ولما ذكر المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ موضوع الرؤي والعلو ناسب أن يذكر الفرقتين اللتين لهما كلام فيه، وهاتان الفرقتان هما: المعتزلة والأشعرية.
فـالمعتزلة: ينكرون الرؤية والعلو، والأشعرية يثبتون الرؤية وينكرون العلو.
فقال المعتزلة للأشعرية: مادام أنكم تنكرون العلو إذاً فلتنكروا الرؤية مثلنا.
فـالأشعرية قالوا: لا، نَحْنُ نثبت الرؤية.
فقال لهم المعتزلة: إذا أثبتم الرؤية فكيف يُرى أي شيء إلا في جهة، إذاً يلزمكم أن تثبتوا الجهة وأنتم لا تثبتون الجهة، حتى قالوا قولةً أصبحت شبيهة بالمثل،قالوا: (من أثبت الرؤية وأنكر الجهة فقد أضحك النَّاس عَلَى عقله) وهي التي نقلها المُصنِّف هنا فقَالَ: [من قَالَ: يُرى لا في جهة فليراجع عقله] ووجه ذلك أن الرائي -بغض النظر عن كون المرئي تثبت له الجهة أو لا تثبت- لا بد أنه ينظر من جهة ما، في مكان ما ينظر منه، ولا بد أن يكون المرئي في جهه ما مِنهُ، إما أمامه مباشرة، وإما فوقه، وإما عن يمينه، وإما عن شماله، المهم أنه لا بد أن هناك جهة، فالقول بأن الرؤية تقع وتكون بالعين حقيقة وبدون جهة هذا فيه مكابرة للعقل.
وقال أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ: يلزمكم أيها الأشعرية وأنتم تثبتون الرؤية أن تثبتوا العلو، وقالت المعتزلة للأشعرية: يلزمكم وأنتم تنكرون العلو أن تنكروا الرؤية، فهذه ثلاثه مذاهب:أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ يثبتون العلو ويثبتون الرؤية، وهذا هو الذي يتفق مع جميع النصوص، ومع العقل السليم والفطرة السليمة.
والمعتزلة ينكرون العلو وينكرون الرؤية.
والأشعرية يثبتون الرؤية ويقولون من غير جهة ولا مقابلة، فأصبحوا يتعاورهم الفريقان: أهل السنة يقولون: يلزمكم أن تثبتوا العلو مادمتم تثبتون الرؤية، وأما المعتزلة فقالوا لهم: ما دمتم مثلنا موافقون لنا في إنكار العلو فيلزمكم أن تنكروا الرؤية أيضاً، فينتهي حكاية كلام المعتزلة إِلَى عند قوله بغير جهة.
يقول: [ولهذا ألزم المعتزلة من نفى العلو بالذات بنفي الرؤية] وقال كلمة [بالذات]؛ لأن الأشعرية يقولون: العلو بالقهر وبالغلبة وبالسلطان وبالتمكين((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه))[الأنعام: 18] يقولون: قاهر فوقهم مثل ((أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء)) [الملك:16] يعني سلطانه وقهره وقوته، فلا يثبتون علو الذات وإنما علو القهر والغلبة والملك والتمكين، فلهذا قَالَ: (الذات) لأن الرؤية محلها أو متعلقها الذات وهذا الكلام هو عن الذات وليس عن أي شيء أخر من متعلقات الذات فهو متعلق بالرؤية فَيَقُولُ: [ألزم المعتزلة من نفى العلو بالذات نفي الرؤية] أي يلزمه أن ينفي الرؤية، [وَقَالُوا: كيف تعقل رؤية -بلا مقابلة- بغير جهة].
والمصنف -رحمه الله تعالى- قال بعد ذلك: وما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام -يعني المعتزلة ما ألزموا الأشعرية والماتريدية أيضاً وهم في ذلك تبع لهم- إلا لما وافقوهم عَلَى أنه تَعَالَى لا داخل العالم ولا خارجه، يعني لم يثبتوا له أية جهة من الجهات،
ولكن يستدرك المُصنِّف فَيَقُولُ: [لكن قول من أثبت موجوداً يُرى لا في جهة، أقرب إِلَى العقل من قول من أثبت موجوداً قائماً بنفسه لا يُرى ولا في جهة] يقول: مع هذا الإلزام القوي من المعتزلة للأشعرية إلا أن المعتزلة أبعد، فهم يثبتون ذاتاً عَلَى الحقيقة قائمة بنفسها، ومع ذلك ليست في جهة، ولا يمكن أن تُرى، وأما أُولَئِكَ فإنهم أنكروا الجهة وأثبتوا الرؤية فهم أخف منهم في هذا الجانب، وإن كَانَ من حيث العقل المجرد -بالنسبة للمعتزلة على الأقل ومن نحا نحوهم- يرون أن مذهب الأشعرية هو الذي أبعد عَلَى العقل، لكن المُصنِّف يرى أن الذي نفى الجهة ونفى الرؤية معاً أبعد في العقل من الذي أثبت أحدهما، وينتهي كلامه عن المعتزلة عند قوله: بلا مقابلة بغير جهة.