المادة كاملة    
إن الله تعالى يعلم أفعال العباد جميعاً، فما يفعلونه يعلم أنهم يفعلونه، وما لا يفعلونه أو لم يفعلوه يعلم أنهم لم يفعلوه؛ فعلم الله تعالى مطابق للواقع، والواقع مطابق له. وما تقوله المعتزلة من أنه يلزم من ذلك أن يكون العبد قادراً على تغيير علم الله؛ فإنهم لم يقدروا الله حق قدره، ولا يلزم من قدرة العبد على الفعل إتيانه به، بل قد يكون قادراً ومع ذلك لم يفعل.
  1. سابق علم الله بأفعال العباد

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله:
    [فالله تعالى يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه؛ فيثيبه، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه؛ فيعذبه، فإنما يُعذبه؛ لأنه لا يفعل مع القدرة، وقد علم الله ذلك منه، ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه.
    وإذا قيل: فيلزم أن يكون العبد قادراً على تغيير علم الله؛ لأن الله علم أنه لا يفعل، فإذا قدر على الفعل قدر على تغيير علم الله.
    قيل: هذه مغالطة، وذلك أن مجرد مقدرته على الفعل لا تستلزم تغيير العلم، وإنما يظن من يظن تغيير العلم إذا وقع الفعل، ولو وقع الفعل لكان المعلوم وقوعه لا عدم وقوعه، فيمتنع أن يحصل وقوع الفعل مع علم الله بعدم وقوعه، بل إن وقع كان الله قد علم أنه يقع، وإن لم يقع كان الله قد علم أنه لا يقع، ونحن لا نعلم علم الله إلا بما يظهر، وعلم الله مطابق للواقع، فيمتنع أن يقع شيء يستلزم تغيير العلم، بل أي شيء وقع كان هو المعلوم، والعبد الذي لم يفعل لم يأت بما يغيّر العلم، بل هو قادر على فعلٍ لم يقع، ولو وقع لكان الله قد علم أنه يقع، لا أنه لا يقع.
    وإذا قيل: فمع عدم وقوعه يعلم الله أنه لا يقع، فلو قدر العبد على وقوعه قدر على تغيير العلم.
    قيل: ليس الأمر كذلك، بل العبد يقدر على وقوعه وهو لم يوقعه، ولو أوقعه لم يكن المعلوم إلا وقوعه، فمقدور العبد إذا وقع لم يكن المعلوم إلا وقوعه، وهؤلاء فرضوا وقوعه، مع العلم بعدم وقوعه! وهو فرض محال، وذلك بمنزلة من يقول: افرض وقوعه مع عدم وقوعه! وهو جمع بين النقيضين.
    فإن قيل: فإذا كان وقوعه مع علم الرب بعدم وقوعه محالاً لم يكن مقدوراً؟ قيل: لفظ المحال مجمل، وهذا ليس محالاً لعدم استطاعته له، ولا لعجزه عنه، ولا لامتناعه في نفسه، بل هو ممكن مقدور مستطاع، ولكن إذا وقع كان الله عالماً بأنه سيقع، وإذا لم يقع كان عالماً بأنه لا يقع، فإذا فرض وقوعه مع انتفاء لازم الوقوع صار محالاً من جهة إثبات الملزوم بدون لازمه، وكل الأشياء بهذا الاعتبار هي محال!
    ومما يُلزم هؤلاء: ألا يبقى أحد قادراً على شيء؛ لا الرب ولا الخلق، فإن الرب إذا علم من نفسه أنه سيفعل كذا لا يلزم من علمه ذلك انتفاء قدرته على تركه، وكذلك إذا علم من نفسه أنه لا يفعله لا يلزم منه انتفاء قدرته على فعله، فكذلك ما قدره من أفعال عباده، والله تعالى أعلم]
    اهـ.
    1. الرد على قول المعتزلة: إنه يلزم من إثبات علم الله السابق لأفعال العباد تغيير العبد لعلم الله

      إن الله سبحانه وتعالى يعلم أفعال العباد جميعاً، فما يفعلونه يعلم أنهم يفعلونه، وما لا يفعلونه أو لم يفعلوه يعلم أنهم لم يفعلوه، هذا مجمل هذه المسألة، فهو سبحانه وتعالى يعلم أن فلاناً يستطيع الفعل، وقد طلب الله تعالى منه ذلك ويعلم أنه سيفعله، ولذلك يثيبه عليه. كما يعلم أن فلاناً مستطيع أن يفعل، وأن الله طلب منه تلك الطاعة ولكنه لن يفعلها، ولذلك يجازيه بالعذاب والعقوبة؛ لأنه لم يفعل ما بإمكانه واستطاعته أن يفعله مع أمر الله تعالى له أن يفعل.
      لكن تقول المعتزلة الغلاة: إنه يلزم من هذا أن يكون العبد قادراً على تغيير علم الله، فالله تعالى يعلم أنه لن يفعل ولكن بقدرته على الفعل قد يفعل، فيغير علم الله -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- وأول ما نرد به على هؤلاء قبل أن ندخل معهم في الرد العقلي، أو بيان خطئهم وضلالهم في هذه المسألة، نبين لهم ضلالهم في تقدير الله تعالى حق قدره.
      فإن القائلين بهذا ما قدروا الله حق قدره، ولا عرفوا الله حق معرفته، ولا عظموا الله عز وجل؛ ولهذا فإن المسألة عندهم بهذا القدر من الهوان، وأنه يمكن أن يغير العبد علم الرب، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً! وسبحانه عما يصفون إلا عباد الله المخلصين. وهؤلاء ليسوا من عباد الله المخلصين، ولهذا يصفون الله سبحانه وتعالى بما لا يليق، ولا يرجون له وقاراً، ولا يقدرونه تعالى حق قدره، ومن هنا افترضوا هذه الافتراضات الباطلة؛ فإن كون العبد يقدر على أن يفعل لا يعني أنه لابد أن يفعل، وهذا شيء معلوم.
      ويمكننا أن نختصر المسألة فنقول: إن ما يفعله العباد فعلم الله تعالى به مطابق للواقع، أو إن ما يقع وما يفعله العباد مطابق لعلم الله سبحانه وتعالى، فما فعلوه فالله سبحانه وتعالى يعلم أنهم سيفعلونه، وما لم يفعلوه فالله سبحانه وتعالى يعلم أنهم لن يفعلوه، وليس هناك منافاة بين ما يقع وبين علمه سبحانه وتعالى.
      ويرد عليهم المصنف رحمه الله بقوله: [هذه مغالطة؛ وذلك أن مجرد قدرته على الفعل لا تستلزم تغيير العلم]، فمجرد أنه قادر على أن يفعل لا يعني أنه لابد أن يفعل، والله قد علم أنه لا يفعل، ويقول: [وإنما يظن من يظن تغيير العلم إذا وقع الفعل]، ومن كان هذا ظنه يقال في مثله: هذه مغالطة، والحق لو أن العبد فعل فعلاً ما، لكان المعلوم عند الله وقوعه، وإن لم يفعل العبد فالمعلوم عند الله عدم وقوعه.
      إذاً: فعلم الله تعالى مطابق للواقع، لكن نحن لا نعلم علم الله إلا بما يظهر، أمَّا قبل أن يفعل أحد شيئاً لا ندري بعلم الله عز وجل ولا نعلم الغيب؛ فمثلاً: إذا أذن المؤذن فذهب فلان وصلى، حينها علمنا أن الله سبحانه وتعالى علم ذلك، ولو لم يصل لعلمنا أن الله سبحانه وتعالى يعلم أنه لن يصلي؛ فنحن لا نعلم الغيب، ولكن من خلال ما يظهر؛ لأن ما يظهر في الواقع هو مطابق لعلمه سبحانه وتعالى، فيمتنع أن يقع شيء يلزم منه تغيير العلم؛ بل أي شيء وقع كان هو المعلوم، والعبد الذي لم يفعل لم يأت بما يغير العلم، بل هو قادر على فعل ما لم يقع لكنه لم يفعل، فالقدرة شيء والفعل شيء آخر، ولو وقع لكان الله قد علم أنه وقع لا أنه لم يقع. إذاً الواقع مطابق لعلمه تعالى، ولا إشكال في هذا والحمد لله إلا في عقولهم الضالة.
    2. تناقض المعتزلة في إنكارهم العلم

      تقول غلاة المعتزلة : فلو قدر العبد على وقوعه قدر على تغيير العلم. فيقول المصنف: إن هذا من التناقض، وليس الأمر كذلك، بل العبد يقدر على وقوعه لكنه لم يوقعه، ولو أوقعه لكان المعلوم عند الله وقوعه، لكن الشيخ رحمه الله فصّل فيها، ومن الممكن أن تختصر في جملة أو جملتين، كما في قوله رحمه الله: "وهؤلاء فرضوا وقوعه مع العلم بعدم وقوعه"، وهذا هو أصل القضية عند غلاة المعتزلة وأشباههم، قالوا: كيف لو وقع والله قد علم أنه لا يقع؟ قلنا: إن هذا فرضه محال باطل، وذلك بمنزلة من يقول: افرض وقوعه مع عدم وقوعه، فكيف يمكن أن يقال هذا؟! إن هذا من التناقض، وقد أدى بهم ذلك إلى مثل هذا التهوك والتحير، وضرب كلام الله ورسوله بعضه ببعض فيما يزعمون ويظنون؛ بل أدى ذلك إلى أن يصل غلاتهم إلى إنكار العلم بالكلية؛ بناءً على أمثال هذه النظرات الضيقة والظنون والخيالات الكاذبة، وهي ليست من العقل والأدلة المنطقية والبراهين في شيء.
      قال المصنف: [فإن قيل: فإذا كان وقوعه مع علم الرب بعدم وقوعه محالاً لم يكن مقدوراً].
      بمعنى: أي شيء يعلم الله أنه لا يقع فمحالٌ أن يقع، وهذا كلام صحيح، قالوا: إذاً ليس مقدوراً للعبد أنه يفعله، بمعنى: أنهم إما أن يجعلونا نثبت قدرة العبد، فيلزمونا بإثباتنا قدرة العبد أن نثبت أنه قادر على تغيير علم الله تبارك وتعالى، وإذا قلنا: إنه ليس مقدوراً للعبد، قالوا: ما دام أن الله سبحانه وتعالى علم عدم وقوعه فمستحيل أن يقع، إذاً العبد عاجز، وليس مقدوراً له أن يفعل، فكأنكم جبرية .
      ويرد عليهم بإيجاز كما قال الشيخ رحمه الله: "لفظ المحال مجمل"، فماذا يقصدون بمحال أو مستحيل؟ هل هو محال لأن ما كتب الله أنه لا يقع فلن يقع؟ فهذا حق، وهذا لا ينافي القدرة، أو محال غير مقدور؛ لأن العبد لا يفعل؟ فنقول: إن العبد يستطيع، ولا ملازمة بين قدرة العبد وعلم الرب، فالله سبحانه وتعالى يعلم أن العبد لن يفعل كذا مع إعطائه القدرة على أن يفعل، ويعلم أنه يفعل مع إعطائه القدرة على غير ذلك، فالقدرة موجودة عند العبد في الحالتين، فلا تلازم بين علمه تعالى وبين قدرة العبد.
      [وهذا ليس محالاً؛ لعدم استطاعته له، ولا لعجزه عنه، ولا لامتناعه في نفسه، بل هو ممكن مقدور مستطاع]، فإن أي إنسان علم الله منه أنه لن يفعل هذا الشيء سواء كان طاعة أو معصية، فإن العبد في ذاته قادر على هذا الفعل، والفعل في ذاته ليس مستحيلاً؛ بل هو مقدور مستطاع.
      [ولكن إذا وقع كان الله عالماً بأنه سيقع، وإن لم يقع كان الله عالماً بأنه لا يقع] فالقدرة موجودة سواء فعل العبد أو لم يفعل؛ فإن فعل ففي علم الله أنه سيفعل، وإن لم يفعل ففي علم الله أنه لن يفعل، بمعنى: أن العلم مطابق للواقع، أما القدرة فهي موجودة في الحالين.
      " فإذا فرض وقوعه مع انتفاء لازم الوقوع صار محالاً من جهة إثبات الملزوم بدون لازمه، وكل الأشياء بهذا الاعتبار هي محال!
      ومما يُلزم هؤلاء: ألا يبقى أحد قادراً على شيء لا الرب ولا الخلق؛ فإن الرب إذا علم من نفسه أنه سيفعل كذا لا يلزم من علمه ذلك انتفاء قدرته على تركه".
      نقول: ولو قلنا هذا الكلام أيضاً في حق الله تعالى، فإن الله تعالى له صفتا العلم والقدرة، فإذا كان سيفعل شيئاً ما، فلا يعني ذلك أنه غير قادر عليه، فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يفعل أي شيء، وقادر على أن لا يفعله سبحانه وتعالى، لكن علمه شيء وقدرته شيء آخر، كما أن علم الله تعالى شيء وقدرة العبد شيء آخر، ولا ملازمة بين هذين.
      [فإن الرب إذا علم من نفسه أنه سيفعل كذا لا يلزم من علمه ذلك انتفاء قدرته على تركه، وكذلك إذا علم من نفسه أن لا يفعله لا يلزم منه انتفاء قدرته على فعله، فكذلك ما قدره من أفعال عباده والله تعالى أعلم].
      فالله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق آدم عليه السلام يعلم أنه سيخلقه، ولن يقع إلا ما علم سبحانه وتعالى، لكن: هل يعني ذلك أنه لا يقدر على ترك الفعل؟ لا. إن القدرة موجودة، لكن الله عز وجل قدر أن الفعل يكون، وكذلك الأمر الذي يريد الله تعالى أن لا يفعله، فإن القدرة على فعله أيضاً موجودة، لكن الله عز وجل لم يشأ أو لم يرد أن يفعله "فكذلك ما قدره من أفعال عباده" إذاً: فإنه لا ملازمة بين العلم والقدرة لا في حق المخلوقين ولا في حق الخالق سبحانه وتعالى، وليس هناك دليل لا للمعتزلة القدرية ولا للجبرية .. بل يجب على الجميع أن يؤمنوا بعلمه سبحانه وتعالى، وإثبات علم الله سبحانه وتعالى لا يستلزم الجبر كما تزعم الجبرية، فإنهم يقولون: ما دام أن علمه سيقع فإن العبد مجبور.
      فعلم الله سبحانه وتعالى شيء، وقدرة العبد التي أعطاه الله عز وجل إياها شيء آخر، لكنه يعلم أنه سيفعل أو لن يفعل هذا شيء، وكذلك بالنسبة لفعله سبحانه وتعالى، فهو عز وجل يقدر أن يفعل شيئاً ما ولن يقع إلا ما علم أنه سيفعله، مع أنه عز وجل يقدر على ألا يفعل، وكذلك العبد، فلا منافاة لا في حق العبد ولا في حق الرب سبحانه وتعالى بين العلم وبين القدرة؛ لأن القدرة والاختيار شيئان يرجح بهما العبد أحد الطرفين: إما الفعل وإما عدم الفعل.. إما الطاعة وإما المعصية.
      القدرة والاختيار أعطاها الله سبحانه وتعالى للعباد جميعاً، ولولا ذلك لما كان هناك حساب ولا ثواب ولا اختبار وامتحان وابتلاء للإنسان، وإلا فهل يمكن أن نجعل حركات الإنسان الذي يتخبطه الشيطان من المس، والنائم الذي يحرك يديه ورجليه ولا يدري عن شيء من ذلك، أو المكره المرغم الذي يكره فيحرك يديه أو رجليه بالقوة.. هل يمكن أن نجعل هذه الحركات كحركات من يفعل ذلك وهو مريد مختار متعمد؟ لا. ليس هذا مثل هذا، فلا يمكن أن يكون الأمر جبراً كما تظن الجبرية، وإنما الله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان هذه الحرية وهي مناط الابتلاء والاختيار ((فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ))[الكهف:29]، فإن آمن فله الثواب، وإن كفر فله العقاب، والعقاب قد يسمى أيضاً ثواباً؛ فجزاؤه إما الجنة وإما النار، بحسب ما يختار ويعمل له.
      ويجب علينا أن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى يعلم ما سنختار، فنحن الذين اخترنا، لكن هو عز وجل يعلم ما سوف نختار، ولا منافاة بين هذا وهذا، ولا تلازم بأنه لابد إما أن نثبت القدرة للعبد فيغير علم الله، كما تقول المعتزلة -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- وإما أن نثبت علم الله فالعبد مجبور مسكين لا يقدر على شيء كما تقول الجبرية، هذا باطل وذاك باطل، والحق وسط بينهما وهو.. أن العبد لديه القدرة على الفعل وعدمه: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا))[الإنسان:30]، فإن فعل ففي علم الله أنه يفعل، وإن لم يفعل ففي علم الله أنه لا يفعل. هذا باختصار، والأمر لا يحتاج إلى إطالة أكثر من ذلك.
  2. الإيمان بالقدر وأدلته

     المرفق    
    قال الطحاوي رحمه الله:
    [وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة، والإقرار بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه: ((وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا))[الفرقان:2]، وقال تعالى: ((وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا))[الأحزاب:38] اهـ.
    قال المصنف رحمه الله:
    الإشارة إلى ما تقدم من الإيمان بالقدر وسبق علمه بالكائنات قبل خلقها، قال صلى الله عليه وسلم في جواب السائل عن الإيمان: {أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه}، وقال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: {يا عمر ! أتدري من السائل؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم} رواه مسلم .
    وقوله: "والإقرار بتوحيد الله وربوبيته"، أي: لا يتم التوحيد والإقرار بالربوبية إلا بالإيمان بصفاته تعالى، فإن من زعم خالقاً غير الله فقد أشرك، فكيف بمن يزعم أن كل أحد يخلق فعله؟! ولهذا كانت القدرية مجوسَ هذه الأمة، وأحاديثهم في السنن.
    وروى أبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم}.
    وروى أبو داود أيضاً عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لكل أمة مجوس، ومجوسُ هذه الأمة الذين يقولون: لا قَدَر، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم، وهم شيعة الدجال، وحق على الله أن يلحقهم بـالدجال }.
    وروى أبو داود أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم}.
    وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {صنفان من بني آدم ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية }.
    لكن كل أحاديث القدرية المرفوعة ضعيفة، وإنما يصح الموقوفُ منها. فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: [[القدر نظام التوحيد، فمن وحَّد الله وكذَّب بالقدر نقض تكذيبُه توحيده]]. وهذا لأن الإيمان بالقدر يتضمن الإيمان بعلم الله القديم وما أظهر من علمه بخطابه وكتابه مقادير الخلائق، وقد ضل في هذا الموضع خلائق من المشركين والصابئين والفلاسفة وغيرهم ممن ينكر علمه بالجزئيات أو بغير ذلك، فإن ذلك كله مما يدخل في التكذيب بالقدر.
    ] اهـ.
    الشرح:
    يقول المصنف رحمه الله في شرحه: "الإشارة إلى ما تقدم من الإيمان بالقدر وسبق علمه بالكائنات قبل خلقها". أي: في قوله: "وذلك من عقد الإيمان، وأصول المعرفة، والاعتراف بتوحيد الله تعالى"، إذاً: الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، ومن ذلك الإيمان بالعلم وبما بعده من المراتب، فإن هذا كله من أركان الإيمان، فهو من أصول الدين، ومن عقد الإيمان، ومن أصول المعرفة والاعتراف بتوحيد الله سبحانه وتعالى"، فمن كذب بذلك لم يكن مؤمناً ولا موحداً ولا مقراً.
    يقول: "قال صلى الله عليه وسلم في جواب السائل عن الإيمان: {أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره}، وقال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: {يا عمر ! أتدري من السائل؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم}" هذا الحديث من أعظم الأحاديث في الإسلام، والتي عليها مدار الدين كله، وله من الأهمية والمنزلة في دين الإسلام الشيء العظيم.
    1. أهمية حديث جبريل

      وهناك بعض الجوانب التي توجب العلم بهذا الحديث، وضرورة حفظه ومعرفته، وأن نحفظه لأهلنا ولأبنائنا ونعلمه الناس:
      أولاً: أن هذا الحديث اشتمل على مراتب الدين الثلاث: الإسلام، والإيمان، والإحسان، وكل مرتبة منها مذكور ومبين فيها أركانها جميعاً، ولهذا قال في آخره {هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينك}، وكلمة الدين تشمل الإسلام والإيمان والإحسان، فديننا الذي أنزله الله تبارك وتعالى هو هذه المراتب الثلاث، ويشملها هذا الحديث جميعاً، بخلاف غيره من الأحاديث؛ فإنك قد لا تجد حديثاً شملها بهذا الترتيب، وإنما هناك أحاديث فيها نوع من التداخل، فتذكر بعضاً من أركان الإسلام مع بعض من أركان الإيمان.
      ثانياً: أن هذا الحديث من آخر الأحاديث التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو قبل وفاته بنحو ثمانين ليلة -كما ورد في بعض الروايات- أي: بعد عودته من حجة الوداع، قبيل وفاته صلى الله عليه وسلم بمدة يسيرة وهذا مما يجعله شاملاً؛ لأن هناك أحاديث وردت فيها أركان الإيمان وأركان الإسلام، ولكن ليس فيها الأركان الخمسة للإسلام، أو ليس فيها الأركان الستة للإيمان؛ وذلك لأحد سببين: إما لأنها لم تكن قد فرضت كالحج مثلاً، فإن فرضه كان متأخراً، فهناك آيات وأحاديث تذكر الصلاة والصيام فقط ولا ذكر فيها للحج. وإما لأن المقام لم يكن مقام بيان لمراتب الدين جميعاً؛ بل كان لبيان بعض منها، فمثلاً: حديث وفد عبد القيس لما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: {يا رسول الله! إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام فبم تأمرنا وبم تنهانا؟ قال: آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ قال: أن تشهدوا أن لا إله إلا الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتدفعوا الخمس من المغنم} وله روايات أخرى صحيحة.
      ففي هذا الحديث أن الإيمان خصه النبي صلى الله عليه وسلم ببعض من أركان الإيمان، وبواجبات أخرى ليست مما ذكرت في حديث جبريل؛ لا من أركان الإيمان ولا من أركان الإسلام؛ إذاً اقتصار الحديث على المذكور أولاً مما يبين أن الحديث متقدم؛ لأنهم قالوا: (إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر)، وهذا يدل على أن هذا الحديث كان في وقت لم يكن الإسلام فيه قد عم جزيرة العرب، أما في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم فقد كانت جزيرة العرب قد دخلت جميعاً في الإسلام ومنها مضر، فما جاء بعد ذلك فهو أوفى وأشمل.
      ومثله حديث شعب الإيمان: {الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة}، فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الإيمان وبين شعبه، لكنه لم يفصل مراتب الدين الثلاث، ومن هنا نرى أن كل هذه الأحاديث لها فضلها وقيمتها، وهي بمجموعها تبين لنا حقيقة الإيمان ومعناه؛ لكن حديث جبريل عليه السلام يعتبر أعظمها وأبينها وأكثرها تفصيلاً.
      ثالثاً: أن جبريل عليه السلام أتى بنفسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجلس بين يديه جلسة المتعلم أمام المعلم؛ وهذا دليل على أن الأمر مهم، فلو أن إنساناً علّم آخر وفهمه كل شيء، وتأكد من ذلك، إلا أنه يريد أن يراجع معه كل ما قد قيل ليسمع الآخرون الذين يريدون أن يتعلموا، أو يجب أن يعلموا مثلما علم هذا، فالمعلم سوف يسأل هذا التلميذ أو المبلّغ فيجمل ما قد علم ثم يفصله جميعاً ليسمع الآخرون الذين يجب عليهم أن يعلموا مثل ذلك، فجاء جبريل عليه السلام وهو المعلِّم الذي كان يعلم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الشرائع وهذه الأركان، وينزل بها منجمة حسب الحوادث، ثم في الأخير يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الهيئة الغريبة، وعندما يأتي إنسان غريب فإن ذلك أدعى إلى الانتباه والنظر، فالناس يتعجبون من هذا الغريب، لماذا جاء؟! وماذا يريد؟ ونحن لم نره من قبل ولا يعرفه منا أحد؟ وذلك لأن بيئة العرب في ذلك الزمن إذا جاء إنسان مسافر -ولاسيما وهم أهل الفراسة والذكاء- يعرفون من أي قبيلة هو؛ من شكله وكلامه، وهذا مظهره يدل على أنه ليس مسافراً؛ وليس من أهل المدينة فهم معروفون، ومن العجيب أنه شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحد.. كل واحد ينظر في الآخر.. الجميع مبهوتون من هذا الذي يسأل! لأنه إنسان خارج عن المعهود من حال العرب والأعراب، والزوار والوفود الذين يأتون إلى المدينة ويسألون النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا السائل له حال تختلف كل الاختلاف عما هو معهود، ولهذا الصحابة رضوان الله تعالى عليهم تعجبوا منه؟! ثم عجبوا أكثر لما جلس جلسة السائل المتعلم المستفهم، ومع ذلك يسأله ويصدقه، قد يأتي وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويسأله ليتعلم، لكن هذا يسأله ثم يقول: صدقت، هذا شيء عجيب! {فعجبنا له يسأله ويصدقه} إذاً هذا ليس مقام المتعلم، وإنما هو مقام المعلم الذي يناقش من كان قد علمه، ويريد أن يعلم الآخرين، والنبي صلى الله عليه وسلم يبين المراد بقوله: {أتاكم يعلمكم دينكم}، ولهذا حفظ الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ذلك الموقف كما رواه عبد الله بن عمر عن أبيه عمر رضي الله عنه.
    2. حديث جبريل يرد على من أنكر القدر

      ومن المناسب أن يكون سبب تحديث ابن عمر بهذا الحديث -حديث جبريل- هو إنكار القدر؛ فقد جاء نفر من أهل العراق من التابعيين إلى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه فأخبروه -كما في رواية مسلم، وهي أكمل سياقاً من رواية البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، وليس في رواية البخاري ذكر سبب تحديث ابن عمر بذلك، وهو في مسلم وغيره- أنه ظهر عندهم قوم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف -أي: مستأنف، فليس هناك أمر سابق، وإنما الأمر مستأنف جديد، وأن كل ما يقع فهو جديد، فإذا وقع قدره الله أو علمه الله كما نعلم نحن- فقال ابن عمر رضي الله تعالى عنه: [[أخبرهم أني منهم بريء، وأنهم مني برآء]]، ثم ذكر هذا الحديث عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان التكذيب بالقدر هو السبب في تحديث هذا الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه به، والإيمان بالقدر هو أول ركن أنكره الناس من هذه الأمة، فإنهم لم ينكروا الإيمان بالله ولا بكتبه ولا برسله ولا باليوم الآخر، وإنما أنكروا القدر، ومع ذلك فإن إنكارهم للقدر يجعلهم في صفوف الكفار -لأنهم بذلك ينكرون العلم- لأن الله سبحانه وتعالى قد أقام على العلم من الأدلة ما يعرفه الناس في الجاهلية والإسلام.
    3. الرؤيا المنامية دليل على علم الله السابق لأفعال العباد

      نذكر بهذه المناسبة شيئاً مما يذكر ويكرر دائماً في علم النفس وما أشبهه، وهو يدل على علم الله سبحانه وتعالى بالأشياء قبل وقوعها، ولكن الذين لا يؤمنون بالله عز وجل لا يعلمون لذلك تفسيراً، وهو مسألة الرؤيا المنامية، فقد يرى الإنسان في المنام -سواء كان مؤمناً أم كافراً- أنه سيكون كذا وكذا، والذي يحدث أن ذلك يقع كما رأى، فهم يعجبون ويعجزون عن تفسير هذه الظاهرة، ولا يستطيع أحد أن ينكرها؛ لأنها متواترة، وربما لا يخلو إنسان إلا وقد وقعت له مؤمناً كان أو كافراً، فكيف يفسر هذا؟
      وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم رؤى للمؤمنين وللكفار، وكلها تحققت، وذلك كرؤيا يوسف عليه السلام، ورؤيا الملك -عظيم مصر- مع أنه كافر، ومن المعلوم أن رؤيا الأنبياء حق وهي من الوحي، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رؤى وتحققت، لكن هذا ليس خاصاً بهم؛ بل أي إنسان ولو كان كافراً قد يرى رؤيا ثم يصبح خائفاً فزعاً يقول: رأيت البارحة أنه ستنزل بي مصيبة أو حادث، ويقع له فيما بعد نفس ما رأى في المنام، وهذا يدل على أن الأمور مكتوبة، وأن الله سبحانه وتعالى أطلعه على ذلك الشيء لحكمة ما، ومن تلك الحكم أن يثبت بها المؤمن ويروع بها الكافر، وقد تكون سبباً لهدايته إذا أراد الله له الهداية، أو لحكم أخرى عظيمة، لكن ما يقع لا يشبه الرؤيا من جميع الوجوه، وتكون الرؤيا كأنها نموذج يشبه البروفة للمسرحية قبل أن تنفذ، فإذا وقعت تتذكر أن هذا هو الذي قد رأيت وليس شيئاً جديداً، فلولا أن هناك شيئاً مقدراً مسبقاً لما تطابق عندك هذا الذي وقع مع ما قد رأيت من قبل، فعندما يرى الإنسان مثل هذه الرؤيا، مثلاً: إنسان غائب عنك منذ سنين، ولم يخطر على بالك أنك سوف تراه، وإذ بك في المنام تراه وتكلمه، وإذا به في اليوم الثاني يأتي إليك. سبحان الله! إنه شيء يثير تعجبك!
      وهذا مما يدل على علم الله تعالى، وأنه قد يطلع العبد على أشياء مما سبق من العلم ليزداد المؤمن إيماناً، ولتقوم الحجة على الكافر، ولا يفقه ذلك إلا العالمون، ولا يقر به إلا المؤمنون بالله سبحانه وتعالى وبعلمه السابق؛ فإن كل ما سيكون فهو عند الله سبحانه وتعالى معلوم ومكتوب في اللوح المحفوظ، فإذا شاء الله أن يطلع العباد على شيء منه أطلعهم، وإن لم يشأ لم يطلعهم، وقد جفت الأقلام وطويت الصحف، والأمر قد قضي كله.
      وهذا من الأدلة على هذه المسألة، فالذين أنكروا علم الله سبحانه وتعالى أول الأمر، وظنوا أن الأمر أنف -أي: مستأنف، وليس فيما قد سبق في علم الله- هؤلاء يعتبرون كفاراً؛ لأنهم أنكروا علم الله تعالى وكفروا وكذبوا بهذا الركن من أركان الإيمان كما جاء في حديث جبريل عليه السلام.
  3. القدرية مجوس هذه الأمة

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى: "وقوله: "والإقرار بتوحيد الله وربوبيته" أي لا يتم التوحيد والإقرار بالربوبية إلا بالإيمان بصفاته تعالى، فإن من زعم خالقاً غير الله فقد أشرك، فكيف بمن يزعم أن كل أحد يخلق فعله؟!"
    علاقة القدر بالإيمان واضحة إذ إنه ركن من أركان الإيمان، أما علاقته بالربوبية فمن جهة أنه يتعلق بالمرتبة الرابعة من مراتب القدر وهي الخلق، والخلق من خصائص الربوبية، فإذا كان الإنسان يؤمن بأن الله تعالى ربه، ومعنى الرب: الخالق الرازق المحيي المميت المدبر، فالذي لا يؤمن بأنه سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد لم يؤمن بربوبيته سبحانه وتعالى، بل جعل هنالك خالقين: خالقاً لكل ما عدا أفعال العباد أو الخلق وهو الله سبحانه وتعالى، وخالقاً لأفعال العباد وهو العبد.
    وقال رحمه الله: [فإن من زعم خالقاً غير الله فقد أشرك، فكيف بمن يزعم أن كل أحد يخلق فعله؟! ولهذا كانت القدرية مجوس هذه الأمة، وأحاديثهم في السنن] ولو أن أحداً قال: كل ما في هذا الوجود فإن الله خالقه إلا الشيء الفلاني فقد خلقه فلان من الناس لكان مشركاً، فكيف بمن يجعل كل أفعال العباد مخلوقة للعباد وما عداها مخلوق للرب؟!
    وهذا مثل عقيدة المجوس الذين يعتقدون أن هناك إلهاً للنور وإلهاً للظلام، أمَّا مسألة إطلاق لقب المجوس على القدرية من أين أتى؟ وهل يصح أن يطلق هذا اللقب عليهم؟ وإذا أطلق على الروافض أنهم مجوس فمن أي باب؟ ولماذا لا يطلق على الرافضة أنهم مجوس؟ وهل هذا يصح أو لا يصح؟ نجد أن السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم قد سبقونا إلى هذا، ونقول: (السلف) لأنه لم يصح في ذلك حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي صح أحاديث موقوفة...