المادة كاملة    
في هذه المادة: 1- بيان شامل لمذهب أهل السنة في إثبات علو الله سبحانه وتعالى على خلقه. 2- إيضاح عظمة الله بالنسبة لسائر المخلوقات. 3- تفصيل شيخ الإسلام ابن تيمية لفوقية العرش وعلو الله عليه، مع القول بكروية الأرض والسماوات.
  1. إثبات علو الله

     المرفق    
    قال شيخ الإسلام: "وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: {أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ من اليهود، فقال: يا محمد! إن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيهزهن، فيقول: أنا الملك! أنا الملك! قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ))[الزمر:67]} ففي هذه الآية والأحاديث الصحيحة المفسرة لها، المستفيضة التي اتفق أهل العلم على صحتها وتلقيها بالقبول: ما يبين أن السماوات والأرض وما بينهما بالنسبة إلى عظمة الله تعالى أصغر من أن تكون مع قبضه لها، إلا كالشيء الصغير في يد أحدنا.. حتى يدحوها كما تدحى الكرة".
    ومما يوضح لنا مسألة علو الله سبحانه وتعالى على خلقه: هذا الكلام الذي قاله شيخ الإسلام ابن تيمية؛ أن العرش والسماوات والأرض وكل مخلوقاته سبحانه وتعالى، هي بالنسبة إليه في غاية الصغر.
    فالذين يقولون: يلزم من إثبات العلو أن يكون في جهة، وإذا كان في جهة خلت منه باقي الجهات، فلا نثبت العلو إذن، يقال لهم: إنما دخل عليكم هذا لجهلكم وقصور علمكم، وظنكم بالله تعالى غير الحق، ولأنكم لم تقدروا الله تعالى حق قدره، والله تبارك وتعالى أعظم مما ظننتموه به وأجل سبحانه وتعالى.
    ثم نقل شيخ الإسلام رحمه الله كلام الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، الذي كان نظيراً للإمام مالك رحمه الله تعالى في علمه وفقهه، وقد رد الإمام ابن الماجشون بكلامه هذا على منكري الصفات، ومن جملة كلامه قوله: "فوالله ما دلهم على عظم ما وصف به نفسه، وما تحيط به قبضته، إلا صغر نظيرها منهم عندهم؛ وأن ذلك الذي ألقي في روعهم وخلق على معرفته قلوبهم؛ فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله سميناه كما سماه، ولم نتكلف منه علم ما سواه، لا هذا ولا هذا، لا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف" وهذا من كمال فقه هذا الإمام رحمه الله.
    ثم يقول شيخ الإسلام: "وإذا كان كذلك، فإذا قدر أن المخلوقات كالكرة، وهذا قبضه لها ورميه بها، وإنما بيَّن لنا من عظمته وصف المخلوقات بالنسبة إليه ما يعقل نظيره منا" فنحن لم نر العرش، ولم نر الكرسي، ولم نعلم سعة وعظمة السماوات، ولكن قرَّبها الله تبارك وتعالى لنا، وقربها الرسول صلى الله عليه وسلم، بنظير ما نعقل، وبقدر ما نستطيع أن نتخيل أو نتصور؛ لنعرف بذلك عظمة الله سبحانه وتعالى، وهو أعظم من ذلك بكثير.
    يقول: "ثم الذي في القرآن والحديث يبين أنه إن شاء قبضها وفعل بها ما ذكر، كما يفعل ذلك في يوم القيامة، وإن شاء لم يفعل ذلك، فهو قادر على أن يقبضها ويدحوها كالكرة، وفي ذلك من الإحاطة بها ما لا يخفى، وإن شاء لم يفعل ذلك" إن شاء قبضها، وإن شاء دحاها، وإن شاء لم يقبضها ولم يدحها، فهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء.
    يقول: "وبكل حال فهو مباين لها ليس بمحايث لها" ولذلك عندما أراد علماء السنة أن يعرِّفوا صفة العلو لله قالوا: إنه سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه بذاته، بائن من خلقه.
    1. توجيه قول أهل السنة: (مستوٍ على عرشه بذاته بائن من خلقه)

      يعترض بعض الممارين، فيقول: قال الله تعالى: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] أما هؤلاء -يعني أهل السنة- فيزيدون على القرآن، ويقولون: مستوٍ على عرشه بذاته، بائن من خلقه، فما وجه هذه الزيادة؟
      نقول: لم يقصد علماؤنا رحمهم الله تعالى أن يزيدوا وصفاً ليس له أصل على ما في القرآن، وإنما أرادوا إيضاح المعنى وإزالة اللبس؛ لأن أهل البدع فسروا الألفاظ القرآنية بمعاني بدعية محتملة، والألفاظ غالباً حمالة أوجه، ولاسيما مع ضعف الناس في اللغة وقلة فهمهم لكلام العرب، فأتى العلماء بعبارات تزيل اللبس وتدفع الإيهام، وقد أشرنا سابقاً إلى كلام ابن أبي زيد رحمه الله لما قال: (وأنه على عرشه المجيد بذاته)، فأضاف (بذاته) ليقطع الطريق على المؤولين.
      وكذلك الذين أضافوا (مباين لخلقه)؛ فهم إنما أضافوا ذلك حتى لا يُلبِّس الملبس على المسلمين فيقول: هو على العرش، وفي كل مكان، وهذا سوء فهم لبعض الناس؛ قالوا: نجمع بين قوله: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] وبين قوله: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ))[الحديد:4]، فنقول: هو على العرش وفي كل مكان، وهذا فهم ضال؛ لأن الله سبحانه وتعالى بذاته فوق العرش، وفوق جميع المخلوقات، مباين لها، لكنه مع علوه قريب منهم بعلمه وبقدرته وبإحاطته سبحانه وتعالى، كما أخبر عن نفسه: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ))[ق:16] أي: أقرب بعلمه، وعلى التفسير الآخر: أقرب بملائكته، وقد سبق أن فصلنا هذا حين شرحنا قول الطحاوي رحمه الله: [وتعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات].
      والمقصود هنا أن شيخ الإسلام رحمه الله أشار إلى الرد على منكري العلو؛ لأن مسألة العلو من أهم المسائل وأعظم مسائل العقيدة هي مسألة الصفات، ومسألة القرآن، ومسألة الإيمان، ومسألة العلو -وهي من الصفات، لكنها تفرد لعظمتها. ولأنه قد كثر فيها الجدل والخلاف بين الناس، وأهل السنة -ولله الحمد- على المنهج القويم- ثم بعد ذلك تأتي مسألة القدر، وبقية المسائل كالتبع لذلك.
  2. مذاهب الفرق في العلو

     المرفق    
    1. مذهب الأشاعرة والمتكلمين في العلو

      إن الذين خالفوا في موضوع العلو انقسموا إلى مذهبين: مذهب المتكلمين والفلاسفة، وعليه أكثر الأشاعرة، وهو: أن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه، ولا أمامه ولا خلفه، ولا عن يمينه ولا عن شماله، فهم يقولون بنفي الجهات الست عن الله تعالى؛ لأن الجهة -بزعمهم- من خصائص المخلوقات، وهذا ما سيأتي الرد عليه في المقام الثالث، فهم يقولون: إنما ننفي ذلك حتى لا نكون مشبهين أو ممثلين أو مجسمين.. هكذا يظنون! وكان مما رد به عليهم شيخ الإسلام أن قال: (إن هذا وصف المعدوم)؛ إذا سألك إنسان: أين فلان؟ فقلت: لا داخل البيت ولا خارجه، فمعنى ذلك أنك تريد أن تنفي وجوده عن كل الكون، وأنه لا يوجد شخص بهذا الاسم أصلاً؛ لا داخل البيت ولا خارجه؛ ولو قلت: إنه ليس داخل البيت، لظنوا أنه خارجه، ولو قلت: إنه ليس خارج البيت، لظنوا أنه داخله، أما قولك: لا داخل البيت ولا خارجه، فإنه وصف المعدوم، وهذا -كما يقولون في فلسفتهم- رفعٌ للنقيضين، والنقيضان رفعهما محال، وكذلك إذا قلت: هو داخله وخارجه، فقد أتيت بما تحيله العقول؛ لأن اجتماع النقيضين أيضاً محال.
    2. مذهب الصوفية في العلو

      المذهب الثاني: أن الله سبحانه وتعالى في كل مكان، وهو قول بعض المتكلمين، ومال إليه أكثر الصوفية، وغلا فيه بعض الصوفية حتى قالوا: هو عين الموجودات... تعالى الله عما يصفون!
      وبهذا يعلم خطر قولهم: إن الله في كل مكان.. فهو نصف الطريق إلى قولهم: هو عين الموجودات.
      وقد بنى هؤلاء الذين قالو: (إن الله هو عين الموجودات)، على مقولتهم هذه مقولات من أشنع الكفر وأخبثه؛ فمن ذلك زعمهم أن ما قاله فرعون حين قال: (أنا ربكم الأعلى) كان كلاماً صحيحاً، وزعمهم كذلك أن من عبد الأصنام فعبادته صحيحة..! وكل عاقل يعلم بالاضطرار بطلان هذا القول؛ إذ لو كان الأمر كذلك؛ فلماذا أرسل الله الرسل وأنزل الكتب؟! فالذين يقولون هذا القول كفرتهم جميع الطوائف من معتزلة وأشعرية، فضلاً عن أهل السنة .
    3. مذهب أهل السنة والجماعة في العلو

      مذهب أهل السنة هو الحق في مسألة العلو، وهو الوسط بين من يقول: إن الله -سبحانه وتعالى- لا هو خارج العالم ولا داخله، وبين من يقول: إنه -عز وجل- في كل مكان، وهو القول الذي جاء به الكتاب والسنة، وهو أنه تعالى فوق المخلوقات بذاته، ومعهم بعلمه وقدرته سبحانه وتعالى.
  3. الأدلة العقلية للعلو

     المرفق    
    يقول رحمه الله: "ومن المعلوم أن الواحد منا -ولله المثل الأعلى- إذا كان عنده خردلة؛ إن شاء قبضها، فأحاطت بها قبضته، وإن شاء لم يقبضها؛ بل جعلها تحته؛ فهو في الحالتين مباينٌ لها" أي: ذاته خارج ذاتها، وذاتها غير ذاته، "وسواء قدر أن العرش محيط بالمخلوقات كإحاطة الكرة بما فيها، أو قيل: إنه فوقها وليس محيطاً بها؛ كوجه الأرض الذي نحن عليه بالنسبة إلى جوفها، وكالقبة بالنسبة إلى ما تحتها، أو غير ذلك؛ فعلى التقديرين يكون العرش فوق المخلوقات، والخالق سبحانه وتعالى فوقه، والعبد في توجهه إلى الله يقصد العلو دون التحت، وتمام هذا ببيان المقام الثالث" وهذا المقام لا يوجد في كلام أحد من العلماء مثله..
    يقول شيخ الإسلام رحمه الله في هذا المقام: "وهو أن نقول: لا يخلو إما أن يكون العرش كرياً كالأفلاك ويكون محيطاً بها، وإما أن يكون فوقها وليس هو كرياً" فلا بد من أحد احتمالين: إما أن يكون كروي الشكل، وإما ألا يكون كذلك، ففوقيته على المخلوقات أمر متفق عليه، لكن تختلف إحاطته بها أو نسبته إليها.
    يقول: "فإن كان الأول؛ فمن المعلوم باتفاق من يعلم هذا: أن الأفلاك مستديرة كرية الشكل، وأن الجهة العليا هي جهة المحيط، وهي المحدب،وأن الجهة السفلى هي المركز، وليس للأفلاك إلا جهتان؛ العلو والسفل فقط.
    وأما الجهات الست فهي للحيوان؛ فإن له ست جوانب؛ يؤم جهة فتكون أمامه، ويخلف أخرى فتكون خلفه، وجهة تحاذي يمينه، وجهة تحاذي شماله، وجهة تحاذي رأسه، وجهة تحاذي رجليه، وليس لهذه الجهات الست في نفسها صفة لازمة؛ بل هي بحسب النسبة والإضافة"، أي أنها أشياء نسبية.
    يقول: "فيكون يمين هذا ما يكون شمال هذا، ويكون أمام هذا ما يكون خلف هذا، ويكون فوق هذا ما يكون تحت هذا.
    لكن جهة العلو والسفل للأفلاك لا تتغير، فالمحيط هو العلو، والمركز هو السفل" معنى هذا: أن الجهات الست تكون للأحياء ولك المخلوقات التي نراها الآن على الأرض، مما شكله غير كروي، أما الشكل الكروي فليس له إلا جهتان: الجهة العليا والجهة السفلى؛ فلنفترض أن لدينا كرة، فأعلى شيء في الكرة هو السطح، فهو العلو، وأسفل شيء في الكرة هو المركز، لا الجانب الآخر من السطح؛ لأن الجانب الآخر هو أيضاً علو بالنسبة للمركز.
    إذاً جهة العلو والسفل لا تتغير بالنسبة للأفلاك، أو لأي شكل كروي، فهما جهتان فقط: علو وسفل.
    يقول: "مع أن وجه الأرض التي وضعها الله للأنام وأرساها بالجبال هو الذي عليه الناس والبهائم والشجر والنبات والجبال والأنهار الجارية -يعني وجه الأرض المعروف في زمنه- فأما الناحية الأخرى من الأرض، فالبحر محيط بها، وليس هناك شيء من الآدميين وما يتبعهم" كان حدود علمهم أن الجانب الآخر من الأرض ليس فيه شيء "ولو قدر أن هناك أحداً، لكان على ظهر الأرض ولم يكن من في هذه الجهة تحت من في هذه الجهة، ولا من في هذه تحت من في هذه" وهذا هو الواقع، فإن أمريكا لما اكتشفت، وجد فيها هنود حمر ووجد فيها حيوان، "كما أن الأفلاك محيطة بالمركز، وليس أحد جانبي الفلك تحت الآخر، ولا القطب الشمالي تحت الجنوبي، ولا بالعكس، وإن كان الشمالي هو الظاهر لنا فوق الأرض، وارتفاعه بحسب بعد الناس عن خط الاستواء، فما كان بعده عن خط الاستواء ثلاثين درجة مثلاً، كان ارتفاع القطب عنده ثلاثين درجة، وهو الذي يسمى عرض البلد، فكما أن جوانب الأرض المحيطة بها وجوانب الفلك المستديرة ليس بعضها فوق بعض ولا تحته، فكذلك من يكون على الأرض من الحيوان والنبات والأثقال لا يقال: إنه تحت أولئك، وإنما هذا خيال يتخيله الإنسان، وهو تحت إضافي؛ كما لو كانت نملة تمشي تحت سقف، فالسقف فوقها، وإن كانت رجلاها تحاذيه".
    ثم يقول: "واستدارة الأفـلاك؛ كما أنه قول أهل الهيئة والحساب، فهو الذي عليه علماء المسلمين" يعني الباحثين من المسلمين في هذا الأمر، ولا يشترط أن يكونوا من أهل السنة، فبعضهم من أهل السنة وبعضهم من غيرهم، فالقضية ليست اعتقادية؛ إنما هي قضية علمية من العلوم الطبيعية، يقول: "فهو الذي عليه علماء المسلمين؛ كما ذكره أبو الحسن بن المنادي، وأبو محمد بن حزم، وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهم؛ أنه متفق عليه بين علماء المسلمين، وقد قال تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ))[الأنبياء:33] قال ابن عباس: [[فلكة مثل فلكة المغزل]] والفلك في اللغة هو: المستدير، ومنه قولهم: (تفلك ثدي الجارية) إذا استدار، وكل من يعلم أن الأفلاك مستديرة، يعلم أن المحيط هو العالي على المركز من كل جانب".
    ثم يقول: "وإذا كان الأمر كذلك" أي: إذا اتضحت حقيقة أن المحيط هو الفوق العالي على المركز من جميع الجهات، "فإذا قُدر أن العرش مستدير محيط بالمخلوقات، كان هو أعلاها وسقفها، وهو فوقها مطلقاً، فلا يتوجه إليه وإلى ما فوقه الإنسان إلا من العلو لا من جهاته الباقية أصلاً" يعني يصبح توجه الإنسان إلى العرش من العلو توجهاً طبيعياً، لأنك تكون في هذه الحالة في المركز وتريد أن تتوجه إلى المحيط، فيكون توجهك إلى الأعلى، وهذا التوجه الطبيعي التلقائي، ولهذا لم يجد أي أحد من المخلوقين -سواء من يؤمن بالقرآن ومن لا يؤمن به، وسواء من كان من أهل السنة ومن كان من من غيرهم- لم يجد في نفسه حاجةً أن يتوجه شرقاً ولا غرباً، ولا يتصور هذا؛ فقد ترسخ في ضرورة النفوس أن الله سبحانه وتعالى فوق المخلوقات، فعلى أي وضع كنت، فالله تعالى فوقك.
    يقول: "ومن توجه إلى الفلك التاسع أو الفلك الثامن أو غيرها من الأفلاك من غير جهة العلو، كان جاهلاً باتفاق العقلاء، فكيف بالتوجه إلى العرش وإلى ما فوقه؟!" لأن الأفلاك كما يقولون: بعضها داخل بعض، فالتوجه إلى أحدها توجه إلى العلو، فكيف بالتوجه إلى ما هو سطحها وأعلاها وسقفها؟! وكيف بالتوجه إلى العرش وإلى ما فوقه؟! "وغاية ما يقدر: أن يكون كري الشكل، والله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق بجلاله؛ فإن السماوات السبع والأرض في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا، وأما قول القائل: إذا كان كرياً والله من ورائه، محيط به، بائن عنه، فما فائدة: أن العبد يتوجه إلى الله حين دعائه وعبادته، فيقصد العلو دون التحت، فلا فرق حينئذٍ وقت الدعاء بين قصد جهة العلو وغيرها من الجهات التي تحيط بالداعي؟! ومع هذا نجد في قلوبنا قصداً يطلب العلو؛ لا يلتفت يمنة ولا يسرة؛ فأخبرونا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا وقد فطرنا عليها؟".
    يقول شيخ الإسلام رداً على هذا السؤال: "فيقال له: هذا السؤال إنما ورد لتوهم المتوهم أن نصف الفلك يكون تحت الأرض وتحت ما على وجه الأرض من الآدميين والبهائم، وهذا غلط عظيم، فلو كان الفلك تحت الأرض من جهة، لكان تحتها من كل جهة" لأنه ليس هناك إلا جهتان؛ علو وسفل فقط، فالعلو السقف والسفل المركز، "فكان يلزم أن يكون الفلك تحت الأرض مطلقاً، وهذا قلب للحقائق؛ إذ الفلك هو فوق الأرض مطلقاً" باتفاق هؤلاء الباحثين، يقول: "وأهل الهيئة" وهم علماء الجغرافيا، فقد كان يطلق عليهم: أهل الهيئة (أي الشكل)، وهذه أحسن من كلمة الجغرافيا؛ لأن الجغرافيا كلمة غير عربية "وأهل الهيئة يقولون: لو أن الأرض مخروقة إلى ناحية أرجلنا، وألقي في الخرق شيء ثقيل كالحجر ونحوه، لكان ينتهي إلى المركز، حتى لو ألقي من تلك الناحية حجر آخر، لالتقيا جميعاً في المركز، ولو قدر أن إنسانين التقيا في المركز بدل الحجرين، لالتقت رجلاهما، ويكون المركز في هذه الحالة نقطة المماسة بين القدمين، ولم يكن أحدهما تحت صاحبه؛ بل كلاهما فوق المركز، وكلاهما تحت الفلك؛ كالمشرق والمغرب؛ فإنه لو قدر أن رجلاً بالمشرق في السماء أو الأرض، ورجلاً بالمغرب في السماء أو الأرض، لم يكن أحدهما تحت الآخر؛ بل كل منهما في جهة، وسواء كان رأسه أو رجلاه أو بطنه أو ظهره أو جانبه مما يلي السماء أو مما يلي الأرض" لا فرق، لأن الجهة ليست حقيقية، وإنما هي اعتبارية "وإذا كان مطلوب أحدهما ما فوق الفلك" يعني أنه يدعو من فوق العرش، وهو الله سبحانه وتعالى "لم يطلبه إلا من الجهة العليا؛ لم يطلبه من جهة رجليه أو يمينه أو يساره لوجهين:
    أحدهما: أن مطلوبه من الجهة العليا أقرب إليه من جميع الجهات، فلو قدر رجل أو ملك يصعد إلى السماء أو إلى ما فوق، كان صعوده مما يلي رأسه أقرب، إذا أمكنه ذلك، ولا يقول عاقل أنه يخرق الأرض ثم يصعد من تلك الناحية، ولا أنه يذهب يميناً أو شمالاً أو أماماً أو خلفاً... إلى حيث أمكن من الأرض، ثم يصعد؛ لأنه أي مكان ذهب إليه كان بمنزلة مكانه أو هو دونه، وكان الفلك فوقه، فيكون ذهابه إلى الجهات الخمس -غير الجهة العليا- تطويلاً وتعباً من غير فائدة، ولو أن رجلاً أراد أن يخاطب الشمس والقمر، فإنه لا يخاطبه إلاَّ من الجهة العليا؛ مع أن الشمس والقمر قد تشرق وقد تغرب، فتنحرف عن سمت الرأس؛ فكيف بمن هو فوق كل شيء دائماً لا يأفل ولا يغيب سبحانه وتعالى؟!
    ثم يقارن شيخ الإسلام الحركات الإرادية بالحركات غير الإرادية، يقول: "وكما أن الحركة -كحركة الحجر- تطلب مركزها بأقصر طريق -وهو الخط المستقيم- فالطلب الإرادي الذي يقوم بقلوب العباد كيف يعدل عن الصراط المستقيم القريب إلى طريق منحرف طويل؟!" هو أولى من الطلب غير الإرادي كطلب الحجر "والله تعالى فطر عباده على الصحة والاستقامة، إلا من اجتالته الشياطين، فأخرجته عن فطرته التي فطر عليها.
    الوجه الثاني: أنه إذا قصد السفل بلا علو كان ينتهي قصده إلى المركز، وإن قصده أمامه أو وراءه أو يمينه أو يساره من غير قصد العلو كان منتهى قصده أجزاء الهواء؛ فلا بد له من قصد العلو ضرورة، سواء قصد مع ذلك هذه الجهات أو لم يقصدها"، وهذا فيه تطويل وبعد وعكس للفطرة الصحيحة ما دام الفلك مستديراً، فإنه في هذه الحالة يقصد أجزاء الهواء؛ لأنه لا يوجد شيء في النهاية؛ لأنه لم يقصد المركز، ومن المركز تنطلق إلى العلو، فلما قصد غير المركز، ضاع في الفراغ داخل هذا الشكل المستدير، إذ لم يأخذ خطاً مستقيماً من المركز.
    ثم يقول: "ولو فرض أنه قال: أقصده من اليمين مع العلو، أو من السفل مع العلو، كان هذا بمنزلة من يقول: أريد أن أحج من المغرب ؛ فأذهب إلى خراسان، ثم أذهب إلى مكة ؛ بل بمنزلة من يقول: أصعد إلى الأفلاك، فأنزل في الأرض، ثم أصعد إلى الفلك من الناحية الأخرى، فهذا وإن كان ممكناً في المقدور -أي من الناحية العقلية- لكنه مستحيل من جهة امتناع إرادة القاصد له، وهو مخالف للفطرة، فإن القاصد يطلب مقصوده بأقرب طريق، لاسيما إذا كان مقصوده معبوده الذي يعبده ويتوكل عليه، وإذا توجه إليه على غير الصراط المستقيم كان سيره منكوساً معكوساً"، وكما أنه -في الأمور المشاهدة والحسية- يكون الطريق المستقيم هو أقرب خط يصل بين نقطتي المنطلق والهدف، فكذلك في أمور العبادة؛ قال تعالى: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ))[الأنعام:153].