المادة كاملة    
اتخذ متكلمة الأشاعرة والمعتزلة من مذهب الفلاسفة في منع الإشارة إلى الله بالحس مذهباً لهم؛ زاعمين -بسبب أوهام باطلة توهموها- أنهم ينزهون الله تعالى، وهم بذلك يردون قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله؛ فقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى ربه عز وجل يوم عرفة حين استشهد ربه على تبليغه ما أمر به لأمته؛ كما شهد صلى الله عليه وسلم بالإيمان للجارية وقد سألها: أين الله؟ فقالت: في السماء.
  1. الإشارة إلى الله بالحس بين أهل السنة وأهل البدعة

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله:
    [الثالث عشر: الإشارة إليه حسًّا إلى العلو، كما أشار إليه من هو أعلم به وبما يجب له ويمتنع عليه من جميع البشر، لما كان بالمجمع الأعظم الذي لم يجتمع لأحد مثله، في اليوم الأعظم، في المكان الأعظم، قال لهم: {أنتم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت}، فرفع إصبعه الكريمة إلى السماء، رافعاً لها إلى من هو فوقها وفوق كل شيء، قائلاً: {اللهم اشهد}، فكأنا نشاهد تلك الإصبع الكريمة وهي مرفوعة إلى الله، وذلك اللسان الكريم وهو يقول لمن رفع إصبعه إليه {اللهم اشهد} ونشهد أنه بلغ البلاغ المبين، وأدى رسالة ربه كما أمر، ونصح أمته غاية النصيحة، فلا يحتاج مع بيانه وتبليغه وكشفه وإيضاحه إلى تنطع المتنطعين، وحذلقة المتحذلقين، والحمد لله رب العالمين] ا.هـ
    1. إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لربه بالحس

      الشرح:
      قال المصنف رحمه الله: [الثالث عشر: الإشارة إليه حساً إلى العلو]. وهذا من الأدلة على علو الله تبارك وتعالى التي لا تحتمل التأويل ولا الحذلقة ولا التفلسف، وهذه الإشارة الحسية باليد أو بالإصبع مما أجمع عليه العقلاء وأهل الأديان جميعاً أنها إلى الله إنما تكون إلى جهة العلو.
      ويقول المصنف هنا: (حسًّا) أي: بالحس؛ بالأعضاء وبالجوارح المشاهدة؛ لأنها لا تحتمل التأويل؛ ذلك أن الآيات والأحاديث أو الجمل والألفاظ والعبارات قد تؤول بتأويلات بعيدة متكلفة، لكن الإشارة المحسوسة بالإصبع التي تراها العين لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقبل التأويل إلا ممن كابر وخرج عن سواء الصراط.
      قال المصنف: [كما أشار إليه من هو أعلم بربه] ويعني بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه أعلم الخلق بربه عز وجل، كما صرح هو بذلك صلى الله عليه وسلم فقال عن نفسه: {أنا أعلمكم بالله}، وكيف لا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العالمين، وهو الذي رقي إلى سدرة المنتهى، وأطلعه الله تبارك وتعالى على الجنة والنار، وخاطبه ربه وخاطبه رسول ربه جبريل عليه السلام، وهو الذي أنزل الله تبارك وتعالى عليه الذكر، وهو الذي بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، فما ترك خيراً قط إلا دلهم عليه، ولا شراً قط إلا بينه لهم ونهاهم عنه؟!
      فإذا عرف حاله صلى الله عليه وسلم وأنه لا أحد أعلم بالله منه صلى الله عليه وسلم، كان الذين يتحدثون في أبواب العقيدة ويقولون: هذا يجب لله، وهذا يجوز، وهذا يمتنع... من عند أنفسهم، ويتركون سنته صلى الله عليه وسلم.. كان هؤلاء مفترين على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كيف يستدركون عليه؟! كأنهم أعلم بالله من رسوله صلى الله عليه وسلم؟!
    2. بطلان تقسيم المتكلمين لصفات الله عز وجل

      قال المصنف: [بما يجب له ويمتنع عليه] لأن المتكلمين يجعلون العقيدة في الله على ثلاثة أقسام: ما يجب له، وما يمتنع عليه، وما يجوز في حقه.
      وهذا التقسيم باطل؛ لأنه تقسيم بحسب القسمة العقلية، والقسمة العقلية لا تستوفي القضية، وإن ظن أهلها أنها كذلك، ومن ذلك مثلاً: أنهم يقولون: مما يمتنع على الله تعالى وجود شريك معه، ومما يجب لله تبارك وتعالى إثبات أنه حي.
      فما يمتنع عليه هو المستحيل الذي لا يمكن أن يكون، وما يجب له هو الذي يستحيل خلافه؛ لكن بينهما شيء واحد فقط بحسب القسمة العقلية؛ هذا الشيء هو الجائز عقلاً، ويدخلون فيه أنه تعالى يرسل الرسل، وينـزل الكتب، فيجعلون هذا من أقسام الجائز عقلاً.
      فنقول لهم: كونه تعالى يخلق فلاناً من الناس.. يحييه أو يميته، أو يخلق شجرة، أو جبلاً، أو بحراً.. من أي باب هو؟ قالوا: هذا من باب الجائز أيضاً؛ لأنه لا يجب أن يثبت ذلك لله، وكذلك لا يمتنع ولا يستحيل أن يثبت ذلك لله.
      فهم قد ساووا بين إيجاد تلك المخلوقات، وبين إرسال الرسل وإنزال الكتب؛ فنستنتج من هذا: أن جانب الحكمة لا يدخل تحت هذه القسمة العقلية.
      والله سبحانه وتعالى يفعل أشياء بحكمته، ويفعل أشياء أخرى بمشيئته، فإن هناك أشياء يخلقها الله بمشيئته سبحانه وتعالى، وهناك أشياء تكون فيها زيادة على مجرد المشيئة، كأن يقترن بالمشيئة محبة، أو حكمة أخص، فلله الحكمة في كل فعل وفي كل أمر؛ وهناك تصريف وتدبير لله سبحانه وتعالى في هذا الوجود، فهو يخص كل شيء بما يناسبه وفقاً لحكمته سبحانه وتعالى، وعندما نحصر القسمة بهذه القسمة العقلية في ثلاثة أقسام، تكون هذه القسمة باطلة، والنظر في صفات الله سبحانه وتعالى بمنظار العقل وحده وبمنطقه سبب لوقوع الخطأ والضلال، والذي تؤخذ عنه صفات الله سبحانه وتعالى هو كتاب الله الكريم وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعلم الناس بالله، وهو الذي عرفهم بربهم عز وجل، فلا أحد أعلم وأعرف بربه منه صلى الله عليه وسلم، ولا أحد يُعلِّم الناس ويعرفهم بصفات الله سبحانه وتعالى أعلم منه صلى الله عليه وسلم.
    3. الرد على مانعي الإشارة إلى الله بالحس

      وهؤلاء المتكلمون يقولون: يمتنع أن يكون الله في جهة، ويمتنع أن يشار إليه بالحس، وهذا هو قول الفلاسفة، ثم أخذه عنهم المتكلمون من معتزلة وأشعرية فقالوا: يمتنع أن يشار إلى الله إشارة حسية.
      فلذلك يقول المصنف رحمه الله: [كما أشار إليه من هو أعلم ربه وبما يجب له ويمتنع عليه من جميع البشر].
      فالمشير إلى جهة العلو هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أعلم الخلق بالله، وأفضل خلق الله تعالى.
      وأين كانت الإشارة؟ يقول: [لما كان بالمجمع الأعظم الذي لم يجتمع لأحد مثله] كان هذا المجمع الأعظم في الحج يوم عرفة، ومن العلماء من قال: إن الخطبة كانت في منى، والإمام البخاري رحمه الله بوب في صحيحه فقال: (باب الخطبة في منى )؛ ومن المتفق عليه: أن هذا المجمع كان في الحج، في حجة الوداع، وفي أعظم يوم، سواء قلنا: إنه يوم عرفة، أو يوم النحر، وفي المكان الأعظم، وهو حرم الله سبحانه وتعالى.. أطهر بقعة في الأرض، وباجتماع هذه الخصال والصفات جميعاً كانت الإشارة الحسية إلى الله تبارك وتعالى، وذلك بعد أن خطبهم ووعظهم وبين لهم حرمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ونهاهم أن يقتتلوا من بعده، وبين حقوق بعضهم على بعض، حتى بيَّن صلى الله عليه وسلم حق المرأة على زوجها، وحق الرجل على زوجته في تلك الخطبة العظيمة، وبعد ذلك قال: {أيها الناس! أنتم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟} كما قال الله: ((فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ))[الأعراف:6]، وفي الآية الأخرى يقول: ((وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ))[القصص:65] فالله سبحانه وتعالى يسأل الناس يوم القيامة عن إجابتهم الرسل، وكل إنسان يُسأل في قبره ثلاثة أسئلة، منها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كنت تقول في هذا الرجل؟
      فكل فرد منا مسئول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا كان يعتقد فيه؟ والجواب ليس هو ما يعتقده الإنسان في ذهنه؛ بل الجواب هو حاله وواقعه، فهو الذي يجيب، ولو أن الجواب عند الله تبارك وتعالى بالفهم أو بالذكاء أو الحفظ؛ لحفظ الإنسان ما يريد أن يقول وأجاب بما يريد، لكنه في الحقيقة لا يجيب إلا بمقتضى حاله في هذه الحياة الدنيا؛ فإن كنت الآن على سنته وعقيدته وهديه ودعوته، فإن جوابك سيكون على وفق ما أنت عليه، وإن كنت معرضاً عن هديه وسنته ومنهجه وشريعته، فإن جوابك في القبر وعرصات القيامة لن يكون إلا بمقتضى ذلك.
      ثم قال: [فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلَّغت وأديت ونصحت]؛ هكذا شهد الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم، وكان هذا الموقف العظيم موقف الوداع، ولهذا سمى الناس هذه الحجة بحجة الوداع من وقتها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ودع الناس، فقال: {لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا}، وبالفعل لم يلقوه صلى الله عليه وسلم بعد عامه هذا، بل إنه بعد منصرفه من حجة الوداع ببضع وثمانين ليلة تقريباً أدركه الأجل صلى الله عليه وسلم.
    4. بيان اختلاف الروايات في رفع النبي صلى الله عليه وسلم لإصبعه أو لرأسه

      يقول المصنف رحمه الله: [فرفع إصبعه الكريمة إلى السماء] هذا الحديث الجليل في خطبة الوداع رواه كل أصحاب كتب السنة ودواوين الإسلام تقريباً، لكن: هل كان رفعه صلى الله عليه وسلم ليده، أو لرأسه؟
      ورد في البخاري (ثم رفع رأسه) -في آخر كتاب الحج.. باب الخطبة بـمنى - ولم يقل: (إلى السماء)، ولكن قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: إن الحافظ الإسماعيلي في مستخرجه زاد فقال: (إلى السماء) وواضح أن الرفع لا يكون -وخاصة في ذلك الموقف العظيم وفي مقام الاستشهاد- إلا كذلك، فكلمة الرفع بذاتها تدل على أنه كان إلى السماء، وأتت رواية الإسماعيلي رحمه الله فبينت ما أُجمل، وهو أن رفع الرأس كان إلى السماء.
      وأما ما رواه الإمام مسلم من حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم -وفيه وصف حجته من أولها إلى آخرها تقريباً، وقد شرحه العلامة الشيخ الألباني رحمه الله- فإنه قال فيه: فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء ثم ينكتها إلى القوم أو إلى الأرض؛ فـجابر رضي الله عنه يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال بإصبعه -و(قال) تأتي بمعنى (فعل) فإذا قلت: قال بيده كذا، فهو بمعنى: فعل بها كذا- رفع السبابة وأشار بها إلى السماء، ينكتها أو ينكبها بحسب الاختلاف في اللفظ، فكان صلى الله عليه وسلم يرفعها إلى السماء وينكتها، ويقول: {اللهم قد بلغت اللهم اشهد}.
      فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا أشار إلى ربه تبارك وتعالى في ذلك المجمع العظيم بالإصبع السبابة، وأشار إلى السماء مخاطباً ربه وهو يقول: {اللهم اشهد}، دلَّ ذلك على أن الله تبارك وتعالى في السماء، عالٍ على المخلوقات وفوقها جميعاً بما لا يحتمل التأويل.
      وهذه السبابة هي التي صح فيها الحديث عند مسلم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بها في التشهد في صلاته، وهي التي يتشهد الإنسان بها ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، ويرفع إصبعه مشيراً بها إلى السماء، وفي الدعاء يدعو الإنسان في تشهده، وكذلك في خطبة الجمعة، وإن كان الأصل في الدعاء رفع اليدين، لكن -أيضاً- يدعى بهذه السبابة ويشار بها.
      وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى بعض الصحابة وهو يشير في صلاته بإصبعين قال له: {أحّد، أحّد}، أي: ادعُ وأشر بإصبع واحدة؛ لأنها إشارة إلى الله ودعاء له، فلهذا قال له: (أحّد، أحّد). يعني: ادع بإصبع واحدة، وهي السبابة كما بين ذلك فعله صلى الله عليه وسلم في رواية جابر هذه، وكما بينته الأحاديث الأخرى كذلك.
  2. كفر من قال بكتم النبي صلى الله عليه وسلم لشيء من الدين

     المرفق    
    يقول المصنف: [فكأنَّا نشاهد تلك الإصبع الكريمة وهي مرفوعة إلى الله] إن كل من يؤمن بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبعدالة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وصدقهم ونقلهم يؤمن بهذا الحديث كأنه يراه رأي العين، وإن كان بينه وبين تلك الواقعة القرون الطويلة.
    يقول: [وذلك اللسان الكريم] أي: وكأنا نشهد لسانه الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب من رفع إصبعه إليه، وليس بعد ذلك حجة لمجادل ولا شبهة لصاحب شبهة، ونشهد نحن المؤمنين جميعاً وإن تباعدت القرون والأجيال والأعصار أنه بلَّغ البلاغ المبين كما شهد له بذلك أصحابه الكرام، فالمصنف رحمه الله كأنه يقول: لنتصور أننا في ذلك الموقف نرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يرفع إصبعه الكريمة مخاطباً ربه الكريم سبحانه وتعالى ويقول: {اللهم اشهد} ونحن أيضاً نقر ونصدق بأنه صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ وأدى ونصح كما نطق بذلك الصحابة الكرام؛ لأننا على آثارهم سائرون، فنشهد بما شهدوا به، ونقر بما أقروا به، ونصدق بما صدقوا به، من أنه صلى الله عليه وسلم بلَّغ وأدَّى ونصح.
    ثم قال المصنف: "ونشهد أنه قد بلغ البلاغ المبين" الذي ليس بعده بلاغ، ولا شبهة إلا الشبهة الداحضة للكافرين والمجرمين، "وأدى رسالة ربه كما أمر" ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم بلغ رسالة ربه، وقد خاب وخسر من ادعى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الدين، كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها في الحديث الثابت الصحيح الذي تقدم معنا أكثر من مرة في باب الرؤية وغيره: [[ من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أنزله الله عليه فقد أعظم على الله الفرية]] وليس كذبه فقط على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل على الله، وقد وجد في عهد الصحابة رضي الله عنهم من يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الحق أو كتمه أصحابه؛ لأن الشيطان وأعوانه في كل زمان ومكان يريدون أن ينتقصوا من قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قدر صحابته، ومن قدر هذا الدين الذي أنزله الله تبارك وتعالى عليه، وممن كان ينتقص رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أولئك الروافض الذين ظهروا في زمن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أيام علي وعائشة رضي الله تعالى عنها فقد قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من العلم، واختص به علياً وأهل بيته.
    سبحان الله! ألنبي صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وأنار به قلوب الناس أجمعين، ودخل الناس في دينه من كل لون ومن كل قبيلة ومن كل جنس، ثم هو صلى الله عليه وسلم يصنع كملك من ملوك الدنيا ويختص أهل بيته بما لا يعطي بقية الناس؟! نعوذ بالله من سوء الظن بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم..!
    وهذا القول من الكفر البواح؛ فمن قاله أو اعتقده فقد كفر بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن معنى هذا الكلام ومقتضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطع ربه في أمره له بأن يبلغ هذا الدين، فقد قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ))[المائدة:67] وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ شيئاً من رسالة ربه، فدين الإسلام إذاً باطل.. بل الرسالة كلها باطلة، وهذا هو ما يريدون قوله؛ ولذا زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم اختص علياً وآل البيت بشيء من العلم، ومنه ما يسمونه (علم الجفر) ويزعمون -حسب خرافتهم الفاسدة- أنه مع صاحب السرداب.
    وتدعي ذلك أيضاً الصوفية كما ادعته الباطنية والرافضة -ومشرب الجميع وموردهم متحد- قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخص بعض الصحابة بالعلم الباطن (العلم اللدني) ولم ينشر ويبث إلا العلم الظاهر الذي هو علم الشريعة، وأما علم الحقيقة -بزعمهم- فإنه كان يخص به البعض ويكتمه عن سائر الأمة. ويستشهدون على ذلك بأحاديث مكذوبة ليس لها أصل، ومن ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: {كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم هو وأبو بكر وكنت كالزنجي بينهما} يعني: لا يفهم شيئاً. سبحان الله! حتى لو لم يكن يدرك المعاني أفلا يفهم الألفاظ؟! عمر رضي الله تعالى عنه الذي ذكر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه في عهده يضرب الدين في الأرض بجرانه، وتستحيل الخلافة غرباً كما في رؤياه صلى الله عليه وسلم فاستحالت كما قال. ثم قال: {فلم أرَ عبقرياً يفري فريه}، وقد نشر دين الله حتى عم مملكتي كسرى وقيصر، فهل نشر الدين كله أم نشر فقط الجزء الظاهر! ولم ينشر من العلم الحقيقي والعلم اللدني والعلم الباطني شيئاً؟! هكذا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر وعلي ولهذا لما سئل علي رضي الله تعالى عنه: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم؟ -والحديث متفق عليه وروي في كثير من دواوين السنة- قال: {لا والذي خلق الحبة وبرأ النسمة ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم دون الناس إلا ما في هذا الكتاب، فأخرج كتاباً من قراب سيفه فإذا فيه العقل، وفكاك الأسير، وألاَّ يقتل مسلم بكافر}، على اختلافٍ في الروايات، ومضمونها كلها أنه كتاب كتبه النبي صلى الله عليه وسلم عندما عاهد اليهود وأهل المدينة على ألاَّ يؤوي أحد من أهلها فيها محدثاً، وفيه الديات وفكاك الأسير، وألاَّ يقتل مسلم بكافر.
    وهذه أحكام ظاهرة معلومة، وقد بلغها النبي صلى الله عليه وسلم للناس جميعاً؛ لكن علياً رضي الله عنه اختص بأنه اطلع على هذا الكتاب، ووقع بيده فاحتفظ به، وإلا فالأمر والعلم فيه مشهور ومنتشر.
    ثم قال علي رضي الله عنه: {إلا فهماً في كتاب الله} والفهم الذي يفهمه الإنسان في كتاب الله لا يختص بـعلي رضي الله عنه ولا بغيره، بل قد يأتي في آخر الزمان من يفهم من كتاب الله ما لم يفهمه أحد من قبله، ولا غرابة في ذلك.
    فنشهد -كما قال المصنف رحمه الله- أن رسولنا صلى الله عليه وسلم بلَّغ الأمانة، وأدَّى الرسالة، ولم يكتم شيئاً من الحق، ولم يختص به طائفة دون أخرى لغرض من الأغراض كما يزعم أولئك المبطلون، ونشهد ونُقر بأن من افترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كتم شيئاً من الدين، أو أنه خص بأمر من أمر الدين -فضلاً عن كونه يكتم أعظم أمر من أمور الدين كما يزعمون- أقواماً وكتمه عن سائر الأمة؛ فنشهد أن هذا من الكفر البواح الذي لا يقوله مؤمن بالله ولا برسوله صلى الله عليه وسلم.
    يقول: "ونشهد أنه بلغ البلاغ المبين، وأدى رسالة ربه كما أمر، ونصح أمته غاية النصيحة، فلا يحتاج مع بيانه وتبليغه وكشفه وإيضاحه إلى تنطع المتنطعين، وحذلقة المتحذلقين" ومن أمثلة تنطع المتنطعين وحذلقة المتحذلقين قول المتكلمين: (لا نثبت العلو، ولا نشير إليه حساً؛ لأن في هذا دلالة على أنه جسم من الأجسام، وعلى أنه في جهة؛ فنحن ننزه الله تعالى عن هذه الأمور، وعن مشابهة المخلوقات) فنقول لهم: كيف يشير النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، ثم أنتم تتنزهون عن شيء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إن هذا لهو عين الباطل.
    أما إن كان ذلك من أجل اللوازم التي تتوهمونها، فهذه اللوازم باطلة من غير نفي الإشارة، وكل ما كان باطلاً فإنه لا يثبت في حق الله سبحانه وتعالى، ولكن الإشارة هي من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تستلزم ما تريدون أن تلزموها به "والحمد لله رب العالمين".
  3. من أدلة العلو: التصريح بلفظ (الأين)

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله: [الرابع عشر: التصريح بلفظ (الأين) كقول أعلم الخلق به، وأنصحهم لأمته، وأفصحهم بياناً عن المعنى الصحيح بلفظ لا يوهم باطلاً بوجه: {أين الله؟} في غير موضع] ا.هـ.
    الشرح:
    الدليل الرابع عشر على علو الله تبارك وتعالى بما لا يحتمل التأويل: التصريح بلفظ (الأين)، أي بلفظ: (أين) كما صرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
    وقد وصف المصنف رحمه الله النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث عبارات:
    العبارة الأولى: [أعلم الخلق به] أي: بربه، فإذا وصف ربه بشيء، فهو أعلم به من كل أحد سواه.
    العبارة الثانية: [وأنصحهم لأمته] ولا يمكن أن يغش نبي أمته أبداً، فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم؟! والغش يقع فيما لو جعلهم يعتقدون في الله خلاف الحق، فهذا أعظم الغش؛ فذلك الذي يقول للناس: هذا دين الله وشرعه وأمره، ثم هو يأتيهم بالآراء والجهالات والضلالات والبدع، فيجعلها هي دين الله، ويأتي إلى السنن وإلى أوامر الله وإلى دين الله، فيقول: هذا ليس من الدين، هذا تنطع، تطرف، وهذه قشور ليست من الدين.. فذلك هو الغشاش الأكبر؛ لأنه لم يغش الناس في طعام أكلوه، وإنما غشهم في أعظم شيء وهو عقيدتهم ودينهم الذي به يرجون عند الله تعالى الفوز في الدنيا والآخرة.
    فالنبي صلى الله عليه وسلم أنصح الخلق للأمة، فلا يمكن أن يغشهم فيسأل عن ربه بلفظ وهو يريد سواه، أو يأتيهم بكلام ولا يبين معناه، ولو قرأ الإنسان في أي كتاب من كتب علم الكلام وسمع ما يقوله أولئك -وهم بزعمهم يريدون أن ينزهوا الله، فينفون عنه علوه، وينفون عنه (الأين) يقولون: (ولا يسأل عنه بـ(أين) تنزيهاً له) -لعجب من هؤلاء على من يفترون؟! وعمن يترفعون؟! أعلى أعلم الخلق بالله وأنصحهم لأمته؟!
    إن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان ليغش أمته، فيسأل عن ربه بـ(أين) وهي تؤدي إلى التشبيه أو التمثيل، أو أنها من عقائد العرب في الجاهلية -كما تقدم ذكر من قال بذلك- وغير ذلك من التخريجات الباطلة؛ فهو صلى الله عليه وسلم أنصح للأمة من أن يلبس عليهم دينهم، كيف والله سبحانه وتعالى ينعى على أهل الكتاب أنهم يلبسون الحق بالباطل؟! يقول الله عنهم: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ))[آل عمران:71]، ويقول أيضاً عنهم: ((وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ))[آل عمران:78] أي: يقرأ أحدهم كتاب الله ويدخل فيه عبارات من عنده، فيظن السامع أن هذه العبارات من كتاب الله وهي ليست من كتاب الله، فهذا التلبيس من أقبح الدجل وأشنع الغش، فهل يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا والله، ولا الصحابة ولا التابعون ولا أحد من أئمة الدين أبداً؛ لأن بيان الله تعالى أعظم بيان، وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بيان، وهو أبعد الناس عن الغش؛ إذ هو أنصحهم للأمة.
    فإذا قال قائل: يجب أن نؤول كل ما جاء في القران أو في السنة ونصرفه عن معانيه؟
    نقول: أعطنا ولو حادثة واحدة قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: لا تعتقدوا هذه الآيات والأحاديث على ظاهرها، بل أولوها، فلن يجد من ذلك شيئاً.
    ولهذا لما ترك الإمام الجويني رحمه الله التأويل في آخر أمره كما بين ذلك في رسالته قال: (نظرنا فوجدنا أن القرون الثلاثة مطبقون على عدم التأويل).
    فإذا لم يجدوا ذلك، فقد تأكد أن ما قاله صلى الله عليه وسلم هو عين الحق والصواب الذي لا يجوز لأحد أن يعدل إلى سواه.
    العبارة الثالثة: [وأفصحهم بياناً] فالنبي صلى الله عليه وسلم هو أفصح العرب، وأفصح الخلق صلى الله عليه وسلم، ومع هذه الصفات الثلاث يقول المصنف: [بلفظ لا يوهم باطلاً بوجه] أي: لا يحتمل ذلك أبداً، فهو مع علمه بربه، ونصحه لأمته، وفصاحته وبلاغته التي هي في الذروة؛ يقول للجارية: {أين الله؟ ولما أجابت، وقالت: في السماء قال: أعتقها}.
  4. من أدلة العلو: شهادة النبي بالإيمان لمن قال بذلك

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله: [الخامس عشر: شهادته صلى الله عليه وسلم لمن قال: إن ربه في السماء بالإيمان.
    السادس عشر: إخباره تعالى عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء ليطلع إلى إله موسى، فيكذبه فيما أخبره من أنه سبحانه فوق السماوات، فقال: (( يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ))[غافر:36-37]، فمن نفى العلو من الجهمية فهو فرعوني، ومن أثبته، فهو موسوي محمدي.
    السابع عشر: إخباره صلى الله عليه وسلم أنه تردد بين موسى عليه السلام وبين ربه ليلة المعراج بسبب تخفيف الصلاة، فيصعد إلى ربه، ثم يعود إلى موسى عدة مرار.
    الثامن عشر: النصوص الدالة على رؤية أهل الجنة له تعالى من الكتاب والسنة، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يرونه كرؤية الشمس والقمر ليلة البدر ليس دونه سحاب، ولا يرونه إلا من فوقهم: كما قال صلى الله عليه وسلم: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة، سلام عليكم، ثم قرأ قوله تعالى: (( سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ))[يس:58] ثم يتوارى عنهم، وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم). رواه الإمام أحمد في المسند وغيره، من حديث جابر رضي الله عنه.
    ولا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية، ولهذا طرد الجهمية النفيين، وصدّق أهل السنة بالأمرين معاً، وأقروا بهما، وصار من أثبت الرؤية ونفى العلو مذبذباً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وهذه الأنواع من الأدلة لو بسطت أفرادها لبلغت نحو ألف دليل، فعلى المتأول أن يجيب عن ذلك كله، وهيهات له بجواب صحيح عن بعض ذلك!
    وكلام السلف في إثبات صفة العلو كثير جداً؛ فمنه ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه (الفاروق) بسنده إلى أبي مطيع البلخي: أنه سأل أبا حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض، فقال: قد كفر، لأن الله يقول: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ))[طه:5] وعرشه فوق سبع سماوات، قلت: فإن قال: إنه على العرش، ولكن يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض، قال: هو كافر، لأنه أنكر أنه في السماء، فمن أنكر أنه في السماء، فقد كفر. وزاد غيره: لأن الله في أعلى عليين، وهو يدعى من أعلى، لا من أسفل. انتهى.
    ولا يلتفت إلى من أنكر ذلك ممن ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة، فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم، مخالفون له في كثير من اعتقاداته، وقد ينتسب إلى مالك والشافعي وأحمد من يخالفهم في بعض اعتقاداتهم. وقصة أبي يوسف في استتابته لـبشر المريسي لما أنكر أن يكون الله فوق العرش مشهورة. رواها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره.]
    ا.هـ.
    الشرح:
    ورد هذا في قوله عن الجارية: (أعتقها) وشهد لها بالإيمان كما في رواية أخرى صحيحة: {أعتقها فإنها مؤمنة}.
    وأما الاعتراض على هذه الرواية بقول الإمام أحمد -كما في تعليق الشيخ الألباني رحمه الله على كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية- يقول الإمام أحمد: (ليس كل أحد يقول: فإنها مؤمنة) وهذا الكلام للإمام أحمد موجود في كتاب الإيمان - وهو مخطوط- وقد رواه عنه الخلال بسنده، ومراده أن بعض الروايات فيها (أعتقها) وبعضها فيها (أعتقها فإنها مؤمنة).
    وهنا تعرض لنا قضية مهمة، وهي أننا إذا فهمنا كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام العلماء على الوجه الصحيح، فلن نجد تعارضاً ولا تناقضاً.
    والإمام أحمد كان يتكلم عن هذه الرواية في مقام الإيمان، لا في مقام الصفات؛ ذلك أن المرجئة يقولون: إن الناس متساوون في الإيمان، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في الجارية: {أعتقها فإنها مؤمنة} والجارية ما أتت بعمل وإنما أتت بالإقرار والقول فقط.
    فيستدل المرجئة بذلك ويقولون: الإيمان هو النطق والإقرار فقط، والناس فيه سواء؛ لأن كل من يقول: (لا إله إلا الله) فهو مؤمن، فهم في الإيمان سواء، ولهذا رد عليهم الإمام أحمد، وفي رده لفتة فقهية من كمال فقهه فيقول: (ليس كل أحد يقول: فإنها مؤمنة) يعني: ليس كل الرواة رووا ( فإنها مؤمنة ) وإن كانت الرواية صحيحة، لكن الاكتفاء بقوله: (أعتقها) كافٍ في بيان مراد النبي صلى الله عليه وسلم. فيريد أن يقول: إن المقصود هنا ليس هو إثبات الإيمان، فالسؤال أصلاً لم يكن عن تفاضل الإيمان وإنما السؤال: هل تجزئ في العتق؟ لذا قال له: ( أعتقها ). لأنها لو لم تجزئ لما قال له: (أعتقها)، والرواية التي جاء فيها: {أعتقها فإنها مؤمنة} معناها: أعتقها؛ فإنها مسلمة أو مؤمنة إيماناً يجزئ في عتقها؛ فإيمانها هذا وإقرارها كافٍ بأن تكون رقبة مجزئة.
    فهل الموضوع هو تفاضل الإيمان وزيادته ونقصانه، أو إثبات اسم الإيمان؟
    الحقيقة أنه مقام إثبات اسم الإيمان، وهل هي من الكافرين أم من المؤمنين؟ وليس المقصود: هل هي من السابقين المقربين أم من أصحاب اليمين؟ وفرق بين هذا وذاك.
    ولذلك فإن كلام الإمام أحمد رحمه الله في هذا المقام إنما هو للرد على المرجئة يقول: (ليس كل أحد يقول: فإنها مؤمنة) أي: أن السؤال كان عن الإعتاق وعن الإجزاء، وعندما قال: (أعتقها) أي: فإنها تجزئ، ورواية {فإنها مؤمنة} صحيحة لكن ليس السؤال عنها.
    فشهادته صلى الله عليه وسلم كما هنا لمن قال: (إن ربه في السماء) بالإيمان حق في أن المثبت لعلو الله سبحانه وتعالى مؤمن.
    ويوضح ذلك: ما رواه اللالكائي رحمه الله بسنده إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أنه كتب إلى قادة الجيوش، فكان من جملة ما كتب: [[وإذا أخرج أحد رأسه وأشار بيده إلى السماء فقتل فله القود]].
    أي: إذا حاصر المسلمون حصناً من حصون الكفار، وخيروهم بين الخصال الثلاث التي كان يبعث بها النبي صلى الله عليه وسلم الجيوش، وهي: الإسلام، أو الجزية، أو السيف -القتال- فأبوا الإسلام والجزية، واختاروا القتال، وهم من العجم؛ من الفرس أو الترك أو البربر، وفيهم من لا يستطيع أن يقول: أسلمت، فكيف نفهم من أسلم منهم؟! يقول عمر رضي الله تعالى عنه: [[إذا أخرج أحدهم رأسه ورفع يديه إلى السماء فقتل فله القود]]، إذا قتل بعد أن أشار إلى السماء فإنه يقاد ممن قتله؛ لأنه قد أعلن وأظهر أنه مسلم؛ لأن تلك الإشارة تعني الإشارة إلى وحدانية الله سبحانه وتعالى وعلوه، فهذه علامة الموحدين المؤمنين، وهذا يصدق أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد للجارية بالإيمان عندما قالت: إن الله في السماء.
  5. الرد على الخوارج في التفكير بالذنوب

     المرفق    
    هذه القضية السالفة مليئة بالعبر، منها: أن الإسلام يثبت للإنسان بأي خصيصة من خصائص الإسلام، فـعمر رضي الله تعالى عنه يقول: بسبب أن من خصائص المسلمين رفع اليد إلى السماء إعلاناً بالتوحيد، فمن فعل ذلك منهم فكأنه يقول: قد أصبحت منكم، فيقبل منه، وليس معنى ذلك أن هذا الرجل الذي أخرج يده قد أصبح إيمانه كإيمان أبي بكر وعمر، وإنما المقصود أنه يثبت له اسم الإيمان، ويأخذ أحكام المؤمنين بذلك.
    وأول حكم وأعظم حكم في هذه الحالة هو عصمة الدم والمال، كما في الحديث: [[أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك -وفي رواية: فإذا قالوها- فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام]] كما ورد في حديث ابن عمر وغيره.
    ونظراً لوجود الغلاة الذين يكفرون المسلمين بالذنوب من الخوارج وأتباعهم إلى قيام الساعة فنقول:
    أولاً: الأصل في بني الإنسانية هو الإسلام عموماً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: {كل مولود يولد على الفطرة} هذا هو الأصل؛ فالخروج من الإسلام إلى النصرانية أو المجوسية أو غير ذلك -كما قال صلى الله عليه وسلم: {فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه}- يكون بسبب غلبة البيئة.
    ثانياً: بما أن الإسلام هو دين الفطرة في حق البشر جميعاً، فبالنسبة للمسلم لا يجوز ولا يصح ما قاله المتكلمون والخوارج - من أن الطفل المسلم لابد أن يقال له إذا بلغ الحلم: قل: لا إله إلا الله. جدد إيمانك.
    وأول من فعل هذا هم الخوارج ؛ لأنهم يريدون أن يتأكدوا من صحة عقيدة أتباعهم على مذهبهم الباطل في تكفير المسلمين، ثم تبعهم المتكلمون -في أكثر كتب الكلام- من معتزلة وأشعرية وغيرهم، والصحيح أن الطفل المولود من أبوين مسلمين مولود على الفطرة والإسلام، ولذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (يمسلمانه) وإنما أمر أن يعلَّم، فيعلم الصلاة، ويعلم الدين والعقيدة، لكنه في الأصل مسلم، فإذا قلت للطفل: (قل: أشهد أن لا إله إلا الله) فأنت لا تقولها له لتدخله في الإسلام، وإنما من باب التأكيد والتعليم.
    وينبني على ذلك أنه لا يحكم بالكفر على أحد إلا من كفره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبمعنى آخر: إذا قلنا بأن الإسلام يثبت للإنسان بأي شيء من خصائص الإسلام يفعله، فلا يصار عن هذا الأصل إلى غيره إلا بدليل قوي، مثل أن يطوف بقبر أو يدعو غير الله، أو يضع تشريعاً غير ما شرع الله سبحانه وتعالى وما أنزل في كتابه، أو يفتري على الله الكذب، أو يرد شيئاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، أو ينكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، فإذا وجدنا فيه ما يكفر به، فحينئذٍ نحكم بخروجه من الإسلام، وأما إذا رأيناه يعمل شيئاً من خصائص الإسلام، فإننا نقبل ذلك منه ونقره. بل إن بعض الفقهاء قالوا ما هو أبعد من ذلك، قالوا: إذا غرقت سفينة -أو سقطت طائرة- واشتبه من فيها من المسلمين بالكفار، ولم نجد علامة تميزهم؛ فإنه يصلى على الجميع؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
    وقال بعض الفقهاء أيضاً: إذا رئي الإنسان يصلي في دار الحرب؛ فإنه يعصم دمه، ولو لم يأتِ إلينا، وإن كان الواجب عليه أن يهاجر إلى المسلمين، لكنه يثبت له حكم الإسلام، فيعصم دمه وماله.
    وهذا مما يُرَدُّ به على أهل الغلو ممن يكفرون المسلمين -عافانا الله وإياكم- بغير حجة، أما تكفير المرتدين والمارقين والمشركين بالله سبحانه وتعالى، والذين تركوا دين الله عز وجل، وأعرضوا عنه بالكلية، فهذا أمر آخر، وسوف يأتي في هذه المسألة -بإذن الله تعالى- تفصيل أكثر في موضعه.
    بقيت قضية أحب أن أنبه إليها وهي: أن المصنف -رحمه الله- قال: [بلفظ لا يوهم باطلاً بوجه: (أين الله؟) في غير موضع] يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أين الله؟) في غير موضع، فهل جاء موضع سأل النبي صلى الله عليه وسلم أحداً: (أين الله؟) غير حديث الجارية؟ فليبحث ذلك.