المادة كاملة    
إن دليل الفطرة من أقوى الأدلة على إثبات علو الله تعالى، والذين ينفون العلو ليس لهم دليل صحيح يتمسكون به، وغاية ما عندهم إما تأويلات فاسدة، وإما أحاديث ضعيفة أو موضوعة، وهم يعارضون الفطر السليمة، وقد جاءت شريعة الله لتقريرها وتكميلها لا لتغييرها وتبديلها، ويفسدون اعتقاد الناس في ربهم وخالقهم بما تلبسوا به من أقوال فلاسفة اليونان ومذاهب الصابئة.
  1. دليل الفطرة في إثبات العلو

     المرفق    
    قد استوفى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الرسالة العرشية الأوجه الشرعية والعقلية في مسألة العرش، وبين بياناً شافياً كافياً كل شبهة داحضاً إياها وكاشفاً عنها، وقد ذكر في الوجه الثاني أن الإنسان إذا قصد السفل كان قصده ينتهي إلى المركز، وإن قصد اليمين أو الشمال أو أي جهة أخرى، فإن منتهى قصده هو أجزاء الهواء المتناثر، وقد أوضحنا أن الإنسان لو طلب دعاء الله تبارك وتعالى من غير جهة العلو -وهو سبحانه فوق المخلوقات عالٍ عليها من كل جهة- لكان كمن هو في المغرب ويسلك طريق الحج غرباً حتى يصل خراسان، ثم يتجه منها إلى مكة !
    وذلك ممكن عقلاً؛ لكنه منتف طبعاً وفطرة؛ فالإنسان بفطرته يميل إلى الاختصار، وهذا كله من باب التقريب والتبسيط العقلي، ليعلم أولئك المجادلون وأصحاب الشبهات أن طلب العلو عند الدعاء هو الأصل شرعاً، وأنه هو المركوز في الفطرة، وأن الشبهات التي تثار حول ذلك لا قيمة لها.
    ويستطرد شيخ الإسلام بعد ذلك مبيناً أن التوجه إلى الله تعالى من غير طريق العلو -وإن كان في النهاية يصل إلى العرش باعتبار أن العرش محيط بالمخلوقات- توجه من غير الطريق المستقيم.
    يقول ابن تيمية رحمه الله: "وإذا توجه إليه على غير الصراط المستقيم كان سيره منكوساً معكوساً، وأيضاً فإن هذا يجمع في سيره وقصده بين النفي والإثبات، بين أن يتقرب إلى المقصود ويتباعد عنه، ويريده وينفر عنه، فإنه إذا توجه إليه من الوجه الذي هو عنه أبعد وأقصى، وعدل عن الوجه الأقرب الأدنى، كان جامعاً بين قصدين متناقضين": القصد الأول: هو الوصول إليه من أقرب طريق، والقصد الثاني: هو سلوك الطريق الأطول؛ فهذان قصدان متناقضان.
    قال رحمه الله: "فلا يكون قصده له تاماً؛ إذ القصد التام ينفي نقيضه وضده، وهذا معلوم بالفطرة".
    ثم يستطرد رحمه الله كعادته مبيناً أموراً أهم في هذا الباب، فيقول: "فإن الشخص إذا كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم محبةً تامةً ويقصده، أو يحب غيره ممن يحب -سواء كانت محبته محمودة أو مذمومة- متى كانت المحبة تامة، وطلب المحبوب، طلبه من أقرب طريق يوصل إليه" فانظر فقه هذا الرجل ووعظه رحمة الله عليه، فقد ضرب المثال بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها أعظم وأشرف أنواع المحبة بعد محبة الله تعالى، ثم قال: "أو يحب غيره ممن يحب" أي: يمكن أن يكون محبوباً يحبه من يعرفه؛ سواء كان هذا المحبوب إنساناً أو شيئاً؛ وسواء كانت تلك المحبة مذمومة أو محمودة شرعاً؛ فإنه إذا طلب محبوبه، فإنه يطلبه دائماً من أقصر وأقرب طريق يقول: "بخلاف ما إذا كانت المحبة مترددة؛ مثل أن يحب ما تكره محبته في الدين؛ فتبقى شهوته تدعوه إلى قصده، وعقله ينهاه عن ذلك، فتراه يقصده من طريق بعيد؛ كما تقول العامة: (رِجْل إلى قدام ورِجْل إلى خلف" وهذا مثل عامي ينطبق على واقع الإنسان الذي يتجاذبه دافعان؛ فدافع الشهوة يدعوه إلى فعل ما حرم الله، ودافع العقل -أو الواعظ الذي في قلب كل مؤمن- ينهاه عن ذلك.
    يقول: "وكذلك إذا كان في دينه نقص، وعقله يأمره بقصد المسجد أو الجهاد، أو غير ذلك من القصودات التي تحب في الدين -يعني: المقصودات التي تكون محبوبة شرعاً- وتكرهها النفس، فإنه يبقى قاصداً لذلك من طريق بعيد متباطئاً في السير.
    وهذا كله معلوم بالفطرة.
    وكذلك إذا لم يكن القاصد يريد الذهاب بنفسه، بل يريد خطاب المقصود ودعاءه ونحو ذلك، فإنه يخاطبه من أقرب جهة يسمع دعاءه منها، وينال به مقصوده، إذا كان القصد تاماً".
    فالله تبارك وتعالى أحاط سمعه بالأصوات جميعاً، وهو يسمع كل من دعاه ومن ناداه، وهو مع كل إنسان أينما كان بعلمه سبحانه وتعالى، فلا تخفى عليه خافية، أما بالنسبة للعبد نفسه، فإنه يتحرى أن يدعو الله سبحانه وتعالى من أقرب طريق يوصل إليه.
    ثم يضرب رحمه الله مثالاً من الواقع فيقول: "ولو كان رجل في مكان عالٍ" على ظهر جبل مثلاً "وآخر يناديه، لتوجه إليه وناداه" يناديه وهو متوجه إليه بوجهه "ولو حط رأسه في بئر، وناداه بحيث يسمع صوته" بحيث يسمع الذي في رأس الجبل صوته "لكان هذا ممكناً" يعني أن هذا الشيء يمكن وقوعه عقلاً "ولكن ليس في الفطرة أن يفعل ذلك من يكون قصده إسماعه من غير مصلحة راجحة، ولا يفعل نحو ذلك إلا عند ضعف القصد ونحوه".
  2. تخريج حديث الإدلاء والحكم عليه

     المرفق    
    حديث الإدلاء يكثر كلام الناس عنه، ويستدل به المؤولون من الأشعرية والمعتزلة والجهمية وغيرهم، ويقولون: هذا دليل على أن أهل السنة حشوية ومشبهة ومجسمة .. إلى آخر ما يقولون، ولا سيما وقد رواه إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله تعالى عليه، ورواه كذلك الترمذي رحمه الله تعالى.
    يقول شيخ الإسلام: "وحديث الإدلاء الذي روي من حديث أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما؛ قد رواه الترمذي وغيره من حديث الحسن البصري عن أبي هريرة، وهو منقطع؛ فإن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، ولكن يقويه حديث أبي ذر المرفوع".
    ورواية الحسن عن أبي هريرة في سنن الترمذي؛ يقول الترمذي: حدثنا عبد بن حميد وغير واحد -المعنى واحد- قالوا: أخبرنا يونس بن محمد أخبرنا شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة، قال: حدث الحسن عن أبي هريرة قال: { بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه، إذ أتى عليهم سحاب، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: هل تدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا العنان؛ هذه روايا الأرض} العنان يطلق على السحاب في اللغة، والروايا جمع راوية وهي: القربة التي يكون فيها الماء.
    يقول صلى الله عليه وسلم: { هذا العنان؛ هذه روايا الأرض؛ يسوقه الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه، ثم قال: هل تدرون ما فوقكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها الرقيع؛ سقف محفوظ وموج مكفوف، ثم قال: هل تدرون كم بينكم وبينها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: بينكم وبينها خمسمائة سنة، ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن فوق ذلك سماءين ما بينهما مسيرة خمسمائة عام، حتى عدَّ سبع سماوات ما بين كل سماءين ما بين السماء والأرض، ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن فوق ذلك العرش، وبينه وبين السماء -يعني السماء العليا- بعد ما بين السماءين، ثم قال: هل تدرون ما الذي تحتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها الأرض، ثم قال: هل تدرون ما الذي بعد ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن تحتها أرضاً أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة، حتى عد سبع أرضين، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة، ثم قال: والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل -ولهذا سمي هذا الحديث حديث الإدلاء- إلى الأرض السفلى، لهبط على الله، ثم قرأ: ((هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ))[الحديد:3]}.
    قال الترمذي رحمه الله: هذا حديث غريب من هذا الوجه، ويروى عن أيوب، ويونس بن عبيد، وعلي بن زيد، قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة -أي لم يلق أبا هريرة- وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث، فقالوا: إنما هبط على علم الله وقدرته وسلطانه.. وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان، وهو على العرش كما وصف في كتابه".
    والترمذي رحمه الله حاله كحال أئمة السنة جميعاً من الصحابة والتابعين، وكأن الترمذي بكلامه يعترض على ما قاله هؤلاء الذين ثقل قولهم في معنى الحديث، ومع هذا فالحديث غير ثابت؛ ففيه انقطاع بين الحسن وأبي هريرة، يقول شيخ الإسلام: "وهو منقطع؛ فإن الحسن لم يسمع من أبي هريرة".
    والإمام أحمد رحمه الله رواه من حديث أبي هريرة أيضاً في الجزء الثاني صفحة (370) من المسند بنفس السند أيضاً.
    يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "ولكن يقويه حديث أبي ذر المرفوع".
    وقد ورد حديث أبي ذر في كتاب العرش للحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة، وهو الحديث السابع عشر، يقول: "حدثنا إبراهيم بن أبي معاوية، وهناد قالا: أبو معاوية عن الأعمش عن أبي نصر عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما بين الأرض إلى السماء مسيرة خمسمائة سنة، غلظ كل سماء خمسمائة سنة، وما بين كل سماء إلى السماء التي تليها مسيرة خمسمائة سنة، والأرضين مثل ذلك، وما بين السماء السابعة إلى العرش مثل جميع ذلك كله}.
    يقول المحقق: ضعيف أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات صفحة (506)، ورواه عنه الجوزقاني في الأباطيل صفحة (63)، وابن الجوزي في العلل المتناهية، وذكره الذهبي في تذكرة الحفاظ؛ يقول: وزادوا: {ولو حفرتم لصاحبكم ثم دليتموه لوجد الله ثمة}" فهو إذاً يوافق حديث أبي هريرة في ورود الإدلاء.
    يقول: "قال البيهقي: وروي من وجه آخر منقطع عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعاً فذكره، وقال الذهبي في التذكرة: أبو نصر لا يعرف والخبر منكر، وقال في الميزان: أبو نصر عن أبي ذر لا يدرى من هو، روى عنه الأعمش خبر: {لو دليتم صاحبكم بحبل لهبط} قال: وأخرجه البزار، وأيضاً صاحب الأباطيل " إلى أن قال: "دون قوله: ولو حفرتم".
    وعلى هذا فإن الحديث ضعيف، وهو منكر كما قال الذهبي رحمه الله.
    وما دام هذا حاله فلا يقوي ذلك الحديث الضعيف؛ يراجع كتاب العرش وكتاب العلل المتناهية والتذكرة .
    1. توجيه حديث الإدلاء على فرض صحته

      يقول شيخ الإسلام : "فإن كان ثابتاً فمعناه موافق لهذا" يعني أن أي خط مستقيم يخرق الأرض متوجهاً إلى الأسفل، فلابد أن يمر من المركز ثم من المركز إلى العلو مرة أخرى حتى يصل إلى العرش.
      يقول: "فإن قوله: {لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله } إنما هو تقدير مفروض؛ أي لو وقع الإدلاء لوقع عليه، لكنه لا يمكن أن يدلي أحد على الله شيئاً؛ لأنه عالٍ بالذات، وإذا هبط شيء إلى جهة الأرض، وقف في المركز، ولم يصعد إلى الجهة الأخرى، لكن بتقدير فرض الإدلاء يكون ما ذكر من الجزاء ".
      وهنا نقف عند قضية، وهي أن بعض الناس يحتج بالحديث السابق على أن هناك سبع أرضين، وهذا صحيح، وأن ما بين كل أرض وأرض مسيرة خمسمائة عام -أي: بينهما فراغ مثل ما بين السماء والأرض- وهذا غير صحيح، فالحديث لم يصح أولاً، ثم يرده ما هو معلوم في علم الهيئة من أن الأرض ليست بهذا الشكل، وإنما هي كوكب كالكواكب، وهي كروية الشكل، أو قريبة من البيضة؛ كما سيأتي في شرح كلام شيخ الإسلام.
      ثم يقول رحمه الله: "فهكذا ما ذكره السائل: إذا قدر أن العبد يقصده من تلك الجهة، كان هو سبحانه يسمع كلامه، وكان متوجهاً إليه بقلبه لكن هذا مما تمنع منه الفطرة".
      كان نص سؤال المستفتي: "فما فائدة أن العبد يتوجه إلى الله تعالى حين دعائه وعبادته، فيقصد العلو دون غيره، ولا فرق حينئذٍ بين قصد جهة العلو وبين غيرها من الجهات التي تحيط بالداعي؟" فأجابه شيخ الإسلام رحمه الله بأن الداعي لو أنه فعل ذلك، وتوجه إلى الله بقلبه، وقصد جهة أخرى غير جهة العلو، لسمعه الله عز وجل، لكن هذا مما تمنع منه الفطرة.
      لأن قصد الشيء القصد التام ينافي قصد ضده؛ فكما أن الجهة العليا بالذات تنافي الجهة السفلى؛ فكذلك قصد الأعلى بالذات ينافي قصده من أسفل، وكما أن ما يهبط إلى جوف الأرض يمتنع صعوده إلى تلك الناحية -يعني الناحية نفسها التي هبط منها- لأنها عالية، فترد الهابط بعلوها، كما أن الجهة العليا من عندنا ترد ما يصعد إليها من الثقيل، فلا يصعد الثقيل إلا برافع يرفعه؛ يدافع به ما في قوته من الهبوط إلى المركز"، وكلام شيخ الإسلام رحمة الله عليه هو واضح الآن في علم الحركة وقانون الجاذبية.
      يقول: "فكذلك ما يهبط من أعلى الأرض إلى أسفلها؛ وهو المركز؛ لا يصعد من هناك إلى ذلك الوجه إلا برافع يرفعه؛ يدافع به ما في قوته من الهبوط إلى المركز، فإن قدر أن الدافع أقوى كان صاعداً به إلى الفلك من تلك الناحية وصعد به إلى الله"؛ فهي حركة في اتجاه العلو.
      ثم يقول: "وإنما يسمى هبوطاً باعتبار ما في أذهان المخاطبين" يعني أنه يسمى هبوطاً، وذلك باعتبارنا نحن؛ لأن بداية الخط كانت من جهتنا حتى وصل المركز، ثم خرج من الطرف الآخر للأرض، وإذا به في بقعة أخرى منها، فيرى في حال صعوده أن السماء فوقه، وفوق ذلك العرش، وفوق العرش رب العالمين سبحانه وتعالى؛ فهو يسمى هبوطاً أو إدلاءً باعتبار نقطة البداية.
      يقول: "وإنما يسمى هبوطاً باعتبار ما في أذهان المخاطبين أن ما يحاذي أرجلهم يكون هابطاً، ويسمى هبوطاً مع تسمية إهباطه إدلاءً، وهو إنما يكون إدلاءً حقيقياً إلى المركز، ومن هناك إنما يكون مداً للحبل" يعني أن الحبل بعد أن يصل إلى المركز لا يمكن أن يصعد إلى الجهة الأخرى إلا بقوة رافعة؛ وكما أن إنزاله من هذه الجهة يكون بقوة ضاغطة، فكذلك إخراجه من الجهة الأخرى يكون بقوة رافعة.
      يقول: "وهو إنما يكون إدلاءً حقيقياً إلى المركز، ومن هناك إنما يكون مداً للحبل والدلو؛ لا إدلاءً له؛ لكن الجزاء والشرط مقدران لا محققان".
      يعني أن هذه العملية كلها عملية تقدير وافتراض ذهني ليس أكثر من ذلك.
      يقول: "فإنه قال: (لو أدلى لهبط) أي: لو فرض أن هناك إدلاءً، لفرض أن هناك هبوطاً، وهو يكون إدلاءً وهبوطاً؛ إذا قدر أن السماوات تحت الأرض، وهذا التقدير منتفٍ، ولكن فائدته بيان الإحاطة والعلو من كل جانب" فإن السماء محيطة بالأرض إلى السماء السابعة، ثم العرش؛ إن كان كروياً -كما هو رأي الفلاسفة- فإنه يحيط بجميع المخلوقات، لا على الافتراض الآخر وهو أنه كالقبة فوق جميع المخلوقات.
      يقول: "فلا يتصور أن يدلى، ولا يتصور أن يهبط على الله شيء، لكن الله قادر على أن يخرق من هنا إلى هناك بحبل، ولكن لا يكون في حقه إدلاءً؛ فلا يكون في حقه هبوطاً عليه -سبحانه وتعالى- كما لو خرق بحبل من القطب إلى القطب أو من مشرق الشمس إلى مغربها، وقدَّرنا أن الحبل مر في وسط الأرض بالمركز، فإن الله قادر على ذلك كله -سبحانه وتعالى- ولا فرق بالنسبة إليه على هذا التقدير من أن يخرق من جانب اليمين منا إلى جانب اليسار، أو من جهة أمامنا إلى جهة خلفنا، أو من جهة رءوسنا إلى جهة أرجلنا؛ إذا مر الحبل بالأرض، فعلى كل تقدير قد خرق بالحبل من جانب المحيط إلى جانبه الآخر مع خرق المركز، وبتقدير إحاطة قبضته بالسماوات والأرض، فالحبل الذي قدر أنه خرق به العالم وصل إليه، ولا يسمى شيء من ذلك بالنسبة إليه إدلاءً ولا هبوطاً"، وهذا الكلام كله على فرض صحة الحديث، فلو ثبت فهذا الكلام يفسره ويوضحه والحمد لله.
      يقول: "وأما بالنسبة إلينا، فإن ما تحت أرجلنا تحت لنا" السائل يستفسر: لماذا نتوجه إلى الله طالبين العلو ونجد ذلك ضرورة في قلوبنا؟ وماذا لو أن أحداً توجه إلى غير هذه الجهة؟ فيأتيه الجواب هنا؛ فيقول شيخ الإسلام: "وأما بالنسبة إلينا، فإن ما تحت أرجلنا تحت لنا، وما فوق رءوسنا فوق لنا، وما ندليه من ناحية رءوسنا إلى ناحية أرجلنا نتخيل أنه هابط، فإذا قُدِّرَ أن أحدنا أدلى بحبل، كان هابطاً على ما هناك، لكن هذا تقدير ممتنع في حقنا، والمقصود به بيان إحاطة الخالق سبحانه وتعالى، كما بيَّن أنه يقبض السماوات ويطوي الأرض ونحو ذلك مما فيه بيان إحاطته بالمخلوقات -سبحانه وتعالى- ولهذا قرأ في تمام هذا الحديث : ((هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ))[الحديد:3]" ولذلك أورده الترمذي رحمه الله في كتاب التفسير من جامعه؛ عند تفسير سورة الحديد؛ يقول شيخ الإسلام: "وهذا كله على تقدير صحته، فإن الترمذي لما رواه قال: وفسره بعض أهل الحديث بأنه هبط على علم الله.
      وبعض الحلولية والاتحادية يظن أن في هذا الحديث ما يدل على قولهم الباطل، وهو أنه حال بذاته في كل مكان، وأن وجوده وجود الأمكنة ونحو ذلك" وهذه الفرقة خرجت من الدين بالكلية عافانا الله وإياكم.
      يقول: "والتحقيق أن الحديث لا يدل على شيء من ذلك إن كان ثابتاً؛ فإن قوله: (لو أدلى بحبل لهبط) يدل على أنه ليس في المدلي ولا في الحبل ولا في الدلو ولا في غير ذلك وأنها تقتضي أنه من تلك الناحية" يعني أنه ليس هو في الجهة التي يدلى بالحبل منها، وليس هو في الحبل، ولا في الدلو، ولكن لو خرق الحبل الأرضين لوقع عليه؛ فكيف يقال: إنه في كل مكان؟! فهذا الحديث نفسه لو ثبت فهو رد عليهم، فكيف يجعلونه دليلاً لهم؟!!
      يقول: "وكذلك تأويله بالعلم تأويل ظاهر الفساد؛ من جنس تأويلات الجهمية؛ بل بتقدير ثبوته يكون دالاً على الإحاطة" فالذي يقول: إنه وقع على علمه يكون قوله هذا فاسداً، من جنس تأويلات الجهمية .
      يقول: "والإحاطة قد علم أن الله قادر عليها، وعلم أنها تكون يوم القيامة؛ بالكتاب والسنة، وليس في إثباتها في الجملة ما يخالف العقل ولا الشرع، لكن لا نتكلم إلا بما نعلم، ومالا نعلمه أمسكنا عنه" وهذه هي القاعدة في صفات الله تعالى جميعاً "وما كان مقدمة دليله مشكوكاً فيها عند بعض الناس، كان حقه أن يشك فيه" من الواجب عليه أن يشك في النتيجة إذا كان لديه شك في المقدمة "حتى يتبين له الحق، وإلا فليسكت عما لا يعلم.
      وإذا تبين هذا؛ فكذلك قاصده يقصده إلى تلك الناحية، ولو فرض أنا فعلناه، لكنا قاصدين له على هذا التقدير، لكن قصدنا له بالقصد إلى تلك الجهة ممتنع في حقنا؛ لأن القصد التام الجازم يوجب طلب المقصود بحسب الإمكان.
      ولهذا قد بينا في غير هذا الموضع -لما تكلمنا على تنازع الناس في النية المجردة عن الفعل، هل يعاقب عليها أم لا يعاقب- بيَّنا أن الإرادة الجازمة توجب أن يفعل المريد ما يقدر عليه من المراد" لأن الأعضاء أصبحت في هذه الحالة طوعاً للقلب ولإرادته، لكن قد لا تستطيع أن تحقق ذلك المراد، وهذا شيء آخر "ومتى لم يفعل مقدوره، لم تكن إرادته جازمة" ومن هنا ندخل إلى سر لطيف جداً في مسألة دعوى كمال الإيمان؛ فالذين يدّعون كمال الإيمان، ولا يفعلون ما يقتضيه هذا الإيمان، ويقصرون ولو في أمر من أمور الدين، أو في شعبة من شعب الدين؛ يبطل قولهم بذلك؛ لأن الإيمان الصادق يقتضي الفعل بعده.
      يقول: "ومتى لم يفعل مقدوره، لم تكن إرادته جازمة؛ بل يكون هماً" وعلى هذا يكون هناك فرق بين العزم أو الجزم، وبين الهم؛ فأول ما تبدأ الفكرة، تكون خاطراً، ثم تتحول إلى هم، ثم تتحول إلى عزم، والعزم ينتج عنه الفعل يقول:" {ومن هم بسيئة، فلم يفعلها، لم تكتب عليه، فإن تركها لله، كتبت له حسنة}" كما جاء الحديث في ذلك.
      ثم يقول: "ولهذا وقع الفرق بين هم يوسف عليه السلام وهم امرأة العزيز؛ كما قال الإمام أحمد رحمه الله: [[الهم همان: هم خطرات، وهم إضرار]]؛ فيوسف عليه السلام هم هماً تركه لله، فأثيب عليه، وتلك همت هم إصرار، ففعلت ما قدرت عليه من تحصيل مرادها، وإن لم يحصل لها المطلوب".
      فقد دعته، وغلقت الأبواب، وقالت: هيت لك! فالهم لديها تحول إلى عزم وإلى إصرار على الفعل، وفعلت ما قدرت عليه، أما يوسف عليه السلام، فإنه لما حوصر وضيق عليه، همت نفسه بطبيعتها البشرية، وهذا شيء موجود في جميع النفوس، لكن إيمانه كبح جماح نفسه؛ فهو عليه السلام من النوع الذي همَّ بسيئة، فتركها ولم يفعلها، وكتبت له حسنة؛ فكان هو مأجوراً عليه السلام، وكانت هي مأزورة؛ لأنها أصرت وعزمت، وفعلت ما استطاعت أن تفعله، ولكن لم تقدر على إتمام الفعل المطلوب.
      يقول: "والذين قالوا: يعاقب بالإرادة، احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: {إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه أراد قتل صاحبه}، وفي رواية: {إنه كان حريصاً على قتل صاحبه}؛ فهذا أراد إرادة جازمة، وفعل ما يقدر عليه، وإن لم يدرك مطلوبه؛ فهو بمنزلة امرأة العزيز؛ فمتى كان القصد جازماً، لزم أن يفعل القاصد ما يقدر عليه من حصول المقصود؛ فإذا كان قادراً على حصول مقصوده بطريق مستقيم، امتنع مع القصد التام أن يحصله بطريق معكوس من بعيد.
      فلهذا امتنع في فعل العباد عند ضرورتهم ودعائهم لله تعالى وتمام قصدهم له ألا يتوجهوا إليه إلا توجهاً مستقيماً؛ فيتوجهوا إلى العلو دون سائر الجهات؛ لأنه الصراط المستقيم القريب، وما سواه فيه من البعد والانحراف والطول ما فيه".
      وهذا دليل الفطرة على علو الله سبحانه وتعالى، ولهذا يقول عمر رضي الله تعالى عنه : [[لو أن المسلمين حاصروا حصناً -يعني من حصون الكفار- فخرج أحد الكفار، ورفع يديه إلى السماء، فقتلوه، فله القود]] فقد يكون قصده: آمنت بالله تعالى؛ لأن هذه الإشارة إلى العلو فيها دلالة على التوحيد وإشارة إلى الإيمان وإلى معرفة الله سبحانه وتعالى؛ فالنفوس بفطرتها وطبيعتها؛ إذا أرادت أن تقصد الله وتشير إلى الله سبحانه وتعالى، فإنها دائماً تشير إلى العلو.
      يقول: "فمع القصد التام الذي هو حال الداعي العابد والسائل المضطر؛ يمتنع أن يتوجه إليه إلا إلى العلو، ويمتنع أن يتوجه إليه إلى جهة أخرى، كما يمتنع أن يدلي بحبل يهبط عليه؛ فهذا هذا، والله أعلم".
  3. تقرير الشريعة الإسلامية للفطرة السليمة في إثبات العلو

     المرفق    
    وأما من جهة الشريعة فإن الرسل صلوات الله عليهم بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها؛ لا بتبديل الفطرة وتغييرها -وهذه قاعدة عظيمة- قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء؛ هل تحسون فيها من جدعاء؟!}" البهيمة إذا نتجت بهيمة، تكون البهيمة المنتوجة جمعاء، ولا تكون جدعاء، حتى لو كان الأب والأم أجدعين، أو أحدهما أجدع،
    يقول رحمه الله: "وقال الله تعالى: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ))[الروم:30] فجاءت الشريعة في العبادة والدعاء بما يوافق الفطرة؛ بخلاف ما عليه أهل الضلال من المشركين والصابئين المتفلسفة وغيرهم؛ فإنهم غيروا الفطرة في العلم والإرادة جميعاً، وخالفوا العقل والنقل؛ كما قد بسطناه في غير هذا الموضع".
    غيروا الفطرة في العلم والإرادة، فالتوحيد نوعان: توحيد طلبي إرادي، والآخر علمي خبري؛ فالتوحيد العلمي الخبري هو توحيد الأسماء والصفات، وما أخبر الله تعالى به من أفعاله التي تقتضي معرفتها تحقيق توحيد الربوبية، فهؤلاء غيروا نوعي التوحيد: العلمي الخبري، والإرادي الطلبي، فغيروا بذلك الفطرة في العلم والإرادة؛ أما تغيير الإرادة فإنهم دعوا الناس إلى عبادة الأصنام، فلما فعلوا ذلك غيروا الإرادات؛ لأن الإرادات في الأصل تتجه إلى الله سبحانه، قال تعالى: (( أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ))[الصافات:86]؛ فهؤلاء غيروا إرادتهم وإرادة الناس، وجعلوها تتجه إلى ما عبد من دون الله، وأما تغيير العلم؛ فإن الله فطر نفوس الخلق على أنه سبحانه وتعالى فوق المخلوقات وأنه سميع بصير عليم، فجاء أولئك وقالوا: ليس هو فوق العرش، وليس له سمع ولا بصر ولا علم!! وهذا تغيير للفطرة من جهة العلم.
    إذاً: هم غيروا نوعي التوحيد: التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي، والتوحيد الإرادي الطلبي القصدي.
    يقول رحمه الله تعالى مقرراً أن الشريعة جاءت بما يوافق الفطرة: "وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فلا يبصقن قبل وجهه؛ فإن الله قبل وجهه، ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكاً، ولكن عن يساره أو تحت قدمه} وفي رواية: أنه أذن أن يبصق في ثوبه.
    وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: {ما من أحد إلا سيخلو به ربه}، فقال له أبو رزين: كيف يسعنا يا رسول الله وهو واحد ونحن جميع؟! فقال: {سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله! هذا القمر؛ آية من آيات الله؛ كلكم يراه مخلياً به} فالله أكبر.
    ومن المعلوم أن من توجه إلى القمر وخاطبه -إذا قدر أن يخاطبه- لا يتوجه إليه إلا بوجهه مع كونه فوقه؛ فهو مستقبل له بوجهه مع كونه فوقه، ومن الممتنع في الفطرة أن يستدبره ويخاطبه مع قصده التام له، وإن كان ذلك ممكناً -أي أنه واقع عقلاً لكن لا يقع فطرة- وإنما يفعل ذلك من ليس مقصوده مخاطبته؛ كما يفعل من ليس مقصوده التوجه إلى شخص بخطاب؛ فيعرض عنه بوجهه، ويخاطب غيره؛ ليسمع هو الخطاب؛ فأما مع زوال المانع، فإنما يتوجه إليه؛ فكذلك العبد؛ إذا قام إلى الصلاة، فإنه يستقبل ربه وهو فوقه، فيدعوه من تلقائه؛ لا من يمينه ولا من شماله، ويدعوه من العلو لا من السفل؛ كما إذا قُدِّرَ أنه يخاطب القمر.
    وقد ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: {لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم في الصلاة أو لا ترجع إليهم أبصارهم} واتفق العلماء على أن رفع المصلي بصره إلى السماء منهي عنه.
    وروى أحمد عن محمد بن سيرين: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع بصره في الصلاة إلى السماء، حتى أنزل الله تعالى: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ))[المؤمنون:1-2] فكان بصره صلى الله عليه وسلم لا يجاوز موضع سجوده}".
    فالأصل هو التوجه إلى الله تعالى إلى العلو حتى في الصلاة، لكن لما أمرنا بخفض البصر، اتجهت أبصارنا إلى الأرض مع بقاء التوجه القلبي إلى العلو.
    يقول: "فهذا مما جاءت به الشريعة تكميلاً للفطرة؛ لأن الداعي السائل الذي يؤمر بالخشوع، وهو الذل والسكوت -لعله السكون- لا يناسب حاله أن ينظر إلى ناحية من يدعوه ويسأله؛ بل يناسب حاله الإطراق وغض بصره أمامه".
    إذا دخل إنسان على إنسان له هيبة ومكانة، وهو يريد أن يطلب منه شيئاً، فإنه يستقبله بوجهه، لكنه ينظر إلى الأسفل؛ مع أن الذي يسأله هذا السائل المطرق قد يكون فوق كرسي مرتفعاً عن مقام سائله، ومع ذلك لا يستطيع السائل أن يرفع إليه بصره، ولله المثل الأعلى.
    يقول: "وليس نهي المصلي عن رفع بصره في الصلاة رداً على أهل الإثبات الذين يقولون: إنه على العرش؛ كما يظنه بعض جهال الجهمية -الذين أولوا صفات الله سبحانه وتعالى- فإن الجهمية عندهم لا فرق بين العرش وقعر البحر؛ فالجميع سواء" يقول صاحب المواقف - وكتاب المواقف فيه عقيدة الأشاعرة - يقول: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه... تعالى الله عن ذلك! فالذي يقول مثل هذا الكلام لا يحق له أن يعترض على استواء الله على عرشه بحديث النزول، أو بحديث: {فإن الله قبل وجهه} أو بحديث الإدلاء؛ لأن كلامه يخالف جميع هذه الأحاديث؛ فليس له وجه أن يستدل بأي حديث منها إطلاقاً؛ فهو قد خرج من المعقول والمنقول في الحقيقة.
    يقول: "ولو كان كذلك، لم ينه عن رفع البصر إلى جهة، ويؤمر برده إلى أخرى؛ لأن هذه وهذه عند الجهمية سواء.
    وأيضاً فلو كان الأمر كذلك، لكان النهي عن رفع البصر شاملاً لجميع أحوال العبد" لا في الصلاة فقط، بل يكون منهياً عنه في جميع أحوال العبد؛ لأن مقصودكم أن الله سبحانه وتعالى -كما تقولون- لا يتوجه إليه بأي جهة في جميع الأحوال، لا في الصلاة ولا في غيرها، "وقد قال تعالى: ((قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ))[البقرة:144] فليس العبد ينهى عن رفع بصره مطلقاً، وإنما نهي في الوقت الذي يؤمر فيه بالخشوع؛ لأن خفض البصر من تمام الخشوع؛ كما قال تعالى: ((خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ ))[القمر:7] وقال تعالى: ((وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ))[الشورى:45].
    وأيضاً: فلو كان النهي عن رفع البصر إلى السماء وليس في السماء إله -كما يقولون: لا داخل العالم ولا خارج العالم- لكان لا فرق بين رفعه إلى السماء ورده إلى جميع الجهات، ولو كان مقصوده أن ينهى الناس أن يعتقدوا أن الله في السماء، أو يقصدوا بقلوبهم التوجه إلى العلو، لبين لهم ذلك كما بين لهم سائر الأحكام"، بل إنه صلى الله عليه وسلم بين للناس عكس مقصود الجهمية كما في حديث الجارية التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم: {أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: أعتقها} . وفي رواية أخرى: {أعتقها فإنها مؤمنة}؛ فماذا قال المؤولون قالوا -كما قال محقق كتاب التمهيد لـابن عبد البر المطبوع مؤخراً- قال: (إن اعتقاد أن الله في السماء من عقيدة العرب في الجاهلية)، وهذا كذب وافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يقرها النبي صلى الله عليه وسلم على اعتقاد ما كان يعتقده العرب في الجاهلية؟! ويقول لمولاها عنها: {أعتقها فإنها مؤمنة}؟!!
    يقول: "ولو كان مقصوده أن ينهى الناس أن يعتقدوا أن الله في السماء، أو يقصدوا بقلوبهم التوجه إلى العلو، لبين لهم ذلك كما بين لهم سائر الأحكام"، كأن يقال: أيها الناس! إياكم أن تعتقدوا أن الله في السماء! فإن هذا ما كان عليه الجاهليون!
    "فكيف وليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ولا في قول سلف الأمة حرف واحد يذكر فيه أنه ليس الله فوق العرش، أو أنه ليس فوق السماء، أو أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا محايث له ولا مباين له، أو أنه لا يقصد العبد -إذا دعاه- العلو دون سائر الجهات؟!!" ثم كيف بذلك كله مع كثرة الآيات والأحاديث في الاستواء والعلو؟!!