المادة كاملة    
اشتمل هذا الدرس على سرد للأدلة التي بثها الله في الشرع والكون والتي تدل على وحدانيته تعالى، مع التنبيه على خطأ الصوفية وانحرافهم حين قسموا التوحيد إلى ثلاثة أقسام موصلة إلى الاتحاد والحلول -عياذاً بالله- وفي الختام شرح لأبيات الهروي في التوحيد والرد عليها.
  1. وحدانية الله

     المرفق    
    1. طرق بيان الله لها

      قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
      [أما السمع: فبسمع آياته المتلوة المبينة لما عرفنا إياه من صفات كماله كلها، الوحدانية وغيرها، غاية البيان، لا كما يزعمه الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة، ومعطلة بعض الصفات، من دعوى احتمالات توقع في الحيرة، تنافي البيان الذي وصف الله به كتابه العزيز ورسوله الكريم، كما قال تعالى: ((حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِين))ِ[الزخرف:1، 2]((الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ))[يوسف:1] ((الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ))[الحجر:1] ((هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ))[آل عمران:138] ((فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ))[المائدة:92] ((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ))[النحل:44].
      وكذلك السنة تأتي مبينة أو مقررة لما دل عليه القرآن، لم يحوجنا ربنا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إِلَى رأي فلان، ولا إِلَى ذوق فلان ووجْدِه في أصول ديننا. ولهذا نجد من خالف الكتاب والسنة مختلفين مضطربين، بل قد قال تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينا)) [المائدة:3] فلا يحتاج في تكميله إِلَى أمر خارج عن الكتاب والسنة.
      وإلى هذا المعنى أشار الشيخ أبو جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فيما يأتي من كلامه بقوله: "لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا،ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله -عَزَّ وَجَلَّ- ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      وأما آياته العيانية الخلقية: فالنظر فيها والاستدلال بها يدل عَلَى ما تدل عليه آياته القولية السمعية، والعقل يجمع بين هذه وهذه، فيجزم بصحة ما جاءت به الرسل، فتتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة] اهـ.

      الشرح:
      من رحمة الله عَزَّ وَجَلَّ أن بين للبشر وحدانيته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غاية البيان، بطرق البيان الثلاثة وهي وسائط المعرفة التي عن طريقها نعرف أي شيء وهي:
      أ-السمع.
      ب-والبصر.
      جـ-والعقل أو القلب أي: التفكر والتدبر.
      وهذه الثلاثة هي المنافذ التي تصب جميعاً في المعرفة، فتتكون معرفة الإِنسَان للأشياء والأمور بهذه الطرق الثلاثة، ولذلك نجد أن الذي ولد أعمى -مثلاً- لا يكون لديه أحد هذه المصادر وهو النظر، فلا يستطيع أن يتمتع بآيات الله الكونية، وفاقد السمع أشد من ذلك، لأنه لا يستطيع أن يفهم إلا عن طريق السمع، وإن كَانَ يبصر هذه الأشياء، ومن حرم التفكير والعقل فقد حرم كل شيء أصلاً، وإن كَانَ به سمع أو بصر.
      والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد بين وجلى وحدانيته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وأنه لا شريك له من هذه الطرق الثلاثة كلها، حتى يقر في قلب الإِنسَان معرفة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ووحدانيته.

      وأعظم المعارف -كما قال إمام النحاة - سيبويه- هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن هذه المنافذ الثلاثة، ووسائل المعرفة كلها تدل دلالات قطعية، وتبين بيانات لا لبس فيها أبداً؛ أنه واحد -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وأنه لا شريك له، لا في ربوبيته، ولا في أسمائه وصفاته.
      قول المصنف: [أما السمع فبسمع آياته المتلوة ...].
      كلمة السمع تطلق ويراد بها: هذه الحاسة "أي: الأذن" وتطلق في علم الكلام -كما يسمونه- بما يقابل الأدلة العقلية.
    2. أنواع مباحث العقيدة عند علماء الكلام

      يقولون في علم الكلام إن المباحث عَلَى نوعين:
      عقليات وسمعيات :
      فالعقليات هي: التي يضبطها العقل؛ لأن الحَكَم هو العقل، ولذلك نجدهم يبدؤن الحديث عن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وعن صفاته فيقولون: ما يجوز لله عقلاً، وما يجب له عقلاً، وما يمتنع عنه عقلاً، فتقول الأشعرية: إن العقل هو الذي يثبت الصفات السبع، وتقول المعتزلة: العقل هو الذي يثبت الأسماء وينفي الصفات، وتقول الجهمية: إن العقل هو الذي ينفي الأسماء والصفات، ولا يثبت إلا وجوداً مطلقاً. فهذا القسم "العقليات" تدخل فيه معظم المباحث المتعلقة بصفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      والسمعيات أي: التي دل عليها الخبر المجرد، والعقل لا يقتضي إثبات ذلك ولا نفيه -مثلاً- يقولون: الإيمان باليوم الآخر وما يكون فيه، لا يقتضي العقل وجوده ولا يحكم بنفيه، فهو من القسم الجائز عقلاً؛ لكن ورد خبراً وسمعاً ومثله: عذاب القبر.
      ويرد عليهم: أن الآيات القرآنية التي تظنونها سمعية -كالآيات التي تتعلق بالآخرة- هي براهين عقلية، وقد استدل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وبين حقيقة البعث والحساب والنشور بحجج وآيات، هي في ذاتها براهين عقلية لا تملك العقول إلا أن تسلم بصحتها، وتقتضيها إما اقتضاءً كلياً وإما اقتضاءً جزئياً -أي يقتضي كل مسألة بذاتها- مثل: مسألة اليوم الآخر، والبعث، والنشور، فإننا نرى رجلاً جباراً طاغياً ظالماً سفَّاكاً للدماء طول عمره، ثُمَّ يموت، ونرى آخر براً رحيماً تقياً عادلاً حسن العشرة إِلَى آخر صفات الخير ثُمَّ يموت. فالعقل السليم يقتضي -بدون أن يأتيه وحي- أن يكون هنالك جزاء، ويجازى هذا بظلمه وشره، ويجازى هذا بخيره وبره، والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- سمى نفسه الحكيم، وعدم الحساب خلاف الحكمة.
      وكلمة "السمع": تطلق عَلَى الأدلة النقلية، والنقل يعني: الكتاب والسنة. أي: التي نقلت إلينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقال لها: دليل خبري.
      ويبين المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنزل هذا القُرْآن بياناً للناس ولذلك قَالَ: ((حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ)) [الزخرف:1، 2] في آيات كثيرة، وقَالَ: ((هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ)) [آل عمران:138] فهذا الكتاب مبين أي: مبين للحجج موضح للحق، وأعظم قضية بينها القُرْآن هي وحدانية الله، بل سائر صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وما يتعلق بتوحيده في أنواعه الثلاثة -التي مرت معنا- لا كما يزعمه الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة ومعطلة بعض الصفات؛ من دعوى أن الآيات والأحاديث السمعية النقلية توقع في الحيرة وتدل عَلَى معانٍ محيرة؛ ولهذا لجؤوا إِلَى القواطع أو البراهين العقلية، فرد عليهم المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أوضح وبين في كتابه، وحدانيته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وسائر صفاته بما لا مجال معه لقول هَؤُلاءِ النَّاس بأنها غير واضحة، أو أنها توقع في الحيرة، فمثلاً: في قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طه:5] ورد الاستواء في سبع آيات من القُرْآن الكريم فيقولون: إن هذا المعنى يوقع العقول في حيرة، فهي تتصور كذا وتتصور كذا، فتقع في حيرة، فنقول لهم: إن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد بين أعظم البيان، ولكن الحيرة أو الاضطراب وعدم الفهم سببه أن المحل الذي خوطب لا يفقه ولا يفهم كما قال الشاعر:

      وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً            وآفته من الفهم السقيم

      فلما تخيلوا معنى الاستواء أنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فوق العرش بشكل هم يتخيلونه، وتركوا الآيات والأحاديث الأخرى، مثل قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الشورى:11] التي تدل عَلَى التنزيه، وأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أعظم من أن تتوهمه الأذهان أو الخيالات، قالوا هذه الآيات توقع في الحيرة، كيف نقول: إن الله عَلَى العرش استوى ثُمَّ نقرأ قوله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) [الحديد:4]؟ هذه توقع في الحيرة، فيردون هذه الآية، ويلجؤون إِلَى قواعد وضعوها هم أنه لا داخل العالم ولا خارجه، فردوا الآيتين معاً، ولو أنهم إذ لم يفهموا ذلك رجعوا إِلَى أهل العلم ليبينوا لهم أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بذاته فوق جميع المخلوقات، والعرش أحد هذه المخلوقات، وهو بعلمه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وباطلاعه وإحاطته مع كل أحد، وليس هناك أي تعارض ولا تنافي، بل النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصل ذلك، والصحابة فهموه ومن بعدهم وأجمعوا عليه، وليس في ديننا شيء أوضح من معرفة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لأنها هي أشرف أنواع المعلومات، فهي أشرف العلوم جميعاً.
    3. بعض أدلة وحدانية الله تعالى

      إن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد بين في القُرْآن حقيقة الوحدانية في آي كثيرة جداً:
      أ- منها: الاستدلال بتوحيد الربوبية الذي يؤمن به الكفار عَلَى الوحدانية.

      ومنها الاستدلال بالأمم الماضية ومانرى من آثارهم قال تعالى: ((وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْل أفلا تبُصِرون)) [الصافات:137، 138] فهذه الآية نزلت في قوم لوط، وكذلك الطوفان الذي أهلك الله به قوم نوح يؤمن به جميع البشر، فإن العلماء الذين تخصصوا في الدراسات الجيولوجية يثبتون أن الأرض في فترة ما قد عمها الماء، وكذا علماء الاجتماع درسوا دراسات نظرية بعيدة جداً عن الدراسات العلمية البحتة فَقَالُوا: إن الخرافة المشتركة هي أسطورة الطوفان؛ لأن كل مجتمع درسوه ودرسوا لغته في أفريقيا، وفي أمريكا الوسطى، واستراليا، ومناطق آسيا يجدون أن هذه القبائل القديمة أو الهمجية عندها إثبات الطوفان، فَقَالُوا: هذه خرافة أو أسطورة مشتركة.
      ومنها: الآيات القرآنية، فلها تعلق بالآيات العيانية، وهي نوع من أنواع الاستدلال عَلَى وحدانية الله، فإن الله سبحانه أخبرنا أن هذا هو مصير من كفر وكذب وجحد بآيات الله ((كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ))[فاطر:36] ((أَفَلا يَعْقِلُونَ)) [يس:68] ((أَفَلا يَسْمَعُونَ)) [السجدة:26] فهي قرآنية سمعية نقلية خبرية، ولكنها أيضاً عقلية، فلو تأملها الإِنسَان لوجد أنها معجزة عظيمة، وكل الأمم قبلنا قد أهلكها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما كفرت((وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ)) [القصص:58] ((وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُون)) [القصص:59] ((وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ)) [فاطر:24]
      ومنها كذلك: السنة فإنها تأتي مبينة ومقررة لما دل عليه القُرْآن في باب معرفة الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وبيان أنواع التوحيد، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد سد كل الذرائع المفضية إِلَى الشرك؛ ولذلك نهانا عن قول: {لو أني فعلت كذا لكان كذا، وكذا} ونهانا أن نقول: {ما شاء الله وشئت} بحرف العطف مباشرة، وهذه الأمور هي من باب الألفاظ، فما بالك بما كَانَ من باب الاعتقاد.
      وكذلك توحيد الأسماء والصفات أو توحيد المعرفة، قد بينه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غاية البيان؛ ولهذا جاءت بعض صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في السنة ولم تأتِ في القرآن، وهو يفسر قوله تعالى: ((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)) [النحل:44] فهذا بيانه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما في كتاب الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ولم يحوجنا الله إِلَى رأي فلان، ولا إِلَى ذوق فلان.

      وهذه قاعدة عظيمة جداً، فكل إنسان له رأى، وكل ناظر من النٌظار يأتي برأي جديد، ويأتي بمذهب كلامي جديد، وهذا يرد عَلَى هذا، وهذا يناقض هذا؛ لذا الجميع حيارى -كما يقولون- والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لم يحوجنا في هذا الباب الذي هو أعظم أبواب العلوم أعني معرفة الله تَعَالَى إِلَى أي وجد من الوجدان، ولا أدلة عقلية مركبة من مقدمات ونتائج.
      فإن الصوفية وأمثالهم يعتمدون عَلَى الأدلة الوجدانية والأذواق والكشوفات الروحانية، وأهل الكلام يعتمدون عَلَى الأدلة العقلية المركبة من مقدمات ونتائج، فلا عَلَى هذا ولا هذا نعتمد في بيان ديننا، وإنما نعتمد عَلَى كتاب الله وعلى سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
      ولذا يقول أبو جعفر الطّّحاويّ: [لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلَّم لله -عَزَّ وَجَلَّ- ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] أي: إنما نؤمن بما جاءنا عن الله ورسوله، ولا نتوهم بآرائنا وعقولنا.
      ومنها الآيات العيانية والبصرية التي يبصرها الإِنسَان فإنها عظيمة جداً قال تعالى((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار))[آل عمران:190، 191] فالمتأمل في آيات الله من أعظم الأدلة عَلَى التوحيد، لذا قال تعالى:((وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ)) [الذاريات:20] وأينما رمى الإِنسَان ببصره ولحَظ، فإنه يجد الآيات العظيمة الدالة عَلَى وحدانية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذه الآيات تحول الإيمان من مجرد إيمان فطري إِلَى إيمان راسخ عميق، فإن الإيمان يزيد وينقص كما هو في مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، والوسيلة لكي يزيد هذا الإيمان هي هذه المجالات الثلاثة: الآيات القرآنية، والآيات العيانية البصرية، والآيات العقلية أو التفكر العقلي.
      حتى إن العلماء الكفار "علماء الكون" الذين تمردوا عَلَى النصرانية، وتدينوا -كما يقال- بدين العلم، عندما تعمقوا، وجدوا أن كل هذه العلوم، وكل نتاجها يدل عَلَى أن لهذا الكون إلهاً واحداً هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذه الآيات قادتهم إِلَى الاعتقاد بأنه لا إله إلا الله، وأنه حكيم، خالق، رازق، يدبر هذا الكون وينظمه.
      ولا شك أن المؤمن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبما أنزل إذا تأمل في آيات الله الكونية يكون إيمانه أضعاف ذلك الإيمان السابق، ويختلف اختلافاً كلياً عن إيمان ذلك العالم الطبيعي أو الكيميائي أوالفيزيائي.
      والله سبحانه خلق الكون لم يخلقه عبثاً ولا باطلاً؛ بل هذا ظن الكفار ((وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ))[ص:27] أما قول المؤمنين فإنهم يقولون: ((رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))[آل عمران:91] كما تأمل من قبل إمام الموحدين إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام في ملكوت السموات والأرض، وهكذا كل مؤمن يكون حظه من زيادة الإيمان بقدر ما يقرأ ويتدبر من الآيات القرآنية، ومن النظر في الآيات العيانية المشاهدة، وبالتفكير بعقله في هذه الحجج والبراهين التي أنزلها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في كتابه وأودعها في مخلوقاته.

      فوحدانية الله مما تتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة عليها كما قاله المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ.
    4. الآيات التي أعطاها الله للأنبياء تدل على وحدانية الله سبحانه وتعالى

      قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
      [فهو -سبحانه- لكمال عدله ورحمته وإحسانه وحكمته ومحبته للعذر وإقامته الحجة، لم يبعث نبياً إلا ومعه آية تدل عَلَى صدقه فيما أخبر به، قال تعالى: ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ))[الحديد:25] وقال تعالى:((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ))[النحل:43، 44] وقال تعالى: ((قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ))[آل عمران:183]، وقال تعالى: ((فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ))[آل عمران:184] وقال تعالى: ((اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ))[الشورى:17]، حتى إن من أخفى آيات الرسل آيات هود، حتى قال له قومه: ((يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ))[هود:53]، ومع هذا فبينته من أوضح البينات لمن وفقه الله لتدبرها، وقد أشار إليها بقوله :((إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))[هود: 54-56]، فهذا من أعظم الآيات: أن رجلاً واحداً يخاطب أمة عظيمة بهذا الخطاب، غير جزعٍ ولا فزعٍ ولا خوَّار، بل هو واثقٌ بما قاله، جازم به، فأشهدَ الله أولاً عَلَى براءته من دينهم، وما هم عليه إشهاد واثق به معتمد عليه، معلم لقومه أنه وليه وناصره وغير مسلط لهم عليه، ثُمَّ أشهدهم إشهاد مجاهر لهم بالمخالفة أنه برئٌ من دينهم وآلهتهم التي يوالون عليها، ويعادون عليها، ويبذلون دماءهم وأموالهم في نصرتهم لها، ثُمَّ أكد ذلك عليهم بالاستهانة بهم، واحتقارهم وازدرائهم، ولو يجتمعون كلهم عَلَى كيده وشفاء غيظهم منه، ثُمَّ يعاجلونه ولا يمهلونه لم يقدروا عَلَى ذلك إلا ما كتبه الله عليه، ثُمَّ قرر دعوتهم أحسن تقرير، وبين أن ربه تَعَالَى وربهم الذي نواصيهم بيده هو وليه ووكيله القائم بنصره وتأييده، وأنه عَلَى صراط مستقيم، فلا يخذل من توكل عليه وأقر به، ولا يُشمت به أعداءه.
      فأي آية وبرهان أحسن من آيات الأَنْبِيَاء عليهم السلام وبراهينهم وأدلتهم؟
      وهي شهادة من الله-سبحانه- لهم، بينها لعباده غاية البيان] اهـ.

      الشرح:
      موضوع النبوات يأتي -بإذن الله عَزَّ وَجَلَّ- في باب قادم، لكن الشاهد هنا أنه من آيات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الدالة عَلَى وحدانيته آيات الأنبياء.
      ب- ومنها الآيات التي أعطاها لأنبيائه:
      فالله -عَزَّ وَجَلَّ- بيّن وحدانيته بالقرآن والسنة والآيات الكونية، وبآيات أعطاها لأنبيائه الداعين إليه، تدل عَلَى أن الواحد المعبود حقاً هو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وأن الأَنْبِيَاء عندما يدعون الأمم إِلَى التوحيد لا يدعونهم بكلام مجرد، وإنما ببراهين قاطعة لا يملك أحد إلا أن يؤمن بها، إلا من يكابر ويعرض ويستكبر بعد قيام الحجة ووضوحها، فهو -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لكمال عدله ورحمته وإحسانه بخلقه، ولأنه لا أحد أحب إليه العذر منه كما في الحديث الصحيح: {ليس أحد أحب إليه العذر من الله}؛ يقدم ويعطي للإنسان طرق الخير موضحة، فإن عذب بعد ذلك وأهلك وعاقب، فإنما يعاقب بعد إقامة الحجة والإعذار البالغ الذي ليس وراءه إعذار، ولو أن الأمم جاءها العذاب قبل أن يأتيها الأَنْبِيَاء لقالوا: ((رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى)) [طه:134]، ولكن حكمة الله اقتضت أن جعل رسلاً مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس عَلَى الله حجة بعد الرسل، فآيات الأَنْبِيَاء عظيمة، وهي من أعظم الأدلة عَلَى أنه تَعَالَى قد جلى ووضح هذه الوحدانية، فكل نبي جَاءَ ببينة عظيمة يراها قومه ويفتخرون بها، ومن أعظم هذه البينات -ليس كما يقول علماء الكلام: إنها مجرد معجزة أن موسى عَلَيْهِ السَّلام قد ألقى العصا فإذا هي حية، وأن عيسى عَلَيْهِ السَّلام أحيا الموتى، ففي حقيقة الأمر لو تدبرنا آيات الأنبياء، لوجدناها من أولها إِلَى آخرها دلائل وبراهين عَلَى أنهم عَلَى الحق، وأنهم يدعون إِلَى الحق، ويولد أحدهم وينشأ عَلَى ما يدل عَلَى الاختيار والاصطفاء ((اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ)) [الحج:75] ((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ))[القصص:68] يختاره الله من أوسط قومه وأشرفهم، كما في صحيح البُخَارِيّ {قصة هرقل لما سأل أبا سفيان فقَالَ: ما نسبه فيكم؟
      فَقَالَ أبو سفيان: هو من أوسطنا نسباً -أي من أشرفنا- فيقولهرقل: وكذلك الأَنْبِيَاء تبعث من أوسط أقوامهم}
      ، يختار الله نسبه وأباءه من أشرف القوم، لا من أراذلهم المحتقرين أو المرذولين، فمثلاً: موسى عَلَيْهِ السَّلام، كَانَ فرعون يأمر بقتل كل طفل يولد من بني إسرائيل، إلا هذا الطفل حفظه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والأم التي هي أحرص ما تكون عَلَى ابنها ينفث في روعها ونفسها أن تضع هذا الابن -الذي تخاف عليه من زبانية الطاغوت- في صندوق ثُمَّ ترميه في البحر، ثُمَّ يلتقطه آل فرعون، ثُمَّ لما شعر أنه لم يلب ما في نفس زوجته من حاجة ومن إلحاح فطري إِلَى وجود ابن، لما قالت له: ((قُرَّتُ عينٍ لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً))[القصص:9] انهزم الطاغوت أمام إلحاح المرأة فقَالَ: فليكن ذلك، وهذه المرأة ألقى الله محبة موسى في قلبها، فبعثت إِلَى المراضع تخشى أن يموت هذا الطفل ولم يرضع من امرأة قط، وأرسلت أم موسى أخته فتتبعت وسمعت أن في بيت فرعون طفلاً حالته كذا وكذا، وهو لا يرضع من أي امرأة، فقالت: ((هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ)) [القصص:12] وتكون النتيجة أن يعود الطفل إِلَى الأم، وفرحت امرأة فرعون فرحاً شديداً لما رأت الطفل قبل هذا الثدي، وأعطوها النفقة ورجع إِلَى أمه، ثُمَّ كَبُر، ونشأ تنشئة العز في مجتمع الذل -مجتمع بني إسرائيل- ثُمَّ يوحى إليه ويأتي إِلَى هذا الطاغوت، بالآيات الأخرى، ثُمَّ تكون الآية العظمى -بعد ذلك- الدالة عَلَى صدق ما جَاءَ به، ثُمَّ يهلك الله فرعون وجنده، ويغرقهم في الوقت الذي ينجي فيه موسى عَلَيْهِ السَّلام ومن آمن معه.
      فآيات الأَنْبِيَاء عظيمة وعجيبة كآيات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث تأتي البشائر منذ لحظة ولادته، فيولد في المكان الذي كانت العرب تهفو قلوبها إليه ثُمَّ ينشأ، ويسمونه الأمين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يحفظوا عنه كذباً قط، وكان معصوماً بعصمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- عن أن يعبد الأصنام أو يسجد لها، أو يشارك أهل الجاهلية في أي عمل من أعمالهم الشركية الجاهلية، وما كَانَ يرجو أن يلقى إليه الكتاب، وما كَانَ يعلم ذاك ولا يتوقعه أبداً، ثُمَّ جاءت رحمة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وبعث بالآيات البينات، فلما جاءه جبريل بالوحي، كَانَ تقييم ورقة بن نوفل له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -شهادة شهد بها رجل من أُولَئِكَ القوم عنده علم من الكتاب فإنه قَالَ: {إن هذا هو الناموس الذي أنزل عَلَى موسى} يعني: جبريل -عَلَيْهِ السَّلام- ثُمَّ يؤيده الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالبراهين العظيمة، كانشقاق القمر، وتكثير الماء من بين أصابعه، والإسراء، والمعراج به إِلَى السماء، ثُمَّ يكون التأييد الأعظم الذي ليس بعده تأييد؛ أن تتحول الأمة الأمية المحتقرة التي ليس لها تأريخ عَلَى الإطلاق ولا حضارات ولا أمجاد، وإنما يعرف الرجل منهم أن أباه فلان، وأنه من قبيلة كذا، وهي أقل أمم الأرض عدداً، أن تتحول هذه الأمة فتكون سيدة العالم وتفتح دول العالم، كل هذه آيات بينات عَلَى صدق رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      وكذلك ثمود لما أعطاهم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الناقة مبصرة، وأخرج لهم هذا الحيوان العجيب العظيم الذي يأتي وله شرب يوم، ويعطيهم الحليب،كل هذه آيات بينات جعلها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لأنبيائه.
      وحقيقة الأمر: أن أعداء الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ليس الأمر أنهم لم يعقلوا، وأن المجادلة لهم كَانَ فيها ضعف في الحجة مثلاً، أو لم تأتهم براهين عقلية تقنعهم بها، بل كما قال تعالى: ((فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)) [الأنعام:33] لذا قال قوم هود: إن من كَانَ قبلك جاؤا ببينات، وأنت يا هود ما جئتنا ببينة فلن نؤمن لك. فكان جوابه -عَلَيْهِ السَّلام- هو في حد ذاته بينة قال::((إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))[هود: 54-56] فكان هود عَلَيْهِ السَّلام يقول: إني أعلن إعلاناً عاماً عَلَى الملأ أنني برئ من معبوداتكم التي تقولون: إنها تضر أو تنفع فأنا برئ من هذه الآلهة، ومما تشركون من دونه، فكيدوني بأي أمر تريدون، واعملوا بي ما شئتم، فإنني لن يصيبني إلا ما يقدره الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فهو ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذٌ بناصيتها.
      فماذا بعد هذا التحدي لهم؟ من إعطائهم آية وبرهاناً مثل من أحيا ميتاً، أو ألقى عصاً فإذا هي حيةٌ تسعى، أو أخرج لهم من الجبل ماءً، وهذه آيةٌ خفية؛ لكن من تدبرها وجدها آيةً عظيمة؛ إذْ كيف يأتي هذا الرجل فيتحدى أمةً من الأمم بآلهتها وقواها ومعبوداتها، وهو مطمئن معتمد عَلَى صدق توكله ((إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ))[هود:56] فلا يجرؤ الكاذب في أي قضية من القضايا عَلَى أن يتحدى جميع الملأ وجميع الناس، ويصبر وهو كاذب، بل الكاذب إذا حدث اثنين فلا يريد أن يدري الثالث بهذه الكذبة، ولذلك نجد أن خوارق الكُهّان والمشعوذين والسحرة لا يبرزونها للعيان أبداً، لأنها ليست آيات، بل هي شعوذات وأكاذيب وأوهام مختلقات، وتجده مخفياً لا يعرفه إلا بعض مريديه ومن يأتون إليه، وتجده مع دعوى أنه يشفي جميع الأمراض، ويستطيع أن يخبرك بأي شيء من المغيبات، لا يعرفه أهل العلم والعقول؛ بل هو في الأحياء الفقيرة والأماكن المنزوية، ومع الطبقات الحقيرة أو مع النساء، فكلما كَانَ المجال والوسط الذي يعيش فيه أضعف عقلاً كَانَ عمله هناك أكثر.
      وأما أنبياء الله عز وجل فلأنهم عَلَى الصواب والحق والبرهان، يواجهون نفس الطاغوت الأكبر، فيأتي موسى ويخاطب فرعون، ويأتي إبراهيم ويخاطب النمرود، ويأتي نبينا ويخاطب الملأ الأعلى من قومه فيرقى عَلَى الصفا ويدعو جميع كبراء قريش، فيخاطبهم خطاباً عاماً ويبين لهم ما يدعوهم إليه من الحق.
    5. دلالة الأسماء والصفات على وحدانية الله سبحانه وتعالى

      قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
      [ومن أسمائه تعالى: "المؤمن" وهو في أحد التفسيرين: المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم؛ فإنه لا بد أن يُري العباد من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغته رسله حقٌ، قال تعالى: ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ))[فصلت:53].
      أي: القرآن، فإنه هو المتقدم في قوله: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)) [فصلت:52] ثُمَّ قَالَ: ((أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))[فصلت:53] فشهد سبحانه لرسوله بقوله: إن ما جَاءَ به حق، ووعد أن يُري العباد من آياته الفعلية الخلقية ما يشهد بذلك أيضاً، ثُمَّ ذكر ما هو أعظم من ذلك كله وأجل، وهو شهادته -سبحانه- عَلَى كل شيء، فإن من أسمائه: الشهيد الذي لا يغيب عنه شيء، ولا يعزب عنه، بل هو مُطًّلعٌ عَلَى كل شيءً مشاهدٌ له، عليم بتفاصيله.
      وهذا استدلال بأسمائه وصفاته، والأول استدلال بقوله وكلماته، والاستدلال بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته.
      فإن قلت: كيف يستدل بأسمائه وصفاته، فإن الاستدلال بذلك لا يعهد في الاصطلاح؟
      فالجواب: أن الله تَعَالَى قد أودع في الفطر التي لم تتنجس بالجحود والتعطيل، ولا بالتشبيه والتمثيل، أنه -سبحانه- الكامل في أسمائه وصفاته، وأنه الموصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رُسُلُه، وما خفي عن الخلق من كماله أعظم وأعظم مما عرفوه منه.
      ومن كماله المقدس شهادته عَلَى كل شيء واطلاعه عليه، بحيث لا يغيب عنه ذرة في السماوات ولا في الأرض باطناً وظاهراً، ومَن هذا شأنه كيف يليق بالعباد أن يشركوا به، وأن يعبدوا غيره، ويجعلوا معه إلهاً آخر؟! وكيف يليق بكماله أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب، ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه، ثُمَّ ينصره عَلَى ذلك ويؤيدَه ويعلي شأنه ويجيب دعوته، ويهلك عدوه، ويظهر عَلَى يديه من الآيات والبراهين ما يعجِزُ عن مثله قوى البشر، وهو مع ذلك كاذب عليه مفتر؟! ومعلوم أن شهادته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى كل شيء وقدرته وحكمته وعزته وكماله المقدس يأبى ذلك، ومن جوَّز ذلك فهو من أبعد النَّاس عن معرفته.
      والقرآن مملوء من هذه الطريق، وهي طريق الخواص، يستدلون بالله عَلَى أفعاله وما يليق به أن يفعله وما لا يفعله، قال تعالى: ((وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ)) [الحاقة:44-47] وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله تعالى.
      ويستدل أيضاً بأسمائه وصفاته عَلَى وحدانيته وعلى بطلان الشرك كما في قوله تعالى: ((هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [الحشر:23] وأضعاف ذلك في القرآن. وهذه الطريق قليل سالكها، لا يهتدي إليها إلا الخواص. وطريقة الجمهور الاستدلال بالآيات المشاهدة؛ لأنها أسهل تناولاً وأوسع، والله سبحانه يفضل بعض خلقه عَلَى بعض.
      فالقرآن العظيم قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره، فإنه الدليل والمدلول عليه، والشاهد والمشهود له، قال تَعَالَى لمن طلب آية تدل عَلَى صدق رسوله:
      ((أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ))[العنكبوت:51]] اهـ.

      الشرح:
      هذا نوع آخر من أنواع الاستدلالات في بيان وحدانيته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهو:
      الاستدلال بأسمائه وصفاته عَلَى وحدانيته -سبحانه- وهذا الاستدلال خفي لا يدركه كل أحد، بخلاف الاستدلال بالآيات الكونية أو النفسية المشاهدة، لكن من رقي إيمانه وعظم في قلبه معرفة الله تَعَالَى وقدر الله تَعَالَى حق قدره، فإنه يستدل بمعرفته بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى ما يليق به تَعَالَى أو ما لا يليق به من الأفعال.
      ومن ذلك: أنه يستدل بمعرفته بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وأسمائه وصفاته عَلَى أنه لا يجوز أن يُشْرَك به -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أي أحد سواه، بأي نوع من أنواع العبادة، ومن أسمائه تَعَالَى "المؤمن" ومعناه عَلَى أحد القولين: "المصدق" الذي يصدق الصادقين. -أي: يصدق المؤمنين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم، وبما يعطيهم من الأدلة الشاهدة عَلَى أنهم صادقون-، كما قال الله تعالى: ((وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ))[النحل:38] وهذا قول الكفار من الأمم الماضية، فكان الجواب عَلَى ذلك: ((بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيه)) [النحل:38، 39] فهذه حكمة، أن جعل الله هنالك يوماً يبين فيه الذي يختلفون فيه فيظهر المحق من المبطل، ثُمَّ قَالَ: ((وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ)) [النحل:39].

      وقال تَعَالَى في آخر سورة فصلت: ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ))[فصلت:53]، ثُمَّ قَالَ: ((أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) [فصلت:53] أي: إننا سنري الْمُشْرِكِينَ آياتنا، وهذا والله أعلم فيه إشارة إِلَى ما وقع وترونه الآن، أن أكثر الآيات الكونية والنفسية أكثر النَّاس إطلاعاً عليها هم الكفار، ومع ذلك لم يؤمنوا، لكن الله تَعَالَى يقول: ((حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)) [فصلت:53] أي: القُرْآن حق، ثُمَّ قَالَ: ((أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))[فصلت:53].
      ومن ذلك: أننا نطبق هذا الاستدلال عَلَى نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى القُرْآن الذي جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنقول: إن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لما بعث هذا الرَّسُول وأنزل هذا القرآن، كَانَ النَّاس في الأرض عَلَى نوعين:
      1- أهل كتاب يزعمون: أن ما في أيديهم من الصحائف والكتب هو الوحي الحق المنزل من عند الله.
      2- ومشركين كمشركي العرب وغيرهم من عبدة النيران والأبقار، الذين لا كتاب لهم وإنما ورثوا هذه الأديان عن الآباء والأجداد كما قال الله عنهم: ((إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ))[الزخرف:23]
      فكانت البشرية عَلَى نوعين، فظهرت دعوة جديدة عَلَى يد رجل يزعم أنه نبي -كما يقولون- وأن كتاباً من عند الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نقياً خالصاً، قد نزل تصديقاً لما بين يديه من الكتب، وهدى وبشرى للمؤمنين، ومن علماء أهل الكتاب من شهد بصدق هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ)) [الشعراء:197] ((وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ)) [الأحقاف:10].
      وقَالَ: ((الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ)) [القصص:52-53] ومن كذب بهذا النبي الذي جَاءَ بهذا القُرْآن يقتلهم، كما فعل ببني قريظة، ويجليهم من بلادهم، كما فعل ببني النضير، ويأتي إِلَى مقر الدولة العظمى التي تحمي هذا الدين، وهي الامبراطورية الرومانية في بلاد الشام الذين يقولون: نَحْنُ أهل الدين الحق، ولدينا الإنجيل، ونحن أتباع عيسى، فيقتلهم ويأخذهم أسرى عنده، ويحكم بأن هذه الكتب باطلة ومحرفة، فيضرب عليهم الجزية ويسترق منهم من يسترق، ويقتل منهم من يقتل.
      ثُمَّ يأتي أيضاً إِلَى الأمم الشرقية التي كانت تعبد النيران والأحجار، الذين يقولون: نَحْنُ أهل الدين الحق، ونحن الذين عَلَى ملة إسماعيل وإبراهيم، فيقتلهم أيضاً كما فعل في بدر ويوم الفتح ببعضهم، ثُمَّ يفتح هذا البيت، ويكون له ولأتباعه من بعده إِلَى قيام الساعة، وقريش لم تأخذ من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً، وإنما هو ظاهرٌ عليها، حتى عندما حاولت أن تقتله لم تستطع، وحاولت اليهودية أن تضع له السم فأنطق الله الذراع المسمومة، فما عمل عملاً إلا والنصر معه، وما خطا خطوة إلا والنصر حليفه، وما تقدمت الجيوش التي ترفع رايته لتعلي كلمته إلا وهي منتصرة عَلَى رغم قلة العدد والعدة، وكثرة الأعداء، وما نوظروا بمناظرة إلا وأفحموا خصمهم، ولا جادلوا غيرهم إلا وغلبوه، وما احتج عَلَى دينهم أحد إلا وغُلب وأُفحم وظهر عليه الخزي والذل والعار.
      هذا التمكين للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدل عَلَى صدقه ((أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) [فصلت:53] فلولا أن هذا النبي حق ورسالته صدق لما تحصلت له هذه الأدلة العظيمة.
      لذا قال تعالى: ((وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ))[الحاقة:44-46] أي: لعاقبناه عقوبة أعظم من عقوبتكم.
      فهل يليق فعلاً بمن يؤمن بالله، وأنه حكيم وعادل ورحيم، أن يظن أن الله يؤيد هذا الرجل وهو كاذب عليه؟!
      لا شك أن رحمة الله بالعالمين، وحكمته وإحسانه بالبشرية هو الذي اقتضى بأن يبعث في الأميين رسولاً منهم، هذا هو اللائق بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      وبهذا الاستدلال الخفي العجيب -الذي لا يستدل به إلا الخواص -كما يقول المصنف- استدلت خديجة رضي الله عنها، وهذا يدل عَلَى فقهها وكمال عقلها، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لها: {لقد خشيت عَلَى نفسي، فقالت له خديجة رضي الله عنها: كلا والله لا يخزيك الله أبداً}
      .
      فلا يصح ما قاله بعض المتكلمين: أنه يجوز أن يدخل الله إبليس الجنة، ويعذب الأولياء والأنبياء؛ لأن هذا لا يليق بحكمة الله تعالى، كما قال تعالى: ((أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ))[القلم:35، 36] فحكمة الله تدل عَلَى أن هذا غير ممكن أبداً، ولذلك لما ادعى مسيلمة الكذاب النبوة، وأن لديه قرآناً، فضحه الله من واقع كلامه الذي يقوله: يا ضفدع نقي.. في الماء تنقنقين.. ولا الطير تبلعين..، وأيضاً: والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً...
      فلا يمكن أن يكون هذا قرآناً أبدا، وقالوا لـمسيلمة الكذاب: إن محمداً جيء له بـعلي يوم خيبر، وكان في عينه رمد فتفل فيها فبرأت، فجيء له برجل مريض العين فتفل فيها فعميت.
      وقالوا لـمسيلمة: إن كل نبي يأتي برحمة يرحم بها قومه، فبم ترحم قومك؟ قَالَ: "قد أسقطت عنكم ثلاث فرائض فصلوا فريضتين" لكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال له الكفار: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، قال الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)) [يونس:15] وقالت عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها: لو كَانَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كاتماً شيئاً من القُرْآن لكتم هذه الآية التي جاءت بشأن قصة زيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً)) [الأحزاب:37] ولكتم قوله تعالى:((عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى))[عبس:1-2] وهذا عتاب من الله عَزَّ وَجَلَّ له، ولكتم قوله تعالى: ((لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ))[الأنفال:68] أما أحمد القادياني -هذا الكذاب- فإنه كَانَ يأتي بكتب ويسميها البيان والكتاب الأقدس، ويقول: هذا وحي، أوحي إلي من عند الله، وهذا الرجل كَانَ لا يعرف الحذاء الأيمن من الأيسر إذا أراد أن يلبس، ولذلك اضطر -كما يقول خادمه- أن يغير لون أحد الأحذية، ثُمَّ يقول: قد سقط عنكم جهاد الإنجليز، والحكومة الإنجليزية هي التي تمثل الله في الأرض.
      وما كَانَ للأنبياء فهو أيضاً لأتباع الأنبياء، فلو قيل لأحدنا -مثلاً- من هو الخليفة الذي عذب الإمام أحمد؟ أو من هو قائد الشرطة أيام الإمام أَحْمَد؟ ومن هو الوالي الذي طرد البُخَارِيّ وأخرجه وآذاه؟! لما عرف هذه الأسماء إلا من تخصص وقرأ، بل لو قيل لأحدنا: من العلماء الذين كانوا في زمن شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ يناظرونه ووشوا به إِلَى السلطان فسجن من أجلهم؟! لما عرفهم أحد إلا من تخصص في التاريخ؛ لكن الإمام أَحْمَد أظهره الله ونصره، حتى عرفه الخاصة والعامة، وعرفوا أنه كَانَ صادقاً، وأنه عَلَى الحق. وكذلك الإمام البُخَارِيّ، والإمام شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رحمه الله تعالى الذي أصبح يعرفه أكثر الْمُسْلِمِينَ الآن في العالم، وقد ظهرت دعوته، وانتشرت كتبه، وقد مات وهو سجين وحيد في القلعة، لا يملك أي شيء، حتى أنهم جردوه من قلمه.
      فمن كَانَ عَلَى الحق فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- ينصره ويؤيده ولو بعد حين، ومن كَانَ عَلَى الباطل ونسبه إِلَى الله، وافترى الكذب عَلَى الله، وابتدع في دين الله ونسبه إليه، فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يفضحه ويخزيه، ويظهر للعالمين كذبه وزيف ما ادعاه وبطلانه، ولو بعد حين.
  2. التوحيد عند الصوفية

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [وإذا عرف أن توحيد الإلهية هو التوحيد الذي أرسلت به الرسل وأنزلت به الكتب، كما تقدمت إليه الإشارة، فلا يلتفت إِلَى قول من قسم التوحيد إِلَى ثلاثة أنواع، وجعل هذا النوع توحيد العامة، والنوع الثاني: توحيد الخاصة، وهو الذي يَثبُت بالحقائق، والنوع الثالث: توحيد قائم بالقِدم، وهو توحيد خاصة الخاصة، فإن أكمل النَّاس توحيداً الأَنْبِيَاء - صلوات الله عليهم- والمرسلون منهم أكمل في ذلك، وأولو العزم من الرسل أكملهم توحيداً وهم: "نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومُحَمَّد، صلى الله وسلم عليهم أجمعين".
    وأكملهم توحيداً الخليلان: مُحَمَّد وإبراهيم صلوات الله عليهما وسلامه، فإنهما قاما من التوحيد بما لم يقم به غيرهما علماً ومعرفةً وحالاً ودعوةً للخلق وجهاداً، فلا توحيد أكمل من الذي قامت به الرسل، ودعوا إليه، وجاهدوا الأمم عليه، ولهذا أمر سبحانه نبيه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقتدي بهم فيه، كما قال تَعَالَى بعد أن ذكر مناظرة إبراهيم قومه في بطلان الشرك، وصحة التوحيد وذكر الأَنْبِيَاء من ذريته: ((أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)) [الأنعام:90].
    فلا أكمل من توحيد من أُمر رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقتدي بهم.
    وكان صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا: {أصبحنا عَلَى فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد، وملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كَانَ من الْمُشْرِكِينَ}
    فملة إبراهيم: التوحيد، ودين مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما جَاءَ به من عند الله قولاً وعملاً واعتقاداً، وكلمة الإخلاص: هي شهادة أن لا إله إلا الله، وفطرة الإسلام هي: ما فطر عليه عباده من محبته وعبادته وحده لا شريك له، والاستسلام له عبوديةً وذلاً وانقياداً وإنابةً.
    فهذا هو توحيد خاصة الخاصة الذي من رغب عنه فهو من أسفه السفهاء، قال تعالى: ((وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) [البقرة:130-131]
    وكل من له حس سليم، وعقل يميز به، لا يحتاج في الاستدلال إِلَى أوضاع أهل الكلام والجدل واصطلاحهم وطرقهم ألبتة، بل ربما يقع بسببها في شكوك وشبه يحصل له بها الحيرة والضلال والريبة، فإن التوحيد إنما ينفع إذا سلم قلب صاحبه من ذلك، وهذا هو القلب السليم الذي لا يفلح إلا من أتى الله به] إهـ.

    الشرح:
    تدّعي الصوفية أن العلم علمان: علم الحقيقة وعلم الشريعة، فالشريعة هي ظاهر هذه الآيات: من القُرْآن والسنة، والأحكام الظاهرة التي نسميها نَحْنُ الشريعة يسمونها هم -أيضاً- الشريعة، ويقولون: إن الحقيقة أمر آخر غير الشريعة، وقد يثبت بالحقيقة ما لا يثبت بالشريعة، -وسبق أن ضربنا مثالاً لذلك- وهو استدلالهم بقصة الخضر مع موسى عليهما السلام، فإنهم قالوا: إن الشريعة لا تبيح أن تقتل نفس برئية، والشريعة لا تبيح أن تخرق مركب لمن قد أحسن إليك، والشريعة أيضاً لا تجيز أن الإِنسَان يذهب ويحسن إِلَى قوم لم يطعموه ولم يضيفوه ويبني هذا الجدار عندهم، إما أنها لا تجيز ذلك أو أنها لا تدعو إليه، فكيف فعل الخضر ذلك؟!
    يقولون: إن موسى كَانَ عَلَى الشريعة، وأما الخضر فإنه كَانَ عَلَى الحقيقة، وقد فندنا ذلك القول ولا داعي لإعادته، فالخلاصة أن كلاً منهما كَانَ عاملاً بالشريعة ولم يخالفها، وأما ما يسمى بالحقيقة فإنه لا وجود له إلا في أذهان الذين اختلقوه ليهدموا به الدين، فيقولون: الصلاة والزكاة والحج والجهاد هذه كلها من الشريعة، أما نَحْنُ فنحن أهل الحقائق. والذين يسمونهم الخاصة هم الذين يوحدون الله بتوحيد الحقيقة. كما سبق. حيث يقولون: إن غاية التوحيد هو إثبات الربوبية، ثُمَّ أن يترقى الواحد منهم في التوحيد حتى يرى من قوة توحيده أن الله تَعَالَى هو الفاعل لكل شيء، وأنه لا فعل لأحد معه عَلَى الإطلاق في هذا الكون، هذا هو غاية التوحيد عندهم.

    وتوحيد خاصة الخاصة: هو الحلول والاتحاد وهو أن لا يبقى ذات معبودة وذات عابدة، وإنما تصبح الذاتان ذاتاً واحدة -والعياذ بالله- وهذا هو الفناء وهو غاية السالكين كما يسمونه؛ لأن الطريق عندهم كالتالي:
    يبدء المرء مريداً، وهذا المريد يتعلم، ثُمَّ السالك يمشي في المقامات، ثُمَّ الواصل وهو الذي قد وصل وانتهى وفني وسقطت عنه التكاليف، فهذا يسمى الواصل.
    وعندما يبتدئ الإِنسَان عندهم يقولون له: عَلَى المريد أولاً: أن يلتزم بأحكام الشريعة، ويجب عليه أن يصلي وأن يصوم لأنه أولاً: لن يألف توحيد خاصة الخاصة لأن قلبه لم يتعود بعد عليه.
    ثانياً: حتى لا ينكر عليه العامة، إذ لو أنكروا عليه العامة في أول الطريق لهرب منهم، ولم يمشِ في الطريق، ففي أول الطريق يعمل بالأحكام الظاهرة، التي هي الشريعة الظاهرة من إقامة الصلاة ونحو ذلك كما يعمل النَّاس وهذا هو توحيد العامة عندهم، ولكنه يترقى بالأفكار التي يعطونه وكل طريقة تعطيه كما تشاء، حتى يصبح من أهل الحقيقة فإذا أصبح من أهل الحقيقة فإن التكاليف تتحول عنده من تكاليف صلاة وصيام ونحو ذلك، إِلَى أذكار وأوراد وعبادات يملونها هم عليه، ثُمَّ يترقى حتى يصبح من أهل الفناء ومن أهل الشهود، وهَؤُلاءِ هم أهل وحدة الوجود -والعياذ بالله- فيرى نفسه أنه هو الخالق والمخلوق عياذاً بالله فلا يبقى هناك ذاتان منفصلتان، وإنما ذات واحدة، وهذا من أعظم أنواع الكفر، وأبو حامد الغزالي-غفر الله له- قد رجع عن هذا في آخر حياته، وندم عَلَى ما فرط منه، لكن نقول: إن أبا حامد عندما ذكر هذه الأشياء ذكرها كمصدر من مصادر الحقيقة ومصادر المعرفة، ولم يكن مستيقناً من لوازم هذا القول وما ينبني عليه، لأنه يقول كما ذكر في الإحياء: كيف يترقى الإِنسَان لينتقل من كونه من أصحاب توحيد العامة [من أصحاب الشريعة] إِلَى أن يكون من أصحاب الحقيقة، يقول: إما أن يذهب إِلَى جبل أو إِلَى مغارة يختبئ فيها ويذكر الله حتى يأتيه الكشف، فإن لم يستطع فليأخذ كساء أسوداً غليظاً ويلفه عَلَى رأسه، وبهذا يكون قد اختلى ويظل يردد ويقول: الله الله الله وغيرها من الأذكار حتى يأتي الكشف، فمثل هذا الكلام من الإمام أبي حامد الغزالي والهروي شيء غريب جداً لكن نحسن الظن بهم لأنهم لم يكونوا يدركون ماذا سيترتب عَلَى هذا الكلام، فإنه كَانَ سبباً لأن يأتي بعدهم الملاحدة الذين كشفوا القناع وصرحوا بذلك، وقد كَانَ قبلهم من صرح بذلك، ولكن أكثر المتأخرين يعتمدون عَلَى كتاب الهروي منازل السائرين الذي شرحه ابن القيم في كتابه مدارج السالكين، وكتاب أبي حامد الغزالي إحياء علوم الدين وكذلك المنقذ من الضلال، وكذلك الرسائل الأخرى التي جمعت وطبعت وفيها من هذا الكلام.
    1. الرد عليهم

      ونرد عَلَى هَؤُلاءِ جميعاً وهذا هو الذي يهمنا بأن أكمل النَّاس توحيداً هم الخليلان كما قال الإمام مالك: مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإبراهيم عَلَيْهِ السَّلام هما أكمل النَّاس توحيداً، فليس هناك رقي ولا ترقي في التوحيد بحيث يكون الإِنسَان أعظم من مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام، ومع ذلك: فإن دين الخليل ودين مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو إفراد الله بالعبادة، أي توحيد الألوهية وهو عبادته تَعَالَى إِلَى أن يأتي الموت كما قال تعالى: ((وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ))[الحجر:99] أي: لا تنفك عن عبادته تَعَالَى إِلَى أن يدركك الموت، فما دمت عبداً حياً فوصف العبودية لا ينفك عنك مطلقاً، أما ما يقال من الحقيقة والفناء أو من الشهود، فهذه مصطلحات بدعية شركية لم يعرفها الخليلان ولم يعرفها أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بعده، ولم يعرفها أولوا العزم من الرسل، وإنما هذه بدع وضلالات ابتدعها هَؤُلاءِ القوم وأدخلوها في دين الإسلام، فهل كَانَ فيما حققوه أنهم جعلوا التوحيد ثلاثة أقسام، توحيد العامة، وتوحيد الخاصة، ثُمَّ توحيد خاصة الخاصة؟
      بل وإنما كانت الدعوة إِلَى عبادة الله، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعبد الله أمام أصحابه، وكان أصحابه يقتدون به في عبادته، وهكذا كَانَ الأَنْبِيَاء من قبل ولم يكن أحد منهم أبداً عَلَى هذا التوحيد الذي هو مجرد ذكر أو ترانيم، توصل صاحبها إِلَى ما يسمى بالفناء المزعوم، قال تعالى:
      ((وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) [البقرة:130-131] وفي الحديث الذي أخرجه الدارمي وابن السني أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يعلم أصحابه ويقول: {أصبحنا عَلَى فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وملة إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كَانَ من الْمُشْرِكِينَ} ويستدل المُصنِّف بمعناه، ومعناه صحيح من حيث إن ملة إبراهيم هي دين مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا شك في ذلك وهي كلمة التوحيد التي جعلها إبراهيم في عقبه كما قال تعالى: ((وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ))[الزخرف:28] وهي الشهادة شهادة أن لا إله إلا الله كلمة التوحيد فبين المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ أن هَؤُلاءِ الصوفية ومن ادَّعى هذه الدعوى قد افتروا عَلَى الله الكذب حين قسموا التوحيد إِلَى هذه الأنواع الثلاثة، وأما القسمة الصحيحة الحقيقية للتوحيد فهي أن نقول: إنه توحيدان توحيد خبري علمي اعتقادي، الذي هو توحيد المعرفة أي توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد عملي طلبي إرادي وهو توحيد الألوهية، أي: توحيد العبادة، وأيضاً قلنا: إن المُصنِّف قال إن هناك توحيدان -أي باعتبار آخر- توحيد المرسِل، وهو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتوحيد المرسَل أي: متابعة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنوحد الله تَعَالَى بالطاعة والعبادة بأن نعبده وحده، ونوحد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالاقتداء فلا نقتدي بأحد غيره.
    2. شرح أبيات الإمام الهروي والرد عليها

      ثُمَّ قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ :
      [ولا شك أن النوع الثاني والثالث من التوحيد الذي ادعوا أنه توحيد الخاصة وخاصة الخاصة، ينتهي إِلَى الفناء الذي يشمر إليه غالب الصوفية، وهو درب خطر، يفضي إِلَى الاتحاد. انظر إِلَى ما أنشده شَيْخ الإِسْلامِ أبو إسماعيل الأنصاري رحمه الله تعالى حيث يقول:
      ما وحد الواحد من واحد            إذ كل من وحده جاحد
      توحيد من ينطق عن نعته            عارية أبطلها الواحد
      توحيده إياه توحيده            ونعت من ينعته لاحد

      وإن كَانَ قائله رَحِمَهُ اللَّهُ لم يرد به الاتحاد، لكن ذكر لفظاً مجملاً محتملاً جذبه به الاتحادي إليه، وأقسم بالله جهد أيمانه أنه معه، ولو سلك الألفاظ الشرعية التي لا إجمال فيها كَانَ أحق، مع أن المعنى الذي حام حوله لو كَانَ مطلوباً منا لنبه الشارع عليه، ودعا النَّاس إليه وبينه، فإن عَلَى الرَّسُول البلاغ المبين، فأين قال الرسول: هذا توحيد العامة، وهذا توحيد الخاصة، وهذا توحيد خاصة الخاصة؟ أو ما يقرب من هذا المعنى؟ أو أشار إليه؟‍! هذه النقول والعقول حاضرة.
      فهذا كلام الله المنزل عَلَى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه سنة الرسول، وهذا كلام خير القرون بعد الرسول، وسادات العارفين من الأئمة، هل جَاءَ ذكر الفناء فيها، وهذا التقسيم عن أحد منهم؟ وإنما حصل هذا من زيادة الغلو في الدين، المشبه لغلو الخوارج، بل لغلو النَّصَارَى في دينهم.
      وقد ذم الله تَعَالَى الغلو في الدين ونهى عنه، فَقَالَ تعالى: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً))[النساء:171] ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ)) [المائدة:77].
      وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تشددوا فيشدد الله عليكم، فإن من كَانَ قبلكم شددوا فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم} رواه أبو داود] اهـ

      الشرح:
      كما ذكر المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ، أن القول بقسمة التوحيد إِلَى ثلاثة أقسام يفضي إِلَى القول بالحلول والاتحاد وقد ذكر المُصنِّف عَلَى ذلك مثالاً: فالأبيات التي ذكرها الهروي في كتابه منازل السائرين يقول:
      ما وحد الواحد من واحد
      الواحد هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أي: [لم يوحده أحد].
      إذ كل من وحده جاحد
      فيحكم بأن كل من وحد الله فهو جاحد
      توحيد من ينطق عن نعته            عارية أبطلها الواحد
      يقول: إن توحيد من ينطق عن نعته أي: كل من تكلم في التوحيد وفي صفات التوحيد من النَّاس فإن هذا التوحيد عارية أبطلها الواحد الذي هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فلا حقيقة لتوحيد هَؤُلاءِ القوم.
      توحيده إياه توحيده
      "توحيده" الأولى مبتدأ، و"توحيده" الثانية خبر، فتوحيد الله لنفسه هو التوحيد [توحيده إياه توحيده] حقيقة توحيده هو ما وحد به نفسه لا ما وحده غيره.
      ونعت من ينعته لاحد
      أي أن وصف غير الله له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلحاد، ونستطيع أن نرد عَلَى هذه الأبيات كما رد عليها ابن القيم في المدارج وهو قول الله تعالى: ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)) [آل عمران:18] ثُمَّ قال بعد ذلك:
      ((وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ)) فأثبت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن الملائكة وأن أولى العلم وحدوه أي شهدوا له بالوحدانية فمن يقول: إنه لم يوحد الله أحد، وأن من وحده أو نعته فإنه ملحد جاحد، فهو مكذب لهذه الآية، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد بين أن عباده يوحدونه، بل إن ابن القيم رحمه الله تعالى يقول: "إن الأرض والسماء نفسها هذه هي التي تسبح الله ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ))[الإسراء:44] فهي نفسها توحد الله وتعبده
      فهذا نقض لهذا الكلام الذي ذكر فيه أن لا شيء يوحد الله لا الأنبياء، ولا العباد الصالحون، ولا مخلوقات الله التي تسبح الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحده والآيتان دليل عَلَى بطلان هذا القول، والذي أوقع الهروي في هذا هو الغلو في فهم التوحيد، حتى ظن أن حقيقة التوحيد -الذي في ذهنه- أمر خفي عميق بعيد لا يدركه أحد، ومن هذا المنطلق -منطلق الغلو مع الابتعاد عن نصوص الكتاب والسنة- وقع فيما وقع فيه أهل الكتاب لقوله بهذا القول الذي تبطله الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة.
      وجاء أهل الحلول والاتحاد، وتعلقوا بهذه الأبيات وَقَالُوا: إن الهروي كَانَ من أهل الحلول والاتحاد، لأنه يقول: إن الله لم يوحده أحد غيره، فهو الذي وحد نفسه إذاً كل البشر لا يوحدون الله، والذي يعرف حقيقة التوحيد -كما قالوا- هو من يؤمن بوحدة الوجود، أي: من يؤمن بالحلول والاتحاد، فهذا الكلام دليل لهم.
      يقول المصنف: [وإن كَانَ قائله رَحِمَهُ اللَّهُ لم يرد به الاتحاد] نعم الهروي إنما أراد الغلو في مفهوم التوحيد ولم يرد حقيقة الاتحاد؛ لكنه لما جَاءَ بهذا الكلام الباطل الذي أبطله القُرْآن وأبطلته السنة جَاءَ الاتحادي فنسبه إليه وادعاه، ولا يهمنا أن يكون الهروي أراد هذا أو لم يرده وإن كَانَ الظاهر من سيرة الرجل أنه كَانَ آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، وكان من المثبتين لصفات الله تعالى، وإنما المأخذ عليه هو أنه مشى عَلَى منهج الصوفية، وأخذ اصطلاحاتهم في المقامات والأحوال والمنازل والإشارات، لكن لا يهمنا ذلك بقدر ما يهمنا أن هذه المعاني باطلة، وأن التوحيد الحقيقي الذي هو توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد قام به الأَنْبِيَاء أكبر قيام ومنهم الخليلان إبراهيم ومُحَمَّد صلى الله عليهما وعلى أنبيائه أجمعين، وقام به أصحابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
      وأننا يجب علينا أن نبتعد عن الغلو في الدين، حتى ولو كَانَ غلواً في التوحيد فلا نعمل ولا نقول إلا بما ثبت في القُرْآن أو في السنة.
      وأما الغلو فإنه قد أهلك أهل الكتاب من قبلنا، وقد أهلك هَؤُلاءِ الذين ظنوا أنهم بهذه التعقديات والتجريدات والخيالات والشطحات، يوحدون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق توحيده، ويعرفون قدره وعظمته، ويظنون أن من تعظيم الله أن يقولوا: إن الله لن يوحده أحد، ونحن نقول: من تعظيم الله عَزَّ وَجَلَّ أن نقول: إننا لم نعبد الله حق عبادته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونقر بأننا لا نعرف الله حق معرفته ولا نقدر الله حق قدره؛ لأن هذه درجة عالية عظيمة، ولكن نسأل الله أن نحقق ذلك في أنفسنا، وأن يتحقق لنا، ونسعى في ذلك ونرجوه.
      أما أن نقول: إنه لم يوحده أحد، وأن كل من نعته أو وصفه فإنه ملحد، فهذا غلو فاحش باطل، وهذا هو الفرق بين اعتراف المؤمن بالتقصير، وأنه لم يعرف الله حق معرفته، ولم يعبده حق عبادته ولم يتقه حق تقاته، وبين من يقول: إنه لم يوحده ولن يوحده أحد مطلقاً وإنما توحيده إلحاد، ووجه استدلال المُصنِّف رحمه الله تعالى في الرد عَلَى الأبيات هو في قوله تعالى:
      ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ))[المائدة:77] أي: أن هذه نتيجة الغلو، وبقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي رواه أبو داود {لا تشددوا فيشدد الله عليكم} فإن هذا نهي عن التشدد حتى في مفهومات الإيمان والتوحيد ولذلك وقع الخوارج في تكفير الْمُسْلِمِينَ بسبب هذا التشدد، والله أعلم.