المادة كاملة    
الإيمان بالملائكة هو أحد أركان الإيمان الذي لا يتم إيمان العبد إلا به، فيجب الإيمان بهم جملة وتفصيلاً، وبجميع أعمالهم التي وكلهم الله تعالى بها. وقد ضلت في هذا الركن العظيم فرق كثيرة، فأنكر بعضهم وجود الملائكة، وقالوا: إن النجوم هي التي تدبر أمر هذا الكون، وبعضهم عبد الملائكة من دون الله تعالى، وبعضهم أولهم؛ كالفلاسفة والباطنية.
  1. الإيمان بالملائكة والرد على الفلاسفة

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله:
    [وأما الملائكة، فهم الموكلون بالسماوات والأرض، فكل حركة في العالم، فهي ناشئة عن الملائكة، كما قال تعالى: ((فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا))[النازعات:5].. ((فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا))[الذاريات:4] وهم الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل، وأما المكذبون بالرسل المنكرون للصانع، فيقولون: هي النجوم.
    وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة، وأنها موكلة بأصناف المخلوقات، وأنه سبحانه وكَّل بالجبال ملائكة، ووكَّل بالسحاب والمطر ملائكة، ووكَّل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها، ثم وكَّل بالعبد ملائكة لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته] اهـ.
    1. الإيمان بالملائكة من دواعي التقوى والإخلاص

      الشرح:
      هؤلاء هم العباد المكرمون، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، يجب على كل مؤمن أن يؤمن بهم في الجملة، وبكل ما ورد وصح من صفاتهم وأعمالهم، والواجب على التفصيل: أن من ذكره الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم فنؤمن باسمه، وبما ذكر من عمله وصفته.
      وإذا كان العبد المؤمن في حالة من الوساوس، والمعاصي والذنوب، وتذكر أن لله تبارك وتعالى خلقاً يتنزهون عما يرتكبه بنو آدم من الآثام والخطايا، وعما يجول في قلوبهم من الشبهات والشهوات والوساوس، وأن هؤلاء الخلق المطهرين المبرئين من ذلك يحبون المؤمنين، ويوادونهم ويعاونونهم بإذن الله تعالى، وينصرونهم، فهم جند الله تبارك وتعالى، الذين بهم يدبر أمر هذا العالم، وبهم ينصر ويؤيد عباده المؤمنين -عندما يتأمل المؤمن ذلك؛ فإنه لا يشعر بالغربة بين الناس، وإن جاروا عليه وظلموه، وإن ارتكبوا من الخطايا والآثام ما ارتكبوا، وإن كان وحيداً غريباً في أي مكان، فإن الله سبحانه وتعالى تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن: ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا))[الإسراء:44].
      وهؤلاء العباد المكرمون يعبدونه ويسبحونه، وهذا العبد الصالح من بني آدم يعبد الله ويدعو إليه ويذكره ويسبحه، فبقي الشذوذ في هؤلاء الكفار، فهم شواذ وإن كثر عددهم في الأرض، وعليهم تدور الدائرة، وتكون العاقبة للمتقين.
      فهذه المعاني إذا استحضرها العبد المؤمن، واستحضر مع ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد وكلهم بكتابة الأعمال وحفظها؛ فإن ذلك من دواعي التقوى والإخلاص لله سبحانه وتعالى، والرغبة إليه والرهبة من عذابه عز وجل. وهذه فائدة من فوائد كثيرة يستفيدها المؤمن إذا آمن بالملائكة كما أمر الله تبارك وتعالى، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
    2. اعتقاد الفلاسفة والباطنية في الملائكة وأصل ضلالهم

      وقد ذكر الشارح رحمه الله أن من الناس من زعم أن الذي يدبر العالم هي النجوم أو غيرها، وهذا من اعتقادات المشركين الكافرين، الذين كفروا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ولا حَظَّ لهم في نعيم الله عز وجل ولا في ولايته، ولكن هناك طوائف تكلمت في الملائكة على سبيل التأويل، والتأويل هو باب الشر العظيم الذي فتحه علينا أهل الضلال، فأولوا أسماء الله تعالى وصفاته، وأولوا أمور الآخرة، ومن جملة ما أولوا: الملائكة، فمنهم من أول حقيقة الملائكة، فلم ينكروا أن كلمة الملائكة موجودة في القرآن والسنة، لكنهم قالوا: إن معناها غير ما بينه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وفهمه السلف الصالح من هذا الخلق الخاص المعين.
      وقد سئل شيخ الإسلام رحمه الله كما في الفتاوى (4/259): "هل جميع الخلق حتى الملائكة يموتون؟" وذلك لأن بعض الناس يعتقد أنهم لا يموتون.
      "فأجاب: الذي عليه أكثر الناس أن جميع الخلق يموتون حتى الملائكة، وحتى عزرائيل ملك الموت، وروي في ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والمسلمون واليهود والنصارى متفقون على إمكان ذلك وقدرة الله عليه؛ وإنما يخالف في ذلك طوائف من المتفلسفة أتباع أرسطو وأمثالهم، ومن دخل معهم من المنتسبين إلى الإسلام، أو اليهود والنصارى: كأصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم، ممن زعم أن الملائكة هي العقول والنفوس، وأنه لا يمكن موتها بحال، بل هي عندهم آلهة وأرباب لهذا العالم".
      إذاً: الذين يؤولون الملائكة هم الباطنية والفلاسفة، ومذهبهم متقارب -وقد سبق أن ذكرنا ذلك- وهم يؤولون الملائكة بالعقول، فإن أرسطو يقول: "إن الله -أو العلة الأولى- خلق عشرة عقول، فخلق العقل الأول، والأول خلق الثاني... إلى العاشر، ثم العاشر هو الذي خلق الكون وهو الذي يدبره! هذه هي خيالات وسفسطات أرسطو، التي جاء بها من غير برهان ولا حجة، لا من النقل ولا من العقل، بل هذا هو كفره وضلاله.
      وأرسطو يعتبر شيخ الضلالة الأكبر في العالم اليوم، بل إنه المعبود الأكبر في الفكر الغربي، وقد انتقل إلى الفكر الشرقي عند الباطنية والفلاسفة .
      وكل شر في أي علم من العلوم التي أخرجها أهلها عن الدين؛ كعلم الاجتماع، وعلم النفس، والاقتصاد، وغيرها، يبدأ من أرسطو وأتباعه.
      ولماذا أولوا الملائكة؟ لقد أخذوا كلام أرسطو، وحتى لا يظهروا أمام المسلمين أنهم كفروا بالقرآن، قالوا: ما سماه القرآن ملائكة فهو الذي سماه أرسطو : العقول، فأولوا الملائكة بأنها العقول العشرة، أو النفوس؛ لأن بعضهم يقول: إن العقل الكلي خلق النفس الكلية... إلى آخر ذلك الهراء الذي لا داعي للإطالة فيه، قالوا: ولا يمكن موتها بحال، وذلك لأن هذا العالم عندهم ليس له أول ولا آخر، أي: لا ابتداء له ولا انتهاء، والذي يدبره ويحركه هي هذه العقول العشرة، فكيف تموت هذه العقول ؟ ولذلك قالوا: إنها لا تموت.
    3. الكلام على الاستثناء في قوله تعالى: (إلا من شاء الله)

      ثم قال رحمه الله: "والقرآن وسائر الكتب تنطق بأن الملائكة عبيد مدبرون، كما قال سبحانه: ((لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا))[النساء:172]"، ثم بين رحمه الله المراد من الاستثناء في قوله تعالى: ((وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ))[الزمر:68]؛ لأن بعض العلماء يقول: هم الملائكة، فقال رحمه الله: "وأما الاستثناء فهو متناول لمن في الجنة من الحور العين، فإن الجنة ليس فيها موت".
      إذاً: الحور العين والولدان وأهل الجنة عموماً لا يموتون؛ لأن الجنة لا موت فيها، فهي دار بقاء، وليست دار فناء. يقول: "ومتناول لغيرهم -أي: لا يمنع أيضاً أن يدخل فيه غيرهم- ولا يمكن الجزم بكل من استثناه الله، فإن الله أطلق في كتابه" أي: أن الله أطلق أنه يستثني من شاء، فلا نستطيع أن نجزم بأن ذلك محصور في أهل الجنة وحدهم إلا بدليل، يقول: "وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فأجد موسى آخذاً بساق العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي، أم كان ممن استثناه الله؟}".
      وفي رواية: {فلا أدري هل أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟} كما في قوله تعالى: ((فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا))[الأعراف:143]، يقول شيخ الإسلام : "وبكل حال: النبي صلى الله عليه وسلم قد توقف في موسى، وهل هو داخل في الاستثناء فيمن استثناه الله أم لا؟ فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر بكل من استثنى الله؛ لم يمكنا نحن أن نجزم بذلك، وصار هذا مثل العلم بوقت الساعة، وأعيان الأنبياء، وأمثال ذلك مما لم يخبر به، وهذا العلم لا ينال إلا بالخبر"، أي: أنه لا يعلم ذلك إلا بالخبر الصحيح، أما بغير ذلك فلا يعلم.
    4. سجود الملائكة لآدم

      ثم سئل شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر: "عن آدم لما خلقه الله ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكـته: هل سجد ملائكة السماء والأرض، أم ملائكة الأرض خاصة؟ وهل كان جبرائيل وميكائيل مع من سجد؟ وهل كانت الجنة التي سكنها جنة الخلد الموجودة، أم جنة في الأرض خلقها الله له؟ ولما أهبط هل أهبط من السماء إلى الأرض؟ أم من أرض إلى أرض مثل بني إسرائيل؟
      فأجاب: الحمد لله، بل أسجد له جميع الملائكة كما نطق بذلك القرآن في قوله تعالى: ((فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ))[الحجر:30]، فهذه ثلاث صيغ مقررة للعموم والاستغراق، فإن قوله: (الملائكة) يقتضي جميع الملائكة؛ لأن اسم الجمع المعرف بالألف واللام يقتضي العموم، كقوله: (رب الملائكة والروح) فهو رب جميع الملائكة.
      الثاني: قوله تعالى: (كُلُّهُمْ) وهذا من أبلغ العموم"، وهي عند اللغويين والبلاغيين والمناطقة أيضاً من أبلغ ألفاظ العموم، فإذا قلت: جاء القوم كلهم، فمعنى ذلك أنهم جاءوا جميعاً ولم يبق منهم أحد. يقول: "والثالث: قوله: (أَجْمَعُونَ) وهذا توكيد للعموم". وهذه الآية من أبلغ الآيات المؤكدة لذلك، وفي مثل هذا الموضع يقول عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه: [ما من شبهة إلا وجوابها في كتاب الله]، فقد قال بعض الناس: إنه لم يسجد لآدم إلا بعض الملائكة، والله تعالى يقول: ((فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ))، فماذا بقي بعد كلام الله عز وجل؟
      يقول: "فمن قال: إنه لم يسجد له جميع الملائكة، بل ملائكة الأرض؛ فقد رد القرآن بالكذب والبهتان، وهذا القول ونحوه ليس من أقوال المسلمين واليهود والنصارى"، وشيخ الإسلام رحمه الله يريد أن يقول: إن الباطنية والفلاسفة أتباع أرسطو خارجون عن جميع الأديان والملل، فليسوا من المسلمين، ولا متبعين لهم، ولا متبعين لأهل الكتاب، فهذا القول هو قول أقوال الخارجين عن أهل الملل، وليس له أصل في الكتب ولا عند أهل الكتب، وإنما هو مأخوذ عن الوثنيين اليونانيين، يقول: "وإنما هو من أقوال الملاحدة المتفلسفة، الذين يجعلون الملائكة قوى النفس الصالحة، والشياطين قوى النفس الخبيثة، ويجعلون سجود الملائكة طاعة القوى للعقل، وامتناع الشياطين عصيان القوى الخبيثة للعقل".
      وهنا يذكر شيخ الإسلام عنهم تأويلاً جديداً، وهذا دليل على أنهم ليسوا على مذهب واحد، بل إنهم فرق وشيع، فمنهم من قال: ليس هناك ملائكة تأمر الإنسان بالطاعة وتحثه عليها، وإنما هي هذه القوى الصالحة، فالإنسان عنده قوى ونوازع وملكات صالحة، وهي الملائكة، وعنده أيضاً نوازع ودوافع ورغبات وملكات غير صالحة، وهي الشياطين، فلا وجود لحقائق أخرى، وهذا الكلام هو ما يقوله علماء النفس -كما يسمون اليوم- وهو قول كثير من المعاصرين الذين أنكروا المعجزات والغيبيات من أتباع المدرسة العقلية كما تسمى، وهي ليست بعقلية، وإنما هي جهلية؛ لأنهم اتبعوا الجهل والرأي، أما العقل فهو مؤيد لما في الكتاب والسنة.
      يقول: "ونحو ذلك من المقالات التي يقولها أصحاب رسائل إخوان الصفا، وأمثالهم من القرامطة الباطنية، ومن سلك سبيلهم من ضلال المتكلمة والمتعبدة"، أي: أن بعض المتكلمة وهم أصحاب الكلام، وبعض المتعبدة وهم المتصوفة، قد اتبعوا أولئك الباطنية وانطلت عليهم حيلهم. يقول: "وقد يوجد نحو هذه الأقوال في أقوال المفسرين التي لا إسناد لها يعتمد عليه"، فإن بعض كتب التفسير تخلط مثل هذه الأقوال.
    5. إبليس ليس من الملائكة في الأصل والطبع

      يقول رحمه الله: [ومذهب المسلمين واليهود والنصارى ما أخبر الله به في القرآن، ولم يكن في المأمورين بالسجود أحد من الشياطين]، وهنا يبين شيخ الإسلام: هل إبليس اللعين من الملائكة؟ فيقول رحمه الله: "ولم يكن في المأمورين بالسجود أحد من الشياطين؛ لكن أبوهم إبليس كان مأموراً فامتنع وعصى، وجعله بعض الناس من الملائكة لدخوله في الأمر بالسجود"، أي: في قوله تعالى: (( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ))[الحجر:30-31] قالوا: فلما أمر إبليس بالسجود مع الملائكة واستثني منهم؛ دل ذلك على أنه منهم، قال: "وجعله بعض الناس من الملائكة لدخوله في الأمر بالسجود، وبعضهم من الجن؛ لأن له قبيلاً وذرية"، وهذا هو القول الثاني: وهو أن إبليس من الجن، وقد نص عليه القرآن في قوله تعالى في سورة الكهف: ((إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ))[الكهف:50]، ولأن له ذريةً وقبيلاً، قال تعالى: ((إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ))[الأعراف:27]، والملائكة طبيعتهم غير ذلك، فلا يتزاوجون، ولا ذرية لهم ولا نسل، فهو إذاً يخالف جنس الملائكة من حيث أصله وعنصره الذي خلقه الله سبحانه وتعالى منه، قال: "ولكونه خلق من نار، والملائكة خلقوا من نور"، فاختلف عن الملائكة في الخلق والطبيعة، فليس منهم، قال رحمه الله: "والتحقيق: أنه كان منهم باعتبار صورته، وليس منهم باعتبار أصله ولا باعتبار مثاله، ولم يخرج من السجود لآدم أحد من الملائكة؛ لا جبرائيل، ولا ميكائيل ولا غيرهما"، أي: أن كل الملائكة سجدوا، حتى جبرائيل وميكائيل، أما إبليس فهو منهم باعتبار صورته ووضعه، فإنه كان يعيش معهم، وكان مأموراً بأن يعمل أعمالهم، ولم يكن منهم باعتبار أصله ومثاله، فهو مختلف عنهم في الأصل وفي الطبع.
      إذاً: هذا بالنسبة إلى من أول الملائكة؛ لأن هناك من لا يؤمن بهم أصلاً، وهناك من أولهم احتراماً لحروف القرآن فقط، فقالوا: لا ننكرها، لكنها ليست كما يظن الناس، وإنما هي العقول، أو النفوس، أو الطبائع الخيرة... إلى آخر ما قالوا.
    6. الملائكة خلقوا من نور

      وأما مادة خلقهم، فإنهم خلقوا من نور، كما في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {خلق الله الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم} فخلق الله تعالى الملائكة من نور، ولذلك فلهم طبيعة خاصة جعلها الله سبحانه وتعالى لهم تختلف عن الإنس وعن الجن، وعن بقية المخلوقات.
    7. الملائكة هم المدبرون للكون والحكمة من ذلك

      ثم يقول رحمه الله: [فكل حركة في العالم، فهي ناشئة عن الملائكة، كما قال تعالى: ((فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا))[النازعات:5].. ((فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا))[الذاريات:4]، وهم الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل].
      وقد جاء ذلك عن علي رضي الله عنه، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في الفتح (8/599)، وقد رواه ابن عيينة رحمه الله تعالى في تفسيره، ورواه غيره، وقد ذكر الطبري رحمه الله أسانيد كثيرة في إثبات هذا القول عن علي رضي الله تعالى عنه، وجاء عن مجاهد عن ابن عباس وهذا مما لا يكاد يخالف فيه، وهو أن (المدبرات أمراً) هم الملائكة، وكذلك المقسمات أمراً.
      وقد استدل المصنف رحمه الله بقوله تعالى: ((فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا))[النازعات:5] على أن كل حركة في العالم فهي ناشئـة عن الملائكة، مع أن الله تعالى يقول: ((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ))[يس:82]، وقوله: ((إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ))[النحل:40]؛ فالله تعالى يخلق ويدبر بقوله: (كُنْ)، فما الحكمة في أن الله سبحانه وتعالى يجعل ملائكة موكلين بالجبال، وملائكة بالمطر والسحاب، وملائكة ببني آدم... إلى آخر ما سيأتي تفصيله إن شاء الله؟
      هناك حكم عظيمة، منها: أن الله عز وجل يبتلي عباده بالإيمان بالغيب، فإن الناس يرون السحاب يسقي أرضاً ويترك أخرى، ويرون كل المخلوقات وهي تسير بتدبير عجيب، فإذا تأملوا في ذلك، وعلموا أن الله سبحانه وتعالى جعل لها هؤلاء العباد المكرمين، يدبرونها ويسيرونها، فقد آمنوا بالغيب، وهذا هو الفرق بين المؤمن والكافر، فإن الكافر عندما يرى هذه الظواهر يقول: هذا شيء طبيعي، فإن الشمس عندما سطعت على البحر تبخر، ثم ذهب البخار إلى أماكن معينة، وحصل بعد ذلك انخفاض وارتفاع جوي، ثم تكوَّن السحاب، والتقى بمناطق باردة... فنزل المطر، فيجعلونه ظاهرة طبيعية فقط، وقد تكون تفاصيلها صحيحة، ونحن لا نعترض على صحة هذه التفاصيل، لكنهم ينسون ويُغفِلون ما لا يرون: ((يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ))[الروم:7].
      فالله تعالى يمتحن المؤمنين بالإيمان بالغيب، وأيضاً فإن الله سبحانه وتعالى له أمور يدبرها ويخلقها وينشئها بقوله: (كُنْ)، وله أمور ينشـئها ويدبرها بواسطة الملائكة، ولا أحد يعترض على الله سبحانه وتعالى، والأصل أنه لا يسـأل عما يفعل وهم يسألون.
      وقد عبد بعض الناس الملائكة؛ قالوا: لأنهم بنات الله -تعالى الله عما يقولون- وبعضهم يقول: لأنها هي التي تدبر الأمر، فقد أخذوا من كلام الرسل أن الملائكة تدبر أمور الكون، فقالوا: نعبدها لتقربنا إلى من خلقها وأمرها بالتدبير؛ لتكون شفعاء وواسطة لنا عند الله؛ لأنها مقربة من الله سبحانه وتعالى، فنحن ندعوها ونرجوها ونخافها لكي تتوسط لنا عند الله، فمن هنا دخلت الشبهة على المشركين فعبدوهم، وهذا من الباطل؛ لأن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان، وجعل له إرادة وقدرة، وجعل له أعمالاً، وخلق الملائكة وجعل لهم أعمالاً، وإن كانت الطبيعة تختلف، فلا يصح أن يعبد شيء لمجرد أنه من جند الله، فالشمس التي تشرق وتعم الناس بالضياء، ويحصل لهم خير كثير بشروقها، والسحاب الذي يمطر ويحصل به الخير العظيم، لا يصح أن تعبد لأنه قد حصل منها خير للناس، فإنما هي من جند الله وخلقه سبحانه وتعالى، فلا شبهة ولا حجة لمن يعبد الملائكة أو غيرهم من دون الله سبحانه وتعالى، بل عليه أن يعبد الله الذي خلقهم : ((وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ))[فصلت:37]، فهو الذي خلق الملائكة والسحاب، وخلق الأنبياء والصالحين واصطفاهم.
  2. أصناف الملائكة والأعمال الموكلة بهم

     المرفق    
    ثم قال: [وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة، وأنها موكلة بأصناف المخلوقات، وأنه سبحانه وكل بالجبال ملائكة..].
    ذكر الشارح هنا بعض التفصيل في أحوال الملائكة، وقد ألف الشيخ عمر الأشقر كتاباً سماه عالم الملائكة الأبرار، وهو كتاب موجز، لم يشمل الموضوع كله، لكنه كتاب مفيد وواضح؛ لأنه يعتمد على الآيات والأحاديث، وقد نقل من شرح الطحاوية كثيراً، وكأنه فصَّل أو فسَّر بعض ما ذكره الشارح رحمه الله.
    1. الملائكة الموكلة بالجبال

      يقول الشارح: [وأنه سبحانه وكَّل بالجبال ملائكة]، وقد ذكر الشيخ الأشقر في كتابه الحديث الدال على هذا، وقد رواه البخاري وهو أن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بـقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا به عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم عليَّ ثم قال: يا محمد! ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً} رواه البخاري ومسلم، وهذا من كمال شفقته ورأفته بأمته، وكما قال في الحديث الآخر: {لكل نبي دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة}، وبسبب هذه الشفاعة يكون لهذه الأمة يوم القيامة فضل عظيم وخير كثير، أما نوح عليه السلام فقد قال كما جاء في حديث الإسراء: {وقد كانت لي دعوة فدعوتها على قومي}، قال تعالى عنه: ((رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا))[نوح:26]، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد احتفظ بدعوته وادخرها شفاعة لأمته يوم القيامة، فهو: ((بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ))[التوبة:128] صلوات الله وسلامه عليه.
    2. الملائكة الموكلة بالسحاب والمطر

      قال: [ووكل بالسحاب والمطر ملائكة]، فكما أن للجبال ملائكة، فكذلك للسحاب والمطر ملائكة.
      يقول الشيخ الأشقر نقلاً عن ابن كثير في البداية والنهاية (1/50): "وميكائيل موكل بالقطر والنبات اللذين يخلق منهما الأرزاق في هذه الدار، وله أعوان يفعلون ما يأمرهم به بأمر ربه، يصرفون الرياح والسحاب كما يشاء الرب جل جلاله. وقد روينا أنه {ما من قطرة تنزل من السماء إلا ومعها ملك يقررها في موضعها من الأرض}. ومن الملائكة ما هو موكل بالسحاب، ففي سنن الترمذي عن ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {الرعد ملك من ملائكة الله، موكل بالسحاب، معه مخاريق من نار، يسوق بها السحاب حيث شاء الله}، وقد يسقي بلاداً دون بلاد، أو قرية دون أخرى، وقد يؤمر بأن يسقي زرع رجل واحد دون سواه، كما في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعال عنه -وهو من الأحاديث العظيمة الدالة على فضل الصدقة، وأن العبد ينال ولاية الله وكرامته بالإحسان والصدقة- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بينا رجل بفلاة من الأرض، فسمع صوتاً في سحابة يقول: اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب، فأفرغ ماءه في حرة -أرض مستوية صلبة- فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء، فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله! ما اسمك؟ قال: فلان، للاسم الذي سمع في السحابة، فقال له: يا عبد الله! لم تسألني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان. لاسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أما إذ قلت هذا، فإني أنظر إلى ما يخرج منها، فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثاً، وأرد فيها ثلثاً}.
      فالله سبحانه وتعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، لا معقب لحكمه، ولا مدبر في ملكه إلا هو عز وجل.
    3. الملائكة الموكلة بالرحم

      قال المصنف: [ووكل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها]، ويدل على ذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: {حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك...}، وحديث حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا أتت على النطفة اثنتان وأربعون ليلة أرسل الله إليها الملك فينفخ فيها الروح } رواه مسلم، فينفخ الروح في تلك النطفة، بعد أن كانت عبارة عن مادة حية ولكن لا روح فيها، والروح هي سر الله سبحانه وتعالى، الذي جعله في ابن آدم، وميزه بها عن غيره ليكون إنساناً، وبعد نفخ الروح يؤمر بكتب أربع كلمات؛ وذلك حتى يعلم الإنسان أن كل شيء قد قضي وفرغ منه وانتهى، وقد رفعت الأقلام وجفت الصحف، فلا شيء جديد أو مستأنف أبداً، {فيؤمر بكتب أربع كلمات: رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله إلا هو إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها}.
      ففي هذه الأحاديث وغيرها دليل على أن الله سبحانه وتعالى جعل من الملائكة أصنافاً موكلة بالأرحام، تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها.
    4. الملائكة الموكلة بحفظ أعمال العباد وكتابتها

      يقول رحمه الله: "ثم وكل بالعبد ملائكة لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته"، وهؤلاء هم أعظم من يجب علينا أن نؤمن بهم ونتفكر في أمرنا معهم دائماً، وهم الملائكة الذين يحفظون أعمالنا ويحصونها، وهم الكرام الكاتبون الذين وكلهم الله سبحانه وتعالى بالإنسان، والأدلة عليهم ثابتة من القرآن والسنة، فمن القرآن قوله تعالى: ((مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))[ق:18] قيل: إن (رقيباً وعتيداً) اسمان لملكين، والظاهر أنهما صفة للكتبة، وقال تعالى: ((وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ))[الانفطار:10]* ((كِرَامًا كَاتِبِينَ))[الانفطار:11]* ((يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ))[الانفطار:12]، وغير ذلك من الأدلة الثابتة في القرآن والسنة.
      وقد سئل شيخ الإسلام رحمه الله كما في الفتاوى (4/252): "هل الملائكة الموكلون بالعبد هم الموكلون دائماً، أم كل يوم ينزل الله إليه ملكين غير أولئك؟ وهل هو موكل بالعبد ملائكة بالليل وملائكة بالنهار؟
      وقوله عز وجل: ((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ))[الأنعام:61] فما معنى الآية؟
      فأجاب: "الحمد لله، الملائكة أصناف؛ منهم من هو موكل بالعبد دائماً، ومنهم ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر؛ فيسألهم -وهو أعلم بهم- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون. ومنهم ملائكة فضل عن كتاب الناس يتبعون مجالس الذكر.
      وأعمال العباد تجمع جملة وتفصيلاً، فترفع أعمال الليل قبل أعمال النهار، وأعمال النهار قبل أعمال الليل، وتعرض الأعمال على الله في كل يوم إثنين وخميس، فهذا كله مما جاءت به الأحاديث الصحيحة، وأما أنه في كل يوم يتبدل الملكان؛ فهذا لم يبلغنا فيه شيء. والله أعلم" أي: الملكين الموكلين بكتابة كل شيء، لا اللذين يأتيان كل يوم.
      إذاً هناك ملائكة موكلة دائمة، وملائكة متعاقبة يعقب بعضها بعضاً.
    5. كيف تكتب الملائكة الهم الذي يهمه المرء ولا يظهره ؟

      ثم سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم: {إذا هم العبد بالحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة...} الحديث. فإذا كان الهم سراً بين العبد وبين ربه، فكيف تطلع الملائكة عليه؟
      فأجاب رحمه الله: "الحمد لله، قد روي عن سفيان بن عيينة في جواب هذه المسألة قال: [[إنه إذا همَّ بحسنة شمَّ الملك رائحة طيبة، وإذا هم بسيئة شم رائحة خبيثة]].
      وهذا أحد الأجوبة، وهو أن الملك لا يعلم وإنما يشم، فإذا هم العبد بعمل صالح شم الملك رائحة طيبة، ولعل مما يؤيد تصور بعض السلف أن للحسنات والسيئات روائح، ما أثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: [[لو أن للذنوب رائحة لما جالسني منكم أحد]]، وهذا من تواضعه رضي الله تعالى عنه، وفي ذلك يقول أبو العتاهية :
      أحسن الله بنـا            أن الخطايا لا تفوح
      فإذا المستور منا            بين ثوبيه فضوح
      أي: لو كانت روائح الذنوب تظهر، لما استطاع أحد أن يجالس بعض الناس، وهذا ابن مسعود يقول هذا الكلام، فكيف بأصحاب الفجور والشرك والخمور والزنا والربا؟ لكن من إحسان الله بنا أنه لم يجعل للذنوب روائح، وإلا لكان الذي يرى مستوراً بين ثوبيه مفضوحاً عند الناس، نسأل الله أن يرحمنا وأن يسترنا في الآخرة كما سترنا في الدنيا.
      قال شيخ الإسلام : "والتحقيق: أن الله قادر أن يعلم الملائكة بما في نفس العبد كيف شاء، كما هو قادر على أن يطلع بعض البشر على ما في الإنسان"، وقد أطلع النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً على ما كان يضمر له بعض أعدائه، فالله قادر على أن يطلع من شاء على ما يشاء سبحانه وتعالى، يقول: "فإذا كان بعض البشر قد يجعل الله له من الكشف ما يعلم به أحياناً ما في قلب الإنسان، فالملك الموكل بالعبد أولى بأن يعرفه الله ذلك"، أي أن الملك أولى من الذين قد يطلعهم الله سبحانه وتعالى -كرامة منه- أن فلاناً ينوي كذا.
      قال: "وقد قيل في قوله تعالى: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ))[ق:16] أن المراد به الملائكة".
      وهذه الآية يحتج بها الحلولية، ومن ينكرون علو الله تعالى، وليس لهم فيها حجة؛ لأن قوله تعالى: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ))[ق:16] فيه قولان: إما أن يتعلق بما قبله، وإما أن يتعلق بما بعده، فإذا تعلق بما قبله كان المعنى: ونحن أقرب إليه بعلمنا؛ لأنه قد ذكر العلم في أول الآية، قال تعالى: "ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه"، وهذا من حيث المعنى وجيه وواضح، لكن المعنى الآخر من حيث اللغة أوجه؛ وذلك لأن الظرف يتعلق بأقرب مذكور، قال تعالى: (( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ))[ق:16-17]، فالظرف وهو (إذ) متعلق بـ(أقرب)، فيكون المعنى: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد بملكينا (الملتقيان) أي: اللذين يتلقيانه.
      قال شيخ الإسلام: "والله قد جعل الملائكة تُلقي في نفس العبد الخواطر، كما قال عبد الله بن مسعود -وهذا صحيح وثابت عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، ولو قيل: إن له حكم الرفع لكان وجيهاً: {إن للملك لمة، وإن للشيطان لمة، فلمة الملك تصديق بالحق ووعد بالخير، ولمة الشيطان تكذيب بالحق وإيعاد بالشر}"، وهذا الأثر له شاهد في قوله تعالى: ((الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ))[البقرة:268] فإن الإنسان عندما يهم بالحسنة فإن ذلك من لمة الملك، إذاً هو يعلم بالحسنة؛ لأنه هو الذي دفعه إليها وأثارها في نفسه.
      يقول: "وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: {ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الملائكة، وقرينه من الجن. قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وأنا، إلا أن الله قد أعانني عليه، فلا يأمرني إلا بخير}" .
      وفي رواية أخرى: { إلا أن الله أعانني عليه فأسلم}، والمعنى إما أن يكون: فأسلمُ من شره، ولا يأمرني إلا بخير، أو ما ذكره بعض الشراح فقالوا: أسلمَ أي: آمن ودخل في الإسلام، ولذلك فلا يأمر إلا بالخير؛ لأنه مسلم وإن كان شيطاناً، ويكون هذا مستثنى من عموم الشياطين الذين أصل طبيعتهم الكفر، كما أن أصل طبيعة الملائكة الطاعة.
      يقول رحمه الله: "فالسيئة التي يهم بها العبد إذا كانت من إلقاء الشيطان، علم بها الشيطان"، والشيطان لا يعلم الغيب، لكنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، وقد زين له المعصية، فعلم حينئذٍ أنه هم بها؛ ولهذا يشجعه ويحثه على فعلها، ولأنه يجري مجرى الدم، فيعلم أن الإنسان يريد أن يفعل الخير فيثبطه عنه، كما يقول له عند صلاة الفجر: نم، عليك ليل طويل، فينام حتى لا يصلي الفجر جماعة.
      وهذه هي حقيقة الصراع، لا كما يقول الشيوعيون وأمثالهم: إن الكون مبنيٌّ على الصراع الطبقي أو التضاد، وهو موجود، لكن حقيقته أنه بين الملائكة والمؤمنين أهل الحق من جهة، وبين الشياطين والفجار الذين هم حزب الشيطان من جهة أخرى، فالصراع قائم بين حزب الله وحزب الشيطان، في النفس وفي الواقع.
      هذه هي حقيقة الصراع، والنفس الإنسانية ميدان للصراع، ولذلك فصاحب النفس اللوامة، وهي التي لم تتمحض لأحدهما، إذا غلبه الشيطان واستحوذ عليه، عاد فلام نفسه، أما الفاجر صاحب النفس الأمارة بالسوء، فيكفيه شيطان واحد يأمره وينهاه، وهو في يده كالبهيمة في الحبل يجره كما يشاء، وهذا هو الذي تمحض للشيطان -عياذاً بالله- واتبع هواه، وأما صاحب النفس المطمئنة، فلا يملك الشيطان عليه إلا الوسوسة، كما قال صلى الله عليه وسلم: {الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة}.
      إذاً: الصراع قائم عند صاحب النفس الأمارة بالسوء.. يذهب فيصلي، ثم بعد ذلك يعصي الله تعالى.. يحضر حلقة من حلقات الذكر، أو يقرأ كتاباً من كتب الحق، وبعدها يقرأ مجلة خليعة، أو يتابع مسلسلاً خبيثاً.. وهكذا، فلمة للملك ولمة للشيطان، وتمده مادتان: مادة الخير ومادة الشر، فأيهما غلبت عليه فهو لها في النهاية، ومن هنا كان الواجب علينا أن نتعاهد قلوبنا وأعمالنا بتقوى الله سبحانه وتعالى، والإيمان به، وأن نستحي من هؤلاء الملائكة الكرام، وألاَّ نجعل الله سبحانه وتعالى وملائكته الكرام أهون الناظرين إلينا، فإن البعض يجعل الله تعالى عند ارتكاب المعصية أهون الناظرين إليه، وهذا من ظلم ابن آدم وجهله، أنه في حال المعصية لا يكون مستحضراً عظمة الله سبحانه وتعالى، ولم يوقر الله، ولم يقدره حق قدره في تلك اللحظة، ولهذا ففي لحظات الإيمان لا تخطر على باله تلك المعاصي، إنما تخطر عليه في لحظات الضعف، ولذلك وجب عليه أن يتعاهد نفسه وقلبه، ويتعاهد إيمانه، ولا يجعل ربه سبحانه وتعالى أهون الناظرين إليه.