وينبغي علينا أن نكف العوام عن الخوض في القدر، فإن كَانَ ولا بد إذا وجدنا من أحدهم شبهة راسخة كشفناها بالدليل، ولكن لا يعني ذلك أن نعرض تعاريف القدر عَلَى العامة، أو نرضى أن يخوض العامة في تفصيلات القدر وغير ذلك من أمور الإيمان؛ لأن الخوض في ذلك مَزلة الأقدام، فهو بحر لا يستطيعون أن يبحروا فيه، لكن من كَانَ لديه استعداد للفهم من الكتاب والسنة وكلام العلماء.
فينبغي له أن يزداد علماً، لأنه بذلك يزداد إيماناً ويزداد فهماً، وعندما ترد عليه شبهة سرعان ما يدفعها لما لديه من علم؛ وينبغي أن يقيد بهذا كلام الطحاوي رَحِمَهُ اللَّهُ، وأن نعرف المقصود من كلامه، ولهذا قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [والمعني أن المبالغة في طلب القدر والغوص في الكلام فيه ذريعة الخذلان].
فقوله: ذريعة: أي وسيلة، والذريعة والوسيلة والدرجة والسلم متقاربة، وكذلك الحرمان والطغيان والخذلان متقاربة، لكن الخذلان في مقابلة النصر، والحرمان في مقابلة الظفر، والطغيان في مقابلة الاستقامة، والإمام أبي جعفر الطّّحاويّ -رحمه الله- جَاءَ بعبارات أدبيّة فيها سجع، وعطف جملة بعضها عَلَى بعض، وإلا فالمؤدى واحد.

فهذا هو الذي يجب أن يُفهم، وقوله: [والحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة] ثُمَّ ذكر حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وهو حديث صحيح رواه الإمام مسلم والإمام أَحْمَد وفيه: {جَاءَ ناس من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألوه: إنّا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ فشكوا ذلك إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شكوى مجملة، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو قد وجدتموه؟}.
وجواب النبي هذا يدل عَلَى أنه كان منتظراً منهم هذا السؤال، وهذه بشرى لحديثي عهد بالتمسك، وفي رواية أخرى {لأن يصبح أحدنا حُممة محترقة}، كيف يكون حال هذا الإِنسَان الذي يود لو أصبح فحمة محترقة ولم يتكلم بهذه الشكوك والخواطر، هذا قوي الإيمان، فلهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ذلك صريح الإيمان} وفي رواية أخرى {ذلك محض الإيمان} ويقول المُصنِّف هنا: [ولـمسلم عن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: {سئل الرَّسُول عن ذلك، فَقَالَ: ذلك محض الإيمان}] ومعنى حديث أَبِي هُرَيْرَةَ وسوسة النفس أو مدافعتها، أي أن الحديثين هما في الحقيقة وردا في موضع واحد أنه سئل عن الوسوسة، فيقول المصنف:
[فإن وسوسة النفس أو مدافعة وسواسها بمنزلة المحادثة الكائنة بين الاثنين فمدافعة الوسوسة الشيطانية واستعظامها صريح الإيمان ومحض الإيمان]، ويمكن أن يحمل الحديث عَلَى أحد الأمرين:-
الأمر الأول: أن يكون المشار إليه بأنه الموصوف: [محض الإيمان] هو المدافعة كما ذكر ذلك المُصنِّف ومعناه: أي أنكم ما دمتم تدافعونها فهذا دليل عَلَى قوة إيمانكم، فلا تيأسوا وهذه بشرى وخير لكم وليس شراً كما تظنون، والمدافعة والمجاهدة هذه هي محض الإيمان لأنها مترتبة عليه وناشئة عنه.
الأمر الثاني: أن يكون (ذلك محض الإيمان أو صريح الإيمان) هو: وجود الوسوسة، لأنك في حالة قبل الاهتداء لم تكن تجد شيئاً فلما اهتديت وجدت، فوجودها دليل عَلَى وجود الإيمان، وإذا وجد الإيمان أرد الشيطان أن يبارزه في الشكوك، إذاً أنت في هذه الحالة والْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى خير، وهنا يدل عَلَى أن الإيمان قد نما في قلبك، عندما تجد تلك الوساوس، ولذلك يقول الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ذلك محض الإيمان} أو {ذلك صريح الإيمان}.