نبدأ بقضية الحق من أولها، لأن هذه الكلمة لا يعرفها النَّاس حق المعرفة، عندما نقول: "حق فلان عَلَى الله"، أو "حق فلان عند الله" والمعتزلة تَعرِفون ضلالهم وهو قولهم: إنه يجب عَلَى الله أن يعاقب المسيء نعوذ بالله كيف يجرأ لسان أو فم أو قلب أن يوجب عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شيئاً الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، والذي عنده خزائن كل شيء وله الأمر والخلق، ولا معقب لحكمه ولا رادّ له ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ومع ذلك يقولون: يجب.
ولهذا كما سبق لما أنكروا الشَّفَاعَة، قالوا: كيف نثبت الشَّفَاعَة في إنسان عصى الله وتذهب المعصية هكذا، لا، بل يجب عَلَى الله أن يعذبه -والعياذ بالله- وهَؤُلاءِ حجروا رحمة الله، وهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد كتبها وجعلها سابقة لغضبه.

فيقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: ليس لأحد عَلَى الله حق إلا ما أحقه عَلَى نفسه، ولا يفرض أحد عليه حقاً، بل هو من كمال عدله جعل ذلك وإلا لو شاء لفعل غير ذلك، ومن الذي يحاسبه أو يؤاخذه أو يقول: لم فعلت؟ لا أحد، فكل الخلق نواصيهم بيده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ثُمَّ من هذا الذي عَبَدَهُ فاستحقَّ بعبادته أن يكون له حق واجب عَلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلو نظرنا إلى هذا العابد: من الذي خلقه وهداه وأطعمه وسقاه وقواه وعلمه هذه العبادة؟ لوجدنا أنَّهُ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إذ الفضل أولاً وأخيراً لله وحده، فمن أين يكون لأحد حق عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟
لكن مِنْ رحمةِ اللهِ وفضله وعدله وهو الذي لا يظلم أحداً، وأخبرنا بذلك ويخاطبنا بهذا النداء ونحن العبيد الضعفاء المخلوقين: {يا عبادي: إني حرّمتُ الظلم عَلَى نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا} فلو أن من يظلمون خلق الله بأي نوع من أنواع الظلم، فطنوا إِلَى هذا المعنى الذي يقوله الله تَعَالَى في هذا الحديث القدسي، حرَّمَ الظلم عَلَى نفسه.
فهل يرضى منك أيها المخلوق أن تظلم مخلوقاً غيرك، وقد حرمه الذي له الفضل عَلَى كل أحد من كل وجه، وفي كل لحظة؟! لا والله؛ لكنهم ما قدروا الله حق قدره، ولم يعلموا عقوبته، ولهذا تجد الْمُسْلِمِينَ يفتري بعضهم عَلَى بعض، ويظلم بعضهم بعضاً عافانا الله وإياكم.

والله تَعَالَى هو الذي أوجب عَلَى نفسه وحرم عَلَى نفسه ما يريد فَيَقُولُ: ((وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)) [الروم:47] وقَالَ: ((وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً)) [النساء:122] وقَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)) [آل عمران:9] فإذا وجدنا أناساً غير منصورين -كحالنا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ اليوم- فمعنى ذلك أنا لسنا بمؤمنين إيماناً نستحق به الوعد كما قال تعالى: ((وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) [آل عمران:139] وفي الواقع اليوم الْمُسْلِمُونَ هم من أرذل الأمم إن لم يكونوا أرذلها في المجامع والمحافل العالمية، لأننا لسنا من الإيمان بالصفة التي نستحق أن نكون بها الأعلين، ويقول الله تعالى: ((وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)) [النساء:141] ونجد الآن أن الكفار متسلطين عَلَى المؤمنين، لأنهم ليسوا من الإيمان بحيث يستحقون ذلك، وهكذا قس ما شئت، والحديث الثابت في الصحيحين لما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـمعاذ: {يا معاذ أتدري ما حق الله عَلَى عباده؟
قَالَ: قلت: الله ورسوله أعلم.
قَالَ: حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئاً}

وأعظم حق له جل شأنه عَلَى عبيده هو التوحيد((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)) [الأنعام:151] الآية.
أو وصية من الوصايا: ((أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً))؛ ولهذا لما رتب الله الحقوق جعل أعظم حق هو التوحيد،((وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)) لأن الحق الثاني بعد حق الله حق الوالدين.
ثُمَّ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أتدري ما حق العباد عَلَى الله إذا فعلوا ذلك؟
قال قلت: الله ورسوله أعلم.
قَالَ: حقهم عليه أن لا يعذبهم}

فجاءت هنا كلمة "الحق"، فمعنى ذلك كما يقول المصنف: [فهذا الحق وجب بكلماته التامة، ووعده الصادق، لا أن العبد نفسه مستحق عَلَى الله شيئاً، كما يكون للمخلوق عَلَى المخلوق] فالمخلوق ممكن أن يستغني عنه ولكن لا غنى للمخلوق عن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.