لقد دخل عَلَى الغزالي الداء العضال من قبل شيخه الإمام الكبير المشهور أبي المعالي الجويني، وشيخه هذا عَلَى شهرته وإمامته في مذهب الشافعية، وقع في الخطأ الكبير كما قال عن نفسه في الرسالة النظامية: لقد ركبت البحر الخضم، وخضت في الذي نهى عنه علماء الإسلام، وهو علم الكلام، وفي آخر المطاف تمنى أن يموت عَلَى عقيدة عجائز نيسابور، ولا يموت عَلَى علم الكلام والجدل الذي تعلمه وأضاع عمره فيه، فهل اتعظ التلميذ؟ كلا لم يتعظ.
لقد علَّم أبو المعالي تلميذه الشك؛ لأن علم الكلام كما قال الغزالي: يولد الشك والحيرة، مع أن الغزالي من قوة ذكائه، وبراعته في العلم كَانَ يفتي الناس، وأصبح طلاب العلم يتوافدون، ويتزاحمون عَلَى منبره وعلى بابه، ومع ذلك كَانَ الشك في قلبه، والنَّاس يسمعونه يفتي في الفقه وفي الأحكام من الخارج ولا يدرون بحقيقة هذا الشك، فـالغزالي احتار وقَالَ: أين نجد اليقين الذي لا يعدله شيء في الدنيا؟ فليحمد الإِنسَان الله عَزَّ وَجَلَّ إذا وفق لليقين وللإيمان، وللاعتقاد الصحيح.
أما أهل الحيرة والشك، فلا يشبعهم في هذه الدنيا أي متاع أبداً، مادام عنده شك في دينه، مثل الفلاسفة، واليهود والنَّصَارَى والشيوعيين وأمثالهم يفكرون ليلاً ونهاراً في هذه المجرات يُقَالَ: إنها بالملايين وأعمارها بالملايين: ما الهدف منها؟ أشياء كثيرة محيرة لا حل ولا علاج لها إلا باليقين وبالإيمان الذي يأتي نتيجة قراءة كتاب الله وسنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فهذا أبو حامد وُلد عَلَى الفطرة، ولكن علم الكلام أفسده عن طريق الشيخ الإمام أبي المعالي فهذا الشك جعل أبو حامد يقول: -كما ذكر عن نفسه في كتابه المنقذ من الضلال-: فكرت وفكرت فقلت: إن الحق لا يخرج عن أربعة أصناف - المتكلمون: أهل علم الكلام لعل الحق عندهم، واليقين يُستفاد عن طريقهم، ثُمَّ الباطنية، وهَؤُلاءِ قد سبق أن تحدثنا عنهم حيث يقولون: إنهم تلقوا العلم والهدى عن طريق الإمام المعصوم، وأهل الكلام يقولون: اليقين يتلقى عن طريق العقل والبحث، ثُمَّ الفلاسفة: قال أبو حامد: لو دخلت في الفلسفة ربما اهتديت ووجدت اليقين، ثُمَّ الصوفية.
أما علماء الإسلام من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فلم يأتِ بهم؛ لأنه تعلم من علم الكلام: أن إيمان العوام، وإيمان النَّاس بالدين، وبالأدلة السمعية، مجرد تقليد والعياذ بالله، قالوا: هذا اليهودي يأخذ اليهودية عن أبيه عن جده، والمسلم يأخذها عن أبيه عن جده، فأغفلوه عن الحق ونسي أن في هذا الدين اليقين، وأنه دين الفطرة، وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بالهدى التام، وبالحق الكامل، الذي يغني عما عند المتكلمين والباطنية والفلاسفة والصوفية، لكن هذه هي بداية الانحراف، وبداية الزلل، فقد كانت هذه الأشياء كلها تتفاعل في نفس الغزالي

ومع ذلك هو يعلم ويفتى النَّاس ويتحدث إليهم، وهؤلاء النَّاس لا يدرون، فأقبل عَلَى كتب المتكلمين، فأخذ منه ونهل كما قَالَ: حتى بلغ فيه درجة عليا، وأخيراً لم يجد فيه اليقين، لأنها نفسية حساسة شفافة، وفي منتهى الذكاء والفهم، وجد فيه تناقضاً واضطراباً فرفضه، بعد أن ألف فيه كتباً وقَالَ: إنه علم عظيم.
ودخل في الباطنية، ولم يجد عندهم إلا الشر والشؤم والكفر والضلال المحض، فرفضهم ورفض ما هم عليه، ثُمَّ دخل في الفلسفة مع أنه رد عَلَى الفلاسفة في كتاب سماه تهافت الفلاسفة وهو من أكبر الردود عليهم، وكفَّرهم، لكنه دخل وتعمق فيهم، وأخيراً قال:لم أجد اليقين.
ودخل في الصوفية أخيراً، ولما كتب كتابه المنقذ من الضلال الذي هو في نظره التصوف يقول فيه: الآن وجدت الحق وعرفت الطريق، وأن الهدى واليقين لا يُتلقى لا عن طريق العقل كما يقول علماء الكلام، ولا عن طريق الإمام المعصوم كما تقول الباطنية، ولا عن طريق الفلسفة، وإنما يتلقى اليقين عن طريق الكشف والذوق والوجد وهذا هو مصدر الحق واليقين، ثُمَّ بعد أن تعمق في التصوف كتب: إحياء علوم الدين وهو أجل وأكبر كتب أبي حامد الغزالي في هذه الفترة التي رأى أنه لا بد أن ينتقل فيها إِلَى التصوف.