعاني التي فيها العظة والعبرة فيثبت ويصبر، أو من يسقط ويغشى عليه؟
    الأكمل والأقوى هو الذي يثبت، والدليل على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الناس يقيناً وأعظمهم خشوعاً، لم يحصل له شيء من ذلك، وكذلك الصحابة الكرام هم أشد الناس تأثراً بالقرآن، ولم يسقط منهم أحد، ولم يغم على أحد منهم، ولم يصلوا إلى هذا الحال الذي يسميه هؤلاء الضُّلال: (السكر) أبداً، بل ما يزال الواحد منهم بكامل وعيه وإحساسه مع ورود هذه المعاني على قلبه، ومع ذلك نعتذر لهؤلاء القوم فنقول: إنهم ضعفوا عن احتمال ما يرد عليهم، وهذا نقص وليس بكمال، وإنما الكمال في قوة الوارد مع قوة التحمل، وهو أن ترد على الإنسان واردات وخواطر عظيمة، وفي نفس الوقت يتحمل ذلك، فهذا هو الكمال وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم، ولهذا لم يسقط أحد من الصحابة كما قلنا، وإنما حصل هذا الشيء من بعض التابعين الفضلاء، لا سيما عباد البصرة، كما قرأ زرارة بن أوفى: (( فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ))[المدثر:8] فسقط ومات.
    أما الصوفية فقد تعلقت بذلك حتى تمكن الشيطان منهم -والعياذ بالله- فأصبح غاية همهم أن يتأثر الواحد بأي شيء يطرق سمعه حتى وصلوا إلى حد المضحكات، ومما يذكر في ذلك:
    أن الحلاج كان ماشياً في شوارع بغداد، وإذا بخياط يخيط وعنده غلام في الدكان؛ يقول له: إلى كم تغلط؟ فأغمي على الحلاج وقال: كأن الحق خاطبني، وكذلك لما سمع الغراب يصيح قال: لبيك وسعديك. تعالى الله عن ذلك، يعني: أنهم أصبحوا مجانين حقيقيين، وليتهم كذلك؛ فالمجنون الحقيقي لا تؤخذ أقواله وإن كان يعذر، لكن هؤلاء يعظمون ويقدرون وتؤخذ أقوالهم على أنهم أهل الله وخاصته، وأنهم أهل الحق، وأنهم الذين لم يشتغلوا بما اشتغل به الناس من الرسوم والمظاهر، بل الحقائق والعلم اللدني.
    1. الانبساط عند الصوفية

      يقول الشبلي : (الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب) ومعنى الانبساط عند الصوفية : أنهم شبهوا الكلام مع الله سبحانه وتعالى، أو الحديث عن الله بمثل ما يقع من الانبساط مع ملك من ملوك الدنيا أو عظيم من عظمائها وبين جليس من جلسائه، والصوفية مشكلتهم أنهم يسمون العبادة خدمة، فتجدهم دائماً يقولون: القيام في خدمته، أي: خدمة الحق. فهم يتصورون خادماً ومخدوماً ووسطاء ووزراء، وشفعاء وخدام، كالحال مع ملوك الدنيا، وهذا من جهلهم بالله سبحانه وتعالى؛ لأنهم لا يقرءون القرآن ولا السنة، وإنما يتلقى بعضهم عن بعض هذه الأوهام وهذه الضلالات.
      فكلما سمع أحدهم بيتاً من شعر الغزل أنزله في الله قياساً على محبوبه، وكلما تحدث عن ملك أو عظيم فكأن ربه كذلك. تعالى الله عما يصفون.
      إذاً: الانبساط عند الصوفية معناه ما ذكره صاحب منازل السائرين حيث يقول: "ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين: منزلة البسط والتخلي عن القبض، وهي منزلة شريفة لطيفة، وهي عنوان على الحال، وداعية لمحبة الخلق" فقال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين : " (2/354) وقد غلط صاحب المنازل حيث صورها بقوله تعالى حاكياً عن كليمه موسى عليه الصلاة والسلام: ((إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ))[الأعراف:155]" قال: "وكأنه فهم من هذا الخطاب انبساطاً بين موسى وبين الله تعالى حمله على أن قال: ((إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ))[الأعراف:155]" يعني: انبساطه معه.
      ثم يقول ابن القيم : "وسمعت بعض الصوفية يقول لآخر وهما في الطواف في قوله تعالى: ((إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ))[الأعراف:155]: إن موسى عليه السلام تدارك هذا الانبساط بالتذلل بقوله: ((أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ))[الأعراف:155]" يعني: لما رأى نفسه انبسط وقال كلمة لا ينبغي أن يقولها وهي قوله: ((إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ))[الأعراف:155] حاول أن يتدارك فرجع وتذلل؛ بقوله: ((أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا))[الأعراف:155].
      ثم يقول ابن القيم : "وكل هذا وهم وخلاف المقصود، فالفتنة هاهنا هي: الامتحان والاختبار، وليس فيها أن الله تعالى فتن الناس؛ فأضلهم وأغواهم، فهي كقوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا))[الأنعام:53]".
      إذاً: هذا شيء نسبه الله سبحانه وتعالى إلى نفسه، فإذا نسب الله تعالى إلى نفسه شيئاً ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أحد من الخلق فنسب إليه ما نسبه لنفسه فهذه النسبة صحيحة وحق، وليست من باب البسط. وأيضاً: "قوله سبحانه وتعالى: (( وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ))[الجن:16-17] وقال: : ((وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً))[الأنبياء:35]" يقول: "والمعنى: أن هذه الفتنة اختبار منك لعبادك وامتحان تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء، فأي تعلق لهذا بالانبساط؟ وهل هذا إلا توحيد، وشهود للحكمة، وسؤال للعصمة والمغفرة؟" إلخ.
      ثم ذكر تعريف الانبساط عن غير صاحب المنازل، فقال: "الانبساط: -عند الصوفية - هو: إرسال السجية، والتحاشي من وحشة الحشمة" أي: لا يكون هناك احتشام، ومعناه أن ترسل نفسك على سجيتها فيما تنطق به.
      ثم قال: "وهو على ثلاث درجات:
      الدرجة الأولى: الانبساط مع الخلق: وهو ألا تعتزلهم ضناً على نفسك، أو شحاً على حظك، وتسترسل لهم في فضلك، وتسعهم بخلقك، وتدعهم يطئونك" ونقول: لا يجوز للإنسان أن يهين نفسه إلى أن يجعلهم يطئونه.
      وقال: "الدرجة الثانية: الانبساط مع الحق. وهو أن لا يحبسك خوف، ولا يحجبك رجاء، ولا يحول بينك وبينه آدم ولا حواء".
      فهذا كلامه، على أن فيه مقبولاً ومردوداً؛ ولا معنى لتعلق هذه الصفة بالله تعالى ألبتة.
    2. الرد على الصوفية في الانبساط

      ثم يقول ابن القيم رحمه الله: "ولم يكن لأحد من البشر في منزلة القرب والكرامة الحظوة والجاه ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه تبارك وتعالى". فلا أحد أقرب إلى الله وأكثر جاهاً ومنزلة عند الله عز وجل من رسوله صلى الله عليه وسلم.
      ثم قال: "وكان أشد الخلق لله خشية وتعظيماً وإجلالاً، وحاله كلها مع الله تشهد بتكميل العبودية.
      وأين درجة الانبساط من المخلوق من التراب، إلى الانبساط مع رب الأرباب" يقول: "نعم. لا ينكر فرح القلب بالرب تعالى وسروره به، وابتهاجه وقرة عينه، ونعيمه بحبه والشوق إلى لقائه إلا كثيف الحجاب، حجري الطباع، فلا بهذا الميعان، ولا بذاك الجمود والقسوة". والجمود واقع عند أهل الكلام، فهم يتكلمون عن الله سبحانه وتعالى كما يتكلمون عن أي مخلوق، بدون أي عاطفة ولا إحساس، والميعان: هو أن يصل الحال بأحدهم أن يقول: إنني أقول ما شئت في حقه ولا يؤاخذني؛ لأنني وصلت إلى الدنو منه، والانبساط بين يديه؛ فيقول ابن القيم: لا هذا ولا هذا، والحق وسط بينهما.
      ثم يقول: "وبهذا ومثله طرق المتأخرون من القوم السبيل إليهم، وفتحوا للمقالة فيهم باباً، فالعبد الخائف الوجل المشفق الذليل بين يدي الله عز وجل، المنكس الرأس بين يديه، الذي لا يرضى لربه شيئاً من عمله: هو أحوج شيء إلى عفوه ورحمته".
      أي: مهما بلغت عبادتك لله فأنت أحوج ما تكون إليه في أن يتقبل منك هذا العمل، وأن يقبلك ويعفو عنك، وأن يغفر لك، قال تعالى: ((وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ))[المؤمنون:60] أي: خائفون وهم يعملون الأعمال الصالحة، أما أن يقال: ما دام أنك عملت الطاعات، وأصبحت تحبه ويحبك، إذاً سقط ما بينكما من الكلفة والحشمة فقل ما شئت، فهذا فاسد وباطل ومخالف للواقع.
      ثم يقول: "ولا يرى نفسه في نعمته إلا طفيلياً، ولا يرى نفسه محسناً قط، وإن صدر منه إحسان علم أنه ليس من نفسه ولا بها ولا فيها، وإنما هو محض منة الله عليه، وصدقته عليه، فما لهذا والانبساط؟". يكفي في هذه المسألة أننا عرفنا هذا الاصطلاح.
      قال الشبلي : (الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب) إذاً: الشبلي كلامه هنا جار على منهج القوم أعني: الصوفية، وهذه العبارة منه محتملة لذم الانبساط والقول به، لكن هل هذا مقصود المصنف في الاستشهاد به هنا؟ فإنه استشهد به على معنى آخر: وهو أن من ينبسط مع الحق فهو تارك للأدب.
      وعلى هذا فالانبساط لا يجوز، والمصنف رحمه الله حمل الكلمة على أحسن المحملين، وإلا فهي في الحقيقة تحتمل الأمرين؛ ومعرفة القائل تساعد على تحديد المراد، والاحتمال الأول وارد؛ لأن القوم عندما يتكلمون عن الانبساط، يجعلونه منزلة ودرجة ومرتبة، ومعنى الانبساط عندهم: ترك الأدب. أي: أن تعتبر الكلفة والاحتشام ساقطة بينك وبينه، فتقول ما شئت؛ ولهذا قالوا: إن موسى عليه السلام لما قال: ((إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ))[الأعراف:155] تكلم معه وخاطبه بقوله: أنت فتنتنا بهذا الشيء. يقولون: وهذا الكلام ليس فيه حرج؛ لأن الكلفة بينهما ارتفعت، والحشمة ذهبت، وهذا خلاف الحق.
      إذاً: فهذا الاحتمال يكون وارداً، لكن مراد المصنف رحمه الله: إنكار الكلام في ذات الله، وكذلك أئمة السلوك؛ فنقل كلام الشبلي، حيث يقول: (إن الانبساط مع الله ترك للأدب) أي: أمر غير مطلوب وغير صحيح فلا تنبسط، وهذا حسب فهمه رحمه الله، والذي يهم الآن هو أن نفهم مراده وهو: أنه قصد إقامة الحجة عليهم من كلام أئمتهم.
    3. منهج شيخ الإسلام في الكلام على أئمة التصوف والكلام مع أتباعهم

      وعندنا تنبيه ينبغي للقارئ أن يفهمه وهو: أن شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه عندما يذكر كلام الجنيد والنوري والشبلي، ومن بعدهم كـعبد القادر الجيلاني وعدي بن مسافر وأشباههم، فهو ينقل عنهم أنهم كانوا يقولون: لابد من الالتزام بالسنة، ولا نقبل شيئاً إلا إذا كان موافقاً للكتاب والسنة ونحو ذلك.
      حتى إن الشبلي لما احتضر قال لغلامه: أعطني ماءً لأتوضأ؛ فقرب له ماءً، فوضأه غلامه ولم يخلل لحيته، فقال له: خلل لحيتي، ثم توجه ومات؛ فقالوا: رجل لم يترك هذه السنة عند موته فكيف يتهم أنه تارك للسنة؟
      ولذلك فـشيخ الإسلام رحمه الله يلزم أتباعهم بمثل هذه العبارات والنقولات، ويقول لهم: أنتم تركتم الجمع والجماعات، واستحللتم المحرمات، وارتكبتم الموبقات، ثم تنتسبون إلى هؤلاء، وهؤلاء كان فيهم ولاية، وكان فيهم صلاح ودين، فانظروا إلى أقوالهم وأفعالهم.
      وتجده أحياناً عندما يكون الخطاب من باب آخر -غير باب الدعوة- يتكلم عنهم كلاماً مجرداً فيقول: وقد ضل بهذا أقوام وغلطوا حتى وصلوا إلى الشرك. ثم يذكر أقوالهم، وقد ينسبها وقد لا ينسبها؛ لأنه لا يهمه هنا إلا بيان بطلان القول، وفي المقام الآخر يهتم باستجابة الأتباع، فمثلاً عبد القادر الجيلاني يعبد من دون الله، فكثير من الحجاج من إفريقيا وغيرها مع فقرهم وحاجتهم يحجون ثم يذهبون إلى بغداد من أجل أن يتموا الحج عند قبر عبد القادر الجيلاني .
      فإذا أراد إنسان أن يحتج على بطلان فعلهم فليأتهم بما قاله الشيخ عبد القادر الجيلاني في الغنية أو في غيرها، وأنت من باب الدعوة وإلزام هذا الإنسان تخاطبه بكلام إمامه، بينما قد ينقل عن عبد القادر الجيلاني كلاماً لا يمكن السكوت عليه، فمقام الحكم على الرجل شيء، ومقام دعوة أتباعه المنتسبين إليه إلى حقيقة التوحيد شيء آخر. فهذا مقام وذاك مقام، ولكل مقام مقال.
  5. معنى المماراة في دين الله

     المرفق    
    قال الطحاوي رحمه الله: [ولا نماري في دين الله].
    قال المصنف: [معناه: لا نخاصم أهل الحق بإلقاء شبهات أهل الأهواء عليهم؛ التماساً لامترائهم وميلهم؛ لأنه في معنى الدعاء إلى الباطل، وتلبيس الحق، وإفساد دين الإسلام].
    فالإمام الطحاوي رحمه الله يقول: [ولا نماري في دين الله] والمصنف يقول: المعنى أننا لا نخاصم أهل الحق ونلقي عليهم الشبهات؛ لما في ذلك من التلبيس والإفساد. نقول: ليس هذا هو المعنى المتبادر؛ والأظهر أن المعنى: أننا لا نماري في دين الله، ولا نجادل فيه، وقد جاء من الإمام مالك أنه قال: [[من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل]]. فدين الله تعالى واضح، فلا نجادل فيه.
    ولا يعني ذلك أننا لا نجادل الناس لنقيم الحجة عليهم، فهذا أمر آخر، وسيأتي إن شاء الله تعالى في موضوع الجدال. وإنما المنهي عنه في الجدال، هو أن تأتي إلى رجل -صاحب بدعة- فتقول: من كانت حجته أقوى اتبعه الآخر! فلعله صاحب شبهة قوية فيلبس عليك، أو عنده حجة أقوى منك -مع أن الحق معك- فتقر أنت بأنك على باطل. وهذا ما يحمل عليه كلام الإمام مالك رحمه الله، وأيضاً الجدال الذي يؤدي إلى الفرقة والتخاصم؛ فهذا كله من الجدال المذموم.
    أما الجدال لإقامة الحجة فلا بأس به، ولذلك يشترط أن يكون من تجادله طالباً للحق راغباً فيه، فما جاء من النقول عن السلف بذم الجدال، فالمقصود ما ذكرناه، وأما ما كان منه لإقامة الحق والحجة فقد قال الله: (( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ))[العنكبوت:46]، وقال: ((وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ))[النحل:125]، وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً}.